وفي حالة اندلاع حرب كبرى مع الناتو، فإن الأسطول الشمالي، أكبر وأقوى قوة بحرية في روسيا، سيكون لديه مهمة اعتراض قوافل الإمداد من أمريكا الشمالية إلى أوروبا
مع اكتمال العام الأول للحرب الروسية الأوكرانية، والتي يصرّ الكرملين على نعتها بـ«العملية
العسكرية الخاصة»؛
يصل الصراع بين اتحاد روسيا، والولايات المتحدة، وحلفائهما، على أرض أوكرانيا، إلى
نقطة مفصلية.
والمتوقع بعد انكسار ذروة فصل الشتاء وخلال ربيع العام الجاري:
بَدْء هجوم روسي جديد أشدّ وأعنف، لغزو أوكرانيا بطريقة مختلفة، ومن محاور جديدة،
بعد استيعاب دروس الغزو الأولى العام الماضي، والتي كانت مشوبة بالأخطاء القاتلة،
فكلّفت روسيا تدمير ما يقارب نصف مخزونها من الدبابات القتالية الرئيسية سواء
القديمة منها أو المحسّنة، بحسب معلومات البنتاغون في تشرين الثاني/نوفمبر الماض[1].
ونسبة كبيرة من مصفّحاتها ومدافعها، وهدر مخزونها من الذخائر المتنوعة حتى باتت
تلجأ إلى مخزوناتها القديمة التي تعود إلى عشرات السنين، والقذائف فيها غير دقيقة
إلى حدّ كبير[2]،
وتستعين بحلفائها في الصين وكوريا الشمالية لتجديد قدرتها النارية، وتشتري آلاف
المسيّرات الإيرانية منخفضة التقنية والتكلفة[3]،
في حرب استنزاف لم تشهد أوروبا لها مثيلًا منذ الحرب العالمية الثانية.
فضلًا عن الخسائر البشرية الكبيرة (أكثر من 100 ألف قتيل وجريح بحسب التقديرات
الأمريكية[4])،
والتي لا يمكن تعويضها بسهولة في بلدٍ تناضل فيه السلطة لوقف تراجع عدد السكان. فما
بين انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990م حتى الآن، بلغ عدد السكان 146 مليون نسمة،
أي أقل بمقدار مليون ونصف المليون من سكان 1990م. ومن المتوقع أن يصبح قرابة 136
مليون نسمة عام 2050م[5].
والأخطر هو ما تعنيه هذه الخسائر من الناحية النوعية؛ إذ تعرّضت أفضل الوحدات
العسكرية الروسية للدمار الشديد. أما إعادة بناء تلك الوحدات، تجنيدًا وتدريبًا
وتجهيزًا، فيتطلّب سنوات من العمل المتواصل.
لقد تحوَّل الغزو الروسي، إلى كمين مُحْكَم للكرملين وطموحاته الإمبراطورية. وسواء
عمدت واشنطن بشكل مقصود إلى استفزاز موسكو منذ الثورة البرتقالية في كييف عام
2004م،
مرورًا بثورة الكرامة عام 2014م، والتي كانت أشدّ عنفًا، وبمنزلة انقلاب على الرئيس
الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش، وإلى أن وقعت الحرب الروسية الأوكرانية الثانية
في 24 شباط/فبراير الماضي، أو أنها حسابات خاطئة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
المهووس بالتاريخ، والذي تَحدوه رغبة عارمة باسترداد هيبة الاتحاد السوفييتي
وسطوته، ولو من دون العودة إليه حرفيًّا، لكن النتيجة المريرة هي التي تهمّ الآن،
وما تعنيه من آثار جيوبوليتيكية بالغة الخطورة في أوروبا والعالم.
ومع أنه لم تنقطع محاولات أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى الناتو، حتى
نشوب الحرب الأخيرة، لكن بقيت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في تردّد واضح
في اتخاذ موقف نهائي من ضمّ أوكرانيا خشية إغضاب بوتين، وما زالوا حتى اللحظة
يحسبون حسابه، ويقدّمون الأسلحة القديمة إلى كييف[6]،
ويمتنعون عن تسليحها بما يُتيح لها استفزاز موسكو إلى الحدّ الأقصى.
