معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أشار إلى أن التفاؤل محدود بشأن مستقبل الحالة السياسية في ليبيا؛ لأن التصارع الدولي هناك أصبح تكتيكيًّا، ولم يعد كما كان عسكريًّا،
في أغسطس 2022م تم إسقاط طائرة استطلاع أمريكية فوق مدينة بنغازي الليبية الخاضعة
لسيطرة مليشيات عسكرية يقودها القائد العسكري خليفة حفتر، هذا الحدث بحسب الترجيحات
الأمريكية تم بفعل أنظمة عسكرية روسية تتمركز في قاعدة بنينا العسكرية، ويشير بصورة
واضحة إلى أن الاستراتيجية الأمريكية لم تكن مُعلَنَة وواضحة في ليبيا بعكس
تحرُّكات موسكو هناك.
في مقابلة مع قناة فوكس نيوز؛ صرّح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أن أسوأ
خطأ ارتكبه كان يتعلق بالهجوم الذي شنَّه الناتو على النظام الليبي عام 2011م. يقول
أوباما:
«لقد
قلَّل شركاؤنا الأوروبيون من أهمية أن يكون هناك تدخُّل كامل بعد رحيل القذافي».
وباعتراف صريح لمجلة أتلنتيك الأمريكية أكَّد فشل التدخل الأمريكي في ليبيا.
في 23 يونيو 2021م عُقد مؤتمر برلين؛ في محاولة دولية لإنهاء النزاع على السلطة في
ليبيا، وتم اقتراح مجموعة من المتطلبات السياسية التي ينبغي الجلوس على مائدة ليبية
واحدة وتطبيقها لتحريك العَجلة السياسية عقب فشل تحالف حفتر في السيطرة على العاصمة
طرابلس عام 2019م، وقد شارك في المؤتمر 75 ممثلًا عن القوى السياسية الليبية.
وشدَّد هذا المؤتمر على إجراء انتخابات وطنية في أواخر ديسمبر 2021م لإيجاد حكومة
بديلة عن حكومة عبدالحميد الدبيبة، وإخراج القوات الأجنبية من ليبيا، وخاصةً القوات
التركية ومجموعة الفاغنر الروسية.
لكنَّ الواقع الدولي الذي يُراد فَرْضه على ليبيا يُشبه إلى حدّ كبير وضع
«مَرْهَم»
على جُرح كبير في الجسد الليبي الذي تُنْهِكه الانقسامات العسكرية والصراعات
السياسية بين الجماعات المسلحة في الغرب وفي الشرق. فالأنماط السياسية القائمة منذ
فترة طويلة تعتمد بصورة كبيرة على المحسوبية، وفي حال تنظيم أيّ انتخابات مُقبِلَة
سيكون نتيجتها خروج تحالفات جديدة لا تختلف كثيرًا عن سابقتها، بل ربما تزيد التوتر
وتؤدي إلى إشعال حرب جديدة.
يفقد الروس الثقة تمامًا في خليفة حفتر كشريك طويل الأجل؛ رغم مساندتهم له طوال
فترة الهجوم على طرابلس، فهو في نَظرهم لا يزال رجل واشنطن الأول. وبصورة أخرى فإن
حفتر كمواطن أمريكي هو عقبة أمام طموحاته السياسية، وهذا الأمر كان أحد أسباب فشل
الانتخابات التي كان من المقرّر إجراؤها في ديسمبر 2021م، الأمر الآخر الذي يجعل
الروس أقل ثقة بالرهان على حفتر كحليف سياسي قويّ في ليبيا؛ هي حالته الصحية التي
جعلت الكثيرين يتوقعون خلافة نَجله صدام حفتر لقيادة المليشيات العسكرية التي
يَقودها أبوه، لكنَّ النزاع على المنصب بين صدام وأخيه بلقاسم، والخلافات التي بدأت
تظهر على السطح بينهما؛ قد تُنْهي مستقبلهما السياسي سريعًا، رغم محاولة حفتر
المتواصلة لتعزيز حضوره الشعبي عبر وسائل الإعلام والأجهزة الأمنية والحواضن
القبلية والمجتمعية، ومحاولاته جمع شيوخ بعض القبائل في برقة لمبايعة نجله صدام
قائدًا لجيشه.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أشار إلى أن التفاؤل محدود بشأن مستقبل الحالة
السياسية في ليبيا؛ لأن التصارع الدولي هناك أصبح تكتيكيًّا، ولم يعد كما كان
عسكريًّا، فالولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن تظهر في موقف بعيد عن التحالف
مع حفتر بعكس سلفه دونالد ترامب، وهي بصورة أو بأخرى تبحث عن اختراقات انتقائية
للحفاظ على مصالحها. لذلك تَضغط واشنطن على حلفاء حفتر مثل الإمارات ومصر لوقف
الدعم العسكري عنه بهدف إجباره على التخلّي عن تحالفه مع موسكو وإخراج مجموعات
فاغنر من ليبيا.
