إن بذور البيان العربي قابلة للنماء والخصب، والعرب الذين نشأ البيان في بيئتهم وتعهّدوه في صحرائهم ونواديهم كان يُمثِّل عندهم علمًا وثقافة وحياة اجتماعية،
البيان العربي الذي نشأ ونما في جزيرة العرب على ألسنة أعراب لم يعرفوا أيّ لون من
الحضارة التي كانت سائدة في عصرهم، ثم اكتسى حُلةً جديدةً في تراكيبه ومعانيه
وصُوَره الفنية بعد مجيء الإسلام، هذا الدّين الذي حمَل للعرب والإنسانية كلها
كتابًا مرشدًا، فيه الهُدى والصلاح في آياته البينات التي جمعت كل ما يُطلَب في
البيان السامي؛ من حيث سلامة تراكيبه، وصحة معانيه، وجمال تصويره الفني؛ ثم ازداد
بهاءً بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو العربي البليغ الفصيح الذي نشأ في
بيئة الفصاحة، وكان أكثر الناس فهمًا للبيان القرآني وأحكامه وتشريعاته.
كلّ هذه العوامل اجتمعت لينشأ بيان عربيّ إسلاميّ امتزج بمعارف وعلوم الأُمَم التي
فتح العرب بلدانهم، وكان لتلك الأمم، وخاصةً في المشرق، نصيبٌ وافرٌ من المعرفة
العقلية والأدبية والفلسفية، فامتزجت تلك المعارف لتنتج أدبًا وفكرًا وعلمًا من
عقليات متعددة، وآداب متنوعة، اكتملت معالمها في الحضارة العربية التي ازدهرت في
المشرق والغرب الإسلامي.
إنَّ سكان المغرب كانوا قبل مجيء الإسلام يعيشون في ظلام دامس، وجهل شامل، لقد
تسلَّط عليهم البيزنطيون والرومان فساموهم سوء العذاب، وحرموهم من كلّ الوسائل التي
تُحسِّن أحوالهم الاجتماعية والفكرية، وما أن أطلت ألوية الإسلام عليهم حتى سارعوا
لاستقبال الفاتحين؛ لعلهم يجدون على يدهم خَلاصًا مما هم فيه من عَنتٍ وظلمٍ، وقد
بشَّرهم الفاتحون بتحقيق العدالة والمساواة، وإصلاح الأحوال الاجتماعية والفكرية،
ولذلك لم يجد الفاتحون من الأهالي مقاومة.
هذا الموقف كان له أثر كبير في سرعة اندماج الأهالي مع الفاتحين. ومن هنا لم
يَستغرب المؤرخون من وجود الاستقرار والأمن في هذا البلد في فترة وجيزة من الزمن،
هذا الاستقرار أسهم في فتح الأندلس، وظهور نهضة فكرية وأدبية وعلمية وعمرانية في
المراحل الأولى من الفتح.
سمات البيان العربي في هذا الجناح من العالم الإسلامي
إن بذور البيان العربي قابلة للنماء والخصب، والعرب الذين نشأ البيان في بيئتهم
وتعهّدوه في صحرائهم ونواديهم كان يُمثِّل عندهم علمًا وثقافة وحياة اجتماعية،
ولذلك قيل: إنه ديوانهم، فأصبح راسخًا في عقولهم، ثابتًا في قلوبهم، وانتقل معهم من
المشرق إلى الغرب الإسلامي؛ ليجد تربةً طيبةً يخضرُّ فيها ويُثمر وتعلو أغصانه
خضراءَ يانعةً، فوصفوا به رحلتهم الطويلة من أوطانهم، وما عانوا من متاعب وإحساس
بالغربة.
