أسرفت اقتصاديات دول المنطقة في الاعتماد على الاقتصاد الريعي، رغم المخاطر التي تعرّضت لها هذه الاقتصاديات نتيجة تقلبات الاقتصاد العالمي، فلا يزال النفط الخام يمثل عصب الاقتصاد العرب
نتائج مسح المؤشر العربي لعام 2022م، التي أُعلنت مؤخرًا تضمّنت نتائج تعكس حجم
الأوضاع الاقتصادية المتراجعة في المنطقة؛ فالمسح الذي ضم 33.3 ألف فرد، أتى في
مقدمة نتائجه: أن 52%
ممن شاركوا في المسح ينظرون لأوضاع بلدانهم بشكل سلبيّ؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية
المتراجعة. وأن 28% ممن شاركوا في المسح يرغبون في الهجرة الخارجية لتحسين
أوضاعهم الاقتصادية، وهناك 16% يرغبون في الهجرة من أجل التعليم، و11%
يرغبون في الهجرة بسبب الأوضاع السياسية والأمنية.
مظاهر الأزمة
من الصعب أن نعتبر اقتصاديات الدول العربية في مستوى واحد على صعيد المؤشرات
الاقتصادية الكلية، أو على صعيد الوضع الاقتصادي المعيش لأفراد مجتمع كلّ دولةٍ؛
فحسب تصنيف منظمة الإسكوا في مسحها السنوي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة
العربية؛ هناك سمات اقتصادية تجمع بعض الدول العربية في تصنيف واحد يختلف عن بقية
الدول؛ فهناك دول مجلس التعاون الخليجي، والدول العربية متوسطة الدخل، والدول
العربية التي تعاني من الصراعات المسلحة، وهناك الدول العربية الأقل نموًّا.
ومن هنا كان تأثير أزمتي جائحة فيروس كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا على الدول
العربية متفاوتًا من مجموعة لأخرى، فضلًا عن أن هناك حزمة من المشكلات الاقتصادية
التي كانت اقتصاديات دول المنطقة تعاني منها، وخاصةً الدول غير النفطية؛ مثل:
المديونية العامة، وعجز ميزان المدفوعات، واتساع رقعة الفقر؛ حيث ذهبت تقديرات
منظمة
«الإسكوا»
إلى أن عدد الفقراء بالمنطقة العربية خلال عام 2022م وصل إلى 130 مليون فرد، وبما
يعادل ثلث سكان الدول العربية (باستثناء دول الخليج وليبيا)، وتتوقع المنظمة أن
ترتفع نسبة الفقر إلى 36% من السكان في عام 2024م.
والأزمة الاقتصادية للدول العربية، لها مظاهر متعددة، تختلف باختلاف حدة الأزمة في
كل دولة، ويمكن أن نشير إلى مظاهر هذه الأزمة فيما يلي:
- مع بدايات عام 2023م، تستمر معاناة عملات بعض الدول العربية بشكل كبير؛ من حيث
انخفاض قيمتها أمام العملات الأجنبية (لبنان، سورية، اليمن، مصر، العراق)، وأدَّى
ذلك إلى تفاقم معدلات التضخم، واتساع رُقعة الفقر بتلك البلدان، واقتصر تفكير
القائمين على الإدارة الاقتصادية لهذه البلدان على الذهاب لصندوق النقد الدولي،
للوصول إلى اتفاقيات بشأن الحصول على قروض، وينضم لتلك البلدان في اللجوء لصندوق
النقد الدولي: الأردن وتونس والمغرب.
- وحسب بيانات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار؛ فإن الدَّين الخارجي للدول العربية
ارتفع بنهاية عام 2022م إلى 1.84 تريليون دولار، وتصل نسبة الدَّين الخارجي للناتج
المحلي الإجمالي 53.6%، كما أن البطالة قُدِّرت بنفس العام بنسبة 12%، وهو ثاني
أعلى معدل للبطالة بين أقاليم العالم؛ حيث يأتي إقليم افريقيا جنوب الصحراء في
المرتبة الأولى، ثم المنطقة العربية في المرتبة الثانية. كما ارتفع معدل التضخم في
المتوسط لدول المنطقة العربية خلال نفس الفترة إلى 9.4%.