كما تسعى واشنطن إلى إنجاح وقف إطلاق النار من خلال رعاية اللجنة العسكرية المعروفة
باسم 5+5 التي تشرف على تنفيذ التفاهمات الأمنية بين الطرفين؛ بغية التوصل لهيكل
أمني مُوحّد لليبيا؛ لذلك أقدمت واشنطن على إعادة فتح سفارتها في العاصمة الليبية
طرابلس بعد أكثر من نصف عقد من الإغلاق.
كما أوفدت واشنطن مدير وكالة المخابرات المركزية لعقد اجتماعات مع رئيس الوزراء
عبدالحميد الدبيبة وكذلك خليفة حفتر، وركّزت تلك الاجتماعات على طرد القوات الروسية
التي قدَّرت القيادة الأمريكية في (أفريكوم) عددهم بأنهم 2000 مقاتل موجودون في
ليبيا. بالإضافة إلى ملف الطاقة الذي أصبح هاجسًا أمريكيًّا عقب الحرب في أوكرانيا،
وبحسب تقارير أمريكية؛ فإن أنشطة مجموعات فاغنر تتركز حول المنشآت النفطية في وسط
ليبيا، وهم يحاولون إثبات قدرة موسكو على التأثير في أمن واردات الطاقة الأوروبية
القادمة من ليبيا.
منذ أكتوبر 2020م؛ حيث تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عقب فشل حفتر في اقتحام
طرابلس؛ وأعادت قوات الفاغنر الروسية انتشارها بكامل أسلحتها وعتادها في محيط حقول
النفط والبنية التحتية، وعقب ذلك فرض حصار على صادرات النفط الليبية بذرائع مختلفة؛
صنعها حفتر لإحكام سيطرته في ظاهرها، لكنَّ واشنطن فسَّرتها على أنها محاولة روسية
للإضرار بمصالح الولايات المتحدة، وخنق واردات النفط إلى أوروبا في النصف الأول من
العام 2022م. لذلك ترى واشنطن أن الحضور العسكري التركي في غرب ليبيا يَصنع حاليًا
نوعًا من التوازن في القوة العسكرية الموجودة في ليبيا، وهذا الأمر تَرك مساحة
للمناورة لرئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة ومنافسه -المدعوم من حفتر- فتحي
باشاغا؛ اللذين يحاولان الابتعاد عن التأثير الروسي في بنغازي.
يُفسَّر التدخل الأمريكي الدَّسِم في الفترة الأخيرة على أنه ردّة فِعْل تُجَنِّب
مصالحها أضرارًا جيوسياسية قد تنعكس على طول الجناح الجنوبي لحلف الناتو؛ حيث أصبح
الوجود الروسي يُمثِّل تهديدًا مباشرًا عقب محاولات موسكو المتواصلة تعزيز انتشارها
العسكري في العمق الإفريقي.
ما يَعيب التدخل الأمريكي هو أن واشنطن تسعى إلى إيجاد حلول لمشاكلها الاقتصادية
والأمنية من خلال إقصاء روسيا وليس إيجاد حل سياسي شامل في ليبيا يضمن تحقيق
استقرار سياسي في البلاد، فهي تُركّز فقط على محاولة التدقيق في الأموال التي
يُديرها البنك المركزي الليبي، والسيطرة عليها، وتجفيف منابع التمويل التي قد
تَستفيد منها موسكو كأحد أهم القضايا التي تُوليها واشنطن أهميةً.
أما القضية الأخرى فهي ملف الجماعات الجهادية التي ترى واشنطن أن أيّ استقرار سياسي
في ليبيا قد يخدم حضورها، وبالتالي ستُصبح تهديدًا بديلًا عن التهديد الروسي
لنفوذها في البحر المتوسط. بالإضافة إلى ملف النفط الذي يجعل ليبيا مؤثرًا فعليًّا
في إمدادات الطاقة الأوروبية؛ لذلك يمكن أن يكون التدخل الأمريكي انتقائيًّا يُحاول
إحداث توازن بين الضغوط التي تتعرّض لها واشنطن بسبب عمليات تمويل الحرب
الأوكرانية، وكذلك محاولة حرمان روسيا من فتح مناطق ضغط جديدة في محيط تأثيرها
ووجود مصالحها.