وحتى في الحدود التي رسمها الغرب لهذه الحرب؛ بمعنى الامتناع عن إلحاق الهزيمة
الكاملة بروسيا على المستوى التقليدي؛ إلا أن موسكو خسرت حتى الآن صورتها الشائعة
كقوة عظمى، ذات جيش مهيب لا يُضاهَى في الميدان، وفي حوزته أكثر من
12
ألف دبابة (كثير منها قديم صدئ) من مختلف الأحجام والمهام[7]،
مع التفوق الروسي المفترض في مجال الدفاع الجوي، وفي الحرب السيبرانية التي ظهر
منها عدة نماذج فعّالة في السنوات الأخيرة؛ حيث تمكنت موسكو من التأثير في
الانتخابات الأمريكية، دعمًا للرئيس السابق دونالد ترامب، ومن اختراق مواقع
إلكترونية عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية، في الولايات المتحدة. كل ذلك، ذهب
أدراج الرياح، في حرب كان مفترضًا بها أن تكون مجرّد نزهة من موسكو إلى كييف.
الصراع العالمي حول أوراسيا
من أجل فهم الأسباب العميقة للحرب الروسية الأوكرانية؛ لا بدّ من إدراك الأبعاد
الجيوبوليتيكية للصراع الأوراسي، ودور هذا الصراع في تحديد النظام العالمي، ومن
يحتل رأس الهرم فيه، على الأقل، بحسب ما تعتقده القيادة الروسية عندما قرّرت غزو
أوكرانيا.
في هذا الإطار؛ تصبح العودة إلى أدبيات الجيوبوليتيكا الأوراسية ذات أهمية بالغة،
لا سيما من الجانب الأمريكي. فالمُنظِّر الاستراتيجي الأمريكي، ومستشار الأمن
القومي السابق في عهد الرئيس السابق جيمي كارتر، زبغينيو بريجينسكي، بين عامي 1977
و1981م، يقول في كتابه الصادر عام 1997م، لعبة الشطرنج الكبرى: التفوّق الأمريكي
وموجباته الجيوستراتيجية
The grand chessboard: American Primacy and its Imperatives:
«إنّ
منطقة الأوراسيا (التي تضمّ جغرافيًّا قارتي آسيا وأوروبا)، ظلّت مركز العالم
إبَّان القرون الخمسة الماضية. وتكمن الأهمية الجيوبوليتيكية لأوراسيا، في كون
أوروبا التي تقع في قسمها الغربي، ذات ثقل سياسي واقتصادي، وأنّ آسيا أضحت في
السنوات الأخيرة مركزًا حيويًّا للنمو الاقتصادي والنفوذ السياسي. وبطريقة أو أخرى،
وفي الأزمان الحديثة، سيطر سكان القسم الغربي الأوروبي من أوراسيا على بقية العالم،
وامتازت دُوَل فيه، فكانت في الطليعة. لكن تسعينيات القرن العشرين، شهدت تغيُّرًا
هائلًا في الشؤون الدولية. فلأول مرة، تصعد قوة غير أوراسية (الولايات المتحدة)
لتكون ليس فقط مفتاح العلاقات الأوراسية وحسب، بل القوة المهيمنة في العالم. وإن
هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، وانهياره، كانتا الخطوة النهائية قبل
الصعود السريع لدولة في النصف الغربي من الأرض، هي الولايات المتحدة، لتكون أول قوة
عالمية حقيقية ووحيدة».
ورأى بريجينسكي أن على السياسة الخارجية للولايات المتحدة أن تبقى مهتمّة بالبُعد
الجيوبوليتيكي، وأن تستعمل نفوذها في أوراسيا، بطريقة تضمن توازنًا قاريًّا
مستقرًّا، وأن تقوم الولايات المتحدة بدور الحَكَم السياسي فيها. إنّ المنطقة، بحسب
هذه الرؤية، هي رقعة الشطرنج الكبرى التي يدور فيها الصراع من أجل التفوّق العالمي.
ويقول بريجينسكي:
«إنّ
كلًا من هتلر وستالين اللذين كانا يطمحان إلى الهيمنة العالمية قبيل الحرب العالمية
الثانية، اتفقا عام 1940م فيما بينهما في المفاوضات السرية، في تشرين الثاني/نوفمبر
ذاك العام، على إبعاد الولايات المتحدة عن أوراسيا.
فكلاهما كان يفترضان أنَّ أوراسيا هي مركز العالم، ومن يسيطر عليها، يهيمن على
العالم. لذا، من شرط بقاء الولايات المتحدة على رأس دول العالم، أن لا يظهر مُنافِس
لها في أوراسيا».