- ولم تكن اقتصاديات الدول العربية قبل أزمتي جائحة فيروس كورونا وأزمة الحرب
الروسية على أوكرانيا على ما يُرَام، ولكنَّ الأزمتين كانتا كاشفتين لضعف البنى
الاقتصادية داخل المنطقة العربية، فعلى سبيل المثال يذهب تقرير لمنظمة الإسكوا عن
مخاطر ومسارات الأمن الغذائي في العالم العربي، إلى أن 116 مليون نسمة (27% من سكان
المنطقة) كانوا يعانون من انعدام الأمن الغذائي قبل جائحة كورونا. وعلى صعيد آخر
فإن غياب المشروع الإقليمي العربي، الذي كان وجوده يساعد على مواجهة التقلبات
الاقتصادية الدولية، ويقلل بشكلٍ كبيرٍ من الخسائر التي مُنِيَت بها اقتصاديات
المنطقة.
أسباب الأزمة
تتعدَّد أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية بالمنطقة العربية، فمنها ما هو متعلّق
بأسباب خارجية والتي تمثلت في الأزمات الاقتصادية الدولية، ومنها ما هو قائم لأسباب
داخلية، على رأسها سُوء الإدارة الاقتصادية والفساد، وكذلك عدم الاستقرار السياسي
والأمني. بالإضافة إلى ذلك فإن من أبرز أسباب الأزمة ما يلي:
- يُعدّ غياب الاستقرار السياسي والأمني، أحد أهم أسباب تأزُّم اقتصاديات المنطقة
العربية، ففي ظل استمرار عدم الاستقرار السياسي والأمني، يسعى كثير من الأفراد
للهجرة خارج دولهم؛ بحثًا عن الأمن والاستقرار. ويذكر تقرير
«حالة
الهجرة الدولية في المنطقة العربية لعام 2021م»،
أن 32.8 مليون إنسان هاجروا أو اضطروا للنزوح من المنطقة العربية، بينما مكَث منهم
44% في المنطقة. ويكفي أن النزاعات المسلَّحة داخل بعض الدول العربية مستمرة لقرابة
عقد من الزمن، وتعد المنطقة واحدة من أكبر مناطق العالم إنفاقًا على التسليح.
- رداءة السياسات الاقتصادية، واضحة البيان؛ إذ تستمر السياسات الاقتصادية تعتمد
على المسكنات، ولا تدخل في إطار الحلول الجذرية لما تعانيه المنطقة من مشكلات، فعلى
سبيل المثال، تعتمد المنطقة بشكل كبير على استيراد الغذاء، وتقدر الفجوة الغذائية
فيها بنحو 44 مليار دولار حسب إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2022م،
ومع ذلك لا تستنهض السياسات الاقتصادية مقومات الاستثمار في القطاع الزراعي لتقليص
هذه الفجوة، رغم مخاطر انعدام الأمن الغذائي بالمنطقة، ومرور الاقتصاد العالمي أكثر
من مرة بأزمة في قطاع الغذاء، ينتج عنها ارتفاع معدلات التضخم، وتعرُّض الاقتصاديات
العربية لتداعيات اقتصادية واجتماعية سلبية.
- لا زالت قضية التعليم لا تُمثِّل محور اهتمام صانع التنمية في المنطقة العربية،
فنسبة الأمية بين البالغين (أكبر من 15 عامًا) بلغت 24.6%، وهي الأعلى بين أقاليم
العالم بعد إقليم افريقيا جنوب الصحراء. وزيادة رقعة الأُمّية بين المواطنين العرب
ترتفع آثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية، من انخفاض إنتاجية العامل العربي
مقارنة بغيره من باقي أقاليم العالم، كما أن صادرات المنطقة العربية من المنتجات
ذات التكنولوجية المتقدمة شديدة التواضع، فأرقام قاعدة بيانات البنك الدولي تُوضّح
أن نصيب العالم العربي من السلع ذات التكنولوجيا المتقدمة 2.8 مليار دولار في عام
2017م.