وفي البيئة الجديدة سنجد العربي يستعين ببيانه ليصف كل ما حوله من جبال شاهقة قد
تكلّلت بالثلوج، وسهول خصبة مخضرَّة، وأنهار جارية، وعيون متدفقة؛ إنها طبيعة جميلة
أعانته على العطاء والإبداع والوصف الذي تَستريح له النفوس؛ هذا البيان سيظهر في
حُلّة تناسب كل شيء في هذه البيئة الجديدة، لكنَّه لم يتخلَّ عن لغته الجميلة التي
اكتملت واستوت تركيبًا ومعنًى وأسلوبًا وصورًا فنية جميلة؛ لأن هذه اللغة صقلها
الإنسان العربي منذ زمن طويل قبل مجيء الإسلام، ثم زادها القرآن قوة ومتانة.
ولهذه المحاسن التي اجتمعت فيها تشبَّث بها الأهالي في هذه الديار، وبرز علماء
وكُتّاب وخطباء وشعراء وأدباء وفقهاء وقرّاء، وأصبحت البيئة عربية إسلامية في كل
مظاهرها الاجتماعية والثقافية، وأخذ الناس يتطلعون لكل ما يأتي من الشرق لاستكمال
ثقافتهم، وبذلك أصبح المغرب صورة لما كان عليه المشرق من نهضة شاملة، وأخذ يبحث عن
الصورة التي يبرز فيها نفسه، وليكون له حضور متميز في كل ما يبدع؛ فكان من نتائج
ذلك أن عرف نهضة متميزة في كل مظاهر الحياة الاجتماعية والأدبية والفكرية، وظهر فيه
شعراء أصبحت لهم مكانة في الأدب مثل الشاعر أبي عبد الله ابن حبوس الفاسي المتوفى
سنة 570هـ؛ فهذا الشاعر ملك ناصية البيان بأشعاره التي تردّدت على ألسنة الأدباء
والعلماء؛ لأنها ملأت بالحكم الرصينة والتجارب الصادقة، فمن يقرأ أشعاره يحسّ كأنه
يقرأ أشعار المتنبي الذي اشتهر بالحكم والأمثال السائرة، مثل قوله:
أقصر ظماءك في شريعة أحمد
تُسقى إذا ما شئت غير مصرد
وتَوخَّ أعطان الديانة علها
تدنيك من حوض النبي محمد
لُذ بالملة واقتبس من نورها
واسلك على نهج الهداية تهتد
وإذا رأيت الصادرين عشية
عن منهج الدين الحنيف فأورد
قالوا: بنور العقل يدرك ما ورا
ء الغيب، قلت: قدى من الدعوى قد
بالشرع يدرك كل شيء غائب
والعقل ينكر كل ما لم يشهد
من لم يُحط علمًا بغاية نفسه
وهي القريبة، من له بالأبعد؟[1]
في هذه الأبيات يردّ على الذين كانوا يزعمون أنّ كل الحقائق تُدْرَك بالعقل، وهو
عاجز عن الإحاطة بما هو كائن وموجود، فكيف يُدرك ما غاب عنه؟! كما أن هذه الأبيات
تُظهر تشبُّث المغاربة بالدين الذي أنقذَهم من الجهل، وجعلهم أُمّة العلم والبيان
والحضارة، فحُقّ لهم أن يقتبسوا من أنواره كل ما يضيء نهجهم في الحياة.
وفي أبيات أخرى تجده يُظْهِر فيها عصارة ما اكتَسبه في الحياة من تجارب وحِكَم،
ويُوصي كلّ من يريد أن يسلك سبيل النجاة بالحيطة والحذر، يقول فيها:
رد الطرق حتى توافي النميرا
فرُبّ عسير أتاح اليسيرا
وأرسل قلوصك طورًا شمالاً
وطورًا جنوبًا وطورًا دبورا
وشُنّ على غازيات البلاد
من النص والذمل جيشًا مُغِيرا
وفِّر ماء وجهك حتى تجم
وأطف السموم به والهجيرا
وطر حين أنت قوي الجنا
ح، لا عذر عندك أن لا تطيرا
ولا تقعن وأنت السلي
م حين تضاهي المهيض الكسيرا[2]
معاني هذه الأبيات هي جِماع لخبرات وتجارب تراكمت عبر السنين في ملاحظة سلوك الناس،
وفي البحث عن الطريقة المُثلى في التعامل معهم لكي يتجنّب أذاهم، كما ضمَّنها
حِكمًا رصينة تُذكّرنا بحِكَم المتنبي وأمثاله، وما دعا إليه من حذرٍ ويقظةٍ.
