• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التدبر المنهاج الرباني لقراءة القرآن

إن التَّدبُّر من أشرف الأعمال العلمية وأجلّها وأوضحها سبيلاً لمعرفة أصول الدين؛ إذ الغاية من إنزال القرآن المجيد هي أن يتدبَّر الناس آياته ويفهموها ويعملوا بها.


إن القرآن العظيم مجموع كلي من الآيات الكريمات الدالة على الطريق الموصِّل إلى الله - عز وجل -، وهي في حاجة إلى مَن يتدبرها ويُبصرها. ومن هاهنا وصف الحق -سبحانه- القرآن بأنه بصائر: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].

والبصائر: جمع بصيرة، وهي الآية التي تُبَصِّرُ الناس حقائق الوجود، ومعالم تدلّهم على الصراط السالك إلى الله تعالى، عند تعدُّد السبل السالكة إلى غيره.

ولما كان الإبصار نتيجةً طبيعية للتدبر، كانت الآيات صارمةً في وجوب التَّدبُّر والعمل وفق منهاج الله -تعالى- المُنزَّل في كتابه العزيز وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

وتدبُّر آيات القرآن هو النظر في مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ وذلك بأن يقرأ المتدبِّر الآية الكريمة من كتاب الله -تعالى-، فيتأمل إن كانت متعلقة بالنفس، وينظر إلى موقعها في نفسه، وآثارها على قلبه وعمله. ويحاول بذلك أن يقرأ سيرته وسلوكه في ضوئها، باعتبارها مقياسًا لوزن سيرته وسلوكه في ضوئها، وباعتبارها مقياسًا لوزن نفسه وتقويمها، ومعالجة أدوائه بدوائها، ويستشفي بوصفاتها.

على أن التَّدبُّر الذي هو المنهاج الرباني لقراءة القرآن، يُحيل المؤمن على التفكر الذي هو المنهاج الرباني لقراءة الكون: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191].

فيكون كل متدبر للقرآن متفكرًا في الكون. إذ يكشف التَّدبُّر حقائق الآيات القرآنية، ويكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك، مثل شُعاع الشمس المُسلَّط على الأشياء، فَتُرَى تلك الأشياء واضحة في النهار، قد أبصرها المتدبرون المتفكرون، وكانت لهم فيها مشاهدات ودروس وعِبَر ليست لغيرهم، تُمكِّنهم من الإقبال على الله والتزود للدار الآخرة بقلوبهم وجوارحهم. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]. وقال عز من قائل: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

إن التَّدبُّر من أشرف الأعمال العلمية وأجلّها وأوضحها سبيلاً لمعرفة أصول الدين؛ إذ الغاية من إنزال القرآن المجيد هي أن يتدبَّر الناس آياته ويفهموها ويعملوا بها. فوراء التَّدبُّر غرض التَّذكُّر والتأمل والعظة، والعمل بموجب العلم.

ولتدبُّر القرآن والتأثر به، لا بد من اتخاذ مجموعة من الخطوات المنهجية تفيد في قطف ثمرات التَّدبُّر، وهي: فهم معانيه، والتزام أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده.

على أن القرآن الكريم كتاب مبارك، كثير الخير والمنافع؛ فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغَّب فيه، وذكر الحِكَم والمصالح التي تحثّ عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذَّر منه، وذكر الأسباب المنفِّرة عن فِعْله، وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة.

ولأجل ذلك يجب على المؤمنين أن يجعلوه إمامًا يعملون بما فيه، فيتَّبعون حلاله، ويُحرِّمون حرامه، ولا يتعدون حدوده؛ إذ أمرهم الله -جل ذِكْره- باتباع ما جاء فيه من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام. فمن اتَّبعه قادَه إلى السعادة والكمال في الدارين.

ذلك أن أكبر سبب لنَيْل رحمة الله -تعالى-: اتباع هذا الكتاب العزيز عِلْمًا وعملاً، وبناء أصول الدين وفروعه عليه.

وللأسف الشديد، نجد كثيرًا من المثقفين وطلاب العلم في عصرنا هذا يهجرون حفظ القرآن عن ظهر قلب، وفهم معانيه، والتفقه فيه إلى التخصص في علوم أخرى والعناية بكثير من الجزئيات فيها. بينما كان الأجدر والأنفع بالنسبة إليهم أن يهتموا بحفظ القرآن عن ظهر قلب، ودراسة علومه، وفهم معانيه عن طريق كتب التفسير، وتدبُّره والعمل به، ثم يتَّجهون بعد ذلك إلى التخصصات الشرعية الأخرى؛ كعلوم الحديث والفقه وأصول الفقه؛ ليتبحّروا فيها.

فتجد أحدهم لا يحفظ عن ظهر قلب من القرآن إلا قصار السور ونحوها، ومع ذلك لا يفهمها ولا يتدبرها ولا يعمل بها. وتجد عنده جرأة عجيبة في الاهتمام بعلوم كالجرح والتعديل وأصول الفقه وعلوم اللغة ونحوها. فهؤلاء لم يستوعبوا التصوُّر الصحيح لمنهج التربية والتعليم الذي رسمه القرآن والسنة للمسلمين، خاصة لطالبي العلم منهم.

وفي الختام؛ أيها القارئ اللبيب: إن القرآن الكريم ذلك الكتاب الكوني العظيم، هو دستورك ومنهاجك لحركة الحياة، فاقرأه ببصيرة وتدبُّر؛ إذ وراء كل كلمة فيه حكمة بالغة، وسرّ من أسرار السماوات والأرض، ورصيد ضخم من الواقع في الدنيا والآخرة، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتح نفسك السائرة حتمًا نحو نهايتها، فافهم معانيه وتدبَّرها، واعمل بما أمرك به، واترك ما نهاك عنه، تَنَل الحياة الطيبة في الدنيا، وتقطف ثمار الحياة الأبدية في الآخرة، والله -تعالى- ولي التوفيق، وبه نستعين جلَّ في علاه.

 


أعلى