واللافت للنظر أن أرقام هذا المؤشر في قاعدة بيانات البنك الدولي لغالبية دول
ومناطق العالم تخصّ عام 2021م، بينما الأرقام المتعلقة بالعالم العربي متوقفة عند
عام 2017م، ولذلك دلالة سلبية؛ من حيث تأخر تقديم البيانات والإحصاءات الخاصة
بالمنطقة، وهي لفتة تعكس مدى عدم اهتمام حكومات المنطقة بالأبعاد العلمية
والتعليمية. وفي الوقت الذي تشهد فيه الساحة الدولية حرب تكسير عظام في مجال
الرقائق الدقيقة، لا تسمع للاقتصاديات العربية همسًا في هذا الصراع، كما أن مجال
الذكاء الاصطناعي يغزو العالم بقوة، بينما الدول العربية لا تزال تعاني من أُمّية
القراءة والكتابة!!
- أسرفت اقتصاديات دول المنطقة في الاعتماد على الاقتصاد الريعي، رغم المخاطر التي
تعرّضت لها هذه الاقتصاديات نتيجة تقلبات الاقتصاد العالمي، فلا يزال النفط الخام
يمثل عصب الاقتصاد العربي، وتؤثر أسعار النفط في السوق الدولية صعودًا وهبوطًا، على
قيمة الناتج المحلي ومعدلات نموّه في المنطقة العربية، كما أنها تؤدي بشكل كبير إلى
اختلال ميزان الثروة بين دول المنطقة؛ فتقديرات منظمة الإسكوا تبين أن أغنى 10% من
سكان المنطقة يمتلكون 80% من الثروة. وعلى الجانب الآخر فإن عدة دول عربية تعوّل
بشكل كبير على إيرادات قطاع السياحة، كأحد أهم مصادر النقد الأجنبي، مثل مصر وتونس
والمغرب ولبنان، ورأينا كيف تأثرت هذه الاقتصاديات سلبيًا في ظل الحرب الروسية على
أوكرانيا، بسبب تراجع التدفق السياحي من هاتين الدولتين.
- كما أن غياب الرقابة والمحاسبة فيما يخص المال العام وتوزيع الثروة، أدَّى إلى
تفاقم الأزمة الاقتصادية في المنطقة العربية؛ فالبرلمانات العربية، معظمها أتَى
بانتخابات صورية، أو دون مشاركة حقيقية للقاعدة العريضة من الناخبين. ولذلك لا
تُسهم هذه البرلمانات في محاسبة السلطة التنفيذية بالشكل الذي تُوجبه الواجبات
البرلمانية، وبما يحافظ على شفافية الأداء الحكومي، وحُسْن أداء السياسات
الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك نجد معظم الدول العربية لديها ترتيب متأخر على مؤشر
الشفافية الدولية لعام 2022م، فمثلًا حصلت كلّ من مصر وجيبوتي وموريتانيا على 30
درجة من 100 درجة، وكانت دول الصراع في ذيل قائمة المؤشر (الصومال 12 درجة، سورية
13 درجة، اليمن 16 درجة، ليبيا 17 درجة، السودان 22 درجة، العراق 23 درجة).