وشاعر آخر تميَّز شِعْره بتعدُّد الأغراض وتنوُّع المعاني وجمال الصُّور، وهو
الشاعر عمر أبو حفص الأغماتي الذي عاش في أواخر القرن السادس الهجري، توفي سنة
603هـ، فقد كان شعره نغمة عذبة في فم الزمان؛ بما وهبه الله من طبع وموهبة شعرية
ظهرت في مرحلة الطفولة، مما جعل أدباء عصره يشهدون له بالنبوغ والموهبة والنجابة،
فقد ذكروا أنه خرج مع أبيه وهو طفل إلى ضواحي مدينة فاس لاستقبال عبد المومن
الموحدي، فلقيا القاضي أبا يوسف حجاجًا الذي قال له:
أجز! وسمتك الشمس يا عمر.
وكان ذلك عند الأصيل، وقد ظهر تأثير الشمس في وجنة أبي حفص، فقال بديهة:
سمة لنا فيها عِبَر.
عرفتْ قدر الذي صنعتْ فأتتْ صفراء تعتذر.
دلت هذه الإجابة البديهية على أن هذا الطفل سيكون له شأن في الأدب، وقد كان كذلك،
بل أصبح من علماء عصره أيضًا.
ومن أشعاره التي دلت على هذا النبوغ: قوله في الغزل، وهي أبيات مُلِئَت بالعواطف
الجياشة والمشاعر اللطيفة، جاءت صادقة بدون تكلُّف، وهي قوله:
هم نظروا لواحظها فهاموا
وتشرب عقل شاربها المدام
يخاف الناس مقلتها سواها
أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باك
وتحت الشمس ينسكب الغمام
وأبصر قدها فأنوح شوقًا
على الأغصان تنتدب الحمام
وأعقب بينها في الصدر غمًّا
إذا غربت ذكاء أتى الظلام[3]
أبيات تُعبّر عن روحه الخفيفة، وطبعه الأصيل، ولم تكن المناصب التي تقلَّدها
-وكان قاضيًا- لتحجب هذه الروح المرحة في التعبير في غرض الغزل خاصة، فالشعر غلّاب
ينفجر بقوة مثل البراكين.
وشاعر آخر، وهو ابن خبازة الذي كان أعجوبة زمانه في البديهة وسلامة الطبع وصحة
المَلَكة، وكان متقدمًا في غرضي المدح والوصف، فقد أجاد فيهما إجادة كبيرة. وُلِدَ
في مدينة فاس عاصمة المغرب العلمية، وقضى فترة من حياته في مدينة إشبيلية يمدح
صاحبها، ثم عاد إلى المغرب في عصر الموحدين، ولازم الخليفة الرشيد في مراكش، وتوفي
في مدينة سلا سنة 637هـ، وقد ترجم له ابن عبدالملك المراكشي فذكر موهبته الشعرية
وقدرته على الإجادة في غرضي المدح والوصف خاصة، وحظوته عند الأمراء والخلفاء فقال:
«وقطع
مددًا من عمره في الارتسام بامتداح ملوك عصره، فكان يأتي في ذلك بما لم يُسمع
ذِكْره، ولا يُطمَع في لحاقه؛ سرعة ارتجال، وحُسْن افتنان، وبراعة إنشاء، له في ذلك
أخبار طريفة، وولّي حسبة السوق في مراكش، وتوجَّه صحبة الرشيد من بني عبد المؤمن
إلى سلا فأدركته منيته بها صدر سنة سبع وثلاثين وستمائة»[4].