وبناء على ما سبق؛ تحتلّ أوكرانيا ركنًا مميّزًا في الرؤية الاستراتيجية
لبريجينسكي. أوكرانيا بنظره، مساحة جديدة ومهمة على رقعة الشطرنج الأوراسية. وهي
محور جيوسياسي؛ لأنها كدولة مستقلة تساعد على تحويل روسيا. فمن دون أوكرانيا، لا
تبقى روسيا إمبراطورية أوراسية. روسيا بدون أوكرانيا قادرة على الكفاح للحصول على
مكانة إمبراطورية، لكنها ستكون في الغالب دولة إمبريالية آسيوية. ومع ذلك، إذا
استعادت موسكو السيطرة على أوكرانيا، بسكانها البالغ عددهم 52 مليون نسمة
(43
مليون نسمة حاليًا)[8]،
وبمواردها الرئيسية، وكذلك بوصولها إلى البحر الأسود، تسترجع روسيا تلقائيًّا مرة
أخرى المال اللازم حتى تصبح دولة إمبريالية قوية تمتدّ عبر أوروبا وآسيا.
وتوقّع بريجينسكي مبكرًا مآلات سقوط أوكرانيا، وآثاره الجيوبوليتيكية، فقال:
«إنه
سيكون لفقدان أوكرانيا استقلالها عواقب فورية على أوروبا الوسطى، ومنها تحوُّل
بولندا محورًا جيوسياسيًّا على الحدود الشرقية لأوروبا الموحَّدة».
وتساءل بريجينسكي عن أيّ مدى يجب أن يتوسع الاتحاد الأوروبي شرقًا؟ وهل ينبغي أن
تتطابق الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي مع خط المواجهة الشرقي لحلف شمال الأطلسي؟
هذا السؤال العملي، كان يركّز الانتباه على الوضع المستقبلي لجمهوريات البلطيق
وربما أوكرانيا أيضًا؛ بحسب تعبيره[9]
لاحقًا.
وبين
عامي 2004 و2007م، انضمّت معظم دول أوروبا الشرقية، وجمهوريات البلطيق (إستونيا
ولاتفيا وليتوانيا) إلى الاتحاد الأوروبي. أما أوكرانيا، فكان مسارها متعرّجًا،
بسبب الانقسام الداخلي بين مُوَالٍ لموسكو، وراغب بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
بدأت العلاقة بين كييف والاتحاد الأوروبي باتفاق شراكة عام 2012م. وكان الغزو
الروسي لأوكرانيا العام الماضي، هو ما جعل أوكرانيا تحصل في حزيران/يونيو من ذاك
العام على صفة دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد. أما بالنسبة لتوسُّع الناتو، في
وسط وشرق أوروبا، فقد تلاحق انضمام الدول الأعضاء في حلف وارسو سابقًا، إلى الحلف
المقابل، أي الناتو، ما بين عامي 1999 و2020م، وليس من دون اعتراض روسي. أما
أوكرانيا، فبدأ حوارها مع الناتو منذ عام 1991م، وتعرقل الانضمام إليه؛ بسبب
الخلافات الداخلية، وخوف أوروبا من رَدّ بوتين، إلى أن أصبحت حاليًا عضوًا فعليًّا
في الناتو، لجهة التسليح والتدريب والرعاية التي يتلقّاها الجيش الأوكراني في
مواجهته للغزو الروسي.
الآثار الجيوسياسية للحرب
بحسب تقرير صادر عن معهد السياسة الخارجية في أثينا؛ فإن للحرب الروسية على
أوكرانيا تأثيرات سلبية بعيدة المدى على الموقف الجيوبوليتيكي لروسيا؛ حيث لم
تُغيِّر هذه الحرب البنية الأمنية في أوروبا فحسب، بل أثرت جيوسياسيًّا على مستوى
العالم تقريبًا.
لقد أصبحت روسيا تدريجيًّا أسيرة حدودها الجغرافية وثوابتها الأيديولوجية، التي جرى
احتواؤها على جبهات متعدّدة من الدول الغربية، مما يجعل موقعها الجغرافي
الاستراتيجي أسوأ من خلال تحفيز انضمام دولتي الشمال غير المنحازتين السابقتين إلى
الناتو؛ فنلندا والسويد.
كشف الغزو الروسي لأوكرانيا بوضوح أنه لم