- أيضًا ساهمت الأزمات الدولية في الضغط على المُقدّرات الاقتصادية العربية، كما
حدث في أزمة جائحة فيروس كورونا، والحرب الروسية على أوكرانيا، وإن كانت الآثار في
الأزمتين متعدّدة الجوانب، واختلفت من دولة إلى أخرى، ففي حين أثَّرت أزمة كورونا
سلبيًّا على جميع الدول العربية، إلا أن الحرب الروسية على أوكرانيا كان تأثيرها
السلبي أكثر على الدول العربية غير النفطية، بينما الدول النفطية استفادت من ارتفاع
أسعار النفط، وحسَّنت من أوضاعها المالية.
استشراف المستقبل
تبقى قراءات استشراف المستقبل للأسف أسيرةَ ما تُقدّمه المنظمات المالية الدولية
(البنك والصندوق الدوليان)، ولا نجد قراءات عربية في هذا الشأن؛ فمعظم التقارير
والإصدارات العربية بشأن قراءة المستقبل تنقل عن تقارير المنظمات المالية الدولية،
وهو -للأسف- أحد أبرز ملامح التبعية. وكأن مؤسسات العمل العربي المشترك، التي
أُنشئت منذ الخمسينيات لا دور لها سوى أن تنقل في إصداراتها الدورية عن تقارير
المؤسسات المالية الدولية.
وينبغي عند قراءة المستقبل الخاص بالاقتصاديات العربية، أن ننظر إلى الآجال
المتعددة، القصيرة والمتوسطة والطويلة المدى، ولكن في ضوء البيانات وكذلك أداء
الإدارات الاقتصادية الحالية في الدول العربية، من الصعب أن تتم قراءة المستقبل
للأجلين المتوسط والبعيد.
ومن هنا يمكن الإشارة إلى قراءة مستقبل الاقتصاديات العربية في الأجل القصير (1 - 3
سنوات)؛ حيث يظهر في الصورة استمرار اتباع سياسة المُسكّنات الاقتصادية، وعدم خروج
الحلول المطروحة لدى الدول المأزومة اقتصاديًّا عن اللجوء لصندوق النقد الدولي،
والبحث في أدوات السياستين النقدية والمالية، وعدم التطرُّق لحلحلة الجوانب
الإنتاجية، أو الاهتمام بالتعليم، أو مواجهة الفقر والفساد.
ستستمر دول العجز المالي (الدول العربية غير النفطية) في الاعتماد على الديون
والمساعدات، وبالتالي ستبقى المشكلات الحالية كما هي، بل ستزيد حدّتها، وستعاني هذه
الدول في الحصول على المزيد من الديون أو المساعدات، في ظل تفاقم أزمة الديون
عالميًّا، فضلًا عن ضَعْف التصنيف الائتماني للدول العربية المأزومة ماليًّا.
وحسب قراءة المؤسسات المالية الدولية؛ فإن أداء الاقتصاد العالمي، خلال 2023م سيكون
سلبيًّا، من حيث استمرار أزمة التضخم، وتراجع معدلات النمو، وبالتالي ستتأثر
الاقتصاديات العربية بذلك بما فيها الاقتصاديات العربية النفطية، بما يؤثر على
أوضاعها المالية، وقد نشهد مرة أخرى عودتها لسوق السندات الدولية.
ختامًا:
إن قراءة الأزمة الاقتصادية العربية في إطار مؤشرات تراجع العملات، أو ارتفاع
معدلات التضخم، والفقر، والبطالة، أو عجز ميزان المدفوعات، والديون، وعجز الموازنات
العامة للدول؛ يحتاج إلى مراجعة؛ لأننا وفق هذا المنهج نغرق في التعامل مع مجموعة
من الأعراض، ولم نتناول المرض الذي أدَّى إلى هذه الأعراض. فالمرض العضال الذي
يتمكّن من مفاصل الاقتصاديات العربية، هو ضعف أو غياب الإنتاج، وانتشار الأمية
والفساد، وتمكين الاستبداد، وعدم الاهتمام بالإنسان، الذي هو عصب عملية التنمية
والهدف منها. فبناء الإنسان بشكل سليم هو بداية طريق الإصلاح الاقتصادي وكافة
المجالات في المنطقة العربية.