ولهذا الشاعر قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي، مدح بها رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، سماها
«الميمونية»،
وهي في مضامينها وصُورها الفنية وأسلوبها الرشيق تُضاهي القصائد الكبرى التي مدح
بها الشعراء الرسول الأمين كقصيدة
«البردة»
لكعب بن زهير، وقصيدة البوصيري الشهيرة، قال عنها الناقد ابن عبد الملك المراكشي،
وقد ذكر معها قصيدتين له:
«وقد
رأيت تثليث هاتين القصيدتين بقصيدته البارعة التي نظمها في مدح سيد البشر المصطفى
محمد صلى الله عليه وسلم الميمونية؛ ليعزز جمال الرائق بكمال الفائق، ويعدل عن
مجازات المجازات إلى حقائق الحقائق، نفع الله ناظمها وراسمها ومنشدها ومستجيدها
وسامعها ومستعيدها»[5].
وأشار إليها المقري، واعتبرها من أجود قصائد المدح النبوي، وتيمَّن بذِكْرها في
ختام
«روضة
الورد»،
فقال:
«ومن
شعره -رحمه الله تعالى- هذه القصيدة الفريدة التي مدح بها المصطفى صلى الله عليه
وسلم ، وأشار إلى جملة من مناقبه الربانية، ومآثره العرفانية، وآياته الباهرة،
ومعجزاته الظاهرة؛ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف وكرَّم، ومجَّد وعظَّم، وبارَك
وأنعَم، وتحنَّن وترحَّم»[6].
جاء في مطلعها:
حقيق علينا أن نجيب المعاليا
لنُفني في مدح الحبيب المعانيا
ومن أبياتها البديعة قوله في معجزاته -عليه السلام- التي تحدت الزمان والمكان،
وأعظمها كتاب الله الذي أعجز العرب البلغاء:
وآياته جلَّت عن العدّ كثرةً
فما تبلغ الأقوال منها تناهيا
وأعظمها الوحي الذي خصَّه به
فبلغ عنه أمرًا فيه ناهيا
تحدّى به أهل البيان بأَسْرهم
فكلّهم ألفاه بالعجز وانيا
وجاء به وحيًا صريحًا يزيده
مرور الليالي جدة وتعاليا
تضمّن أحكام الوجود بأَسْرها
وحكم القضاء مثبتًا فيه نافيا
وما كتبت يمناه قط صحيفة
ولا رُئِيَ يومًا للصحائف تاليا
عليه سلام الله لا زال رائحا
عليه مدى الأيام منا وغاديا
تلكم نماذج من الأشعار التي نظمها شعراء مغاربة، دلَّت على ما بلغ البيان العربي من
سُمُوّ في الأغراض والمعاني والصور الفنية البديعة في المغرب الأقصى، هذا البيان
الذي نشأ في بيئة صحراوية قاحلة، لكنَّه استطاع أن يُصوّر حياة الإنسان العربي في
السِّلْم والحرب، وفي المسرَّات والأحزان، ثم زاده كتاب الله وأقوال الرسول -عليه
السلام- قوةً وجمالاً في تراكيبه ومعانيه وصوره الفنية، وأصبحت اللغة العربية لغة
الأدب والعلم، ولم تُصَب بالجمود والضعف بفضل كتاب الله وتراث العرب الشعري والنثري
برغم مرور هذه القرون العديدة.
[1] الذيل والتكملة 1/ 295- 296.
[2] المصدر نفسه 1/ 297.
[3] المصدر نفسه 2/ 223.
[4] المصدر نفسه 2/ 400.
[5] المصدر نفسه 2/ 294 - 295.
[6] أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض 2/ 383- 384. وقد درست مضامين هذه القصيدة
في كتابي
«السيرة
النبوية في شعر المدح»
نموذج
«القصيدة
الميمونية»
لابن خبازة: دراسة وتحليل، صدر سنة 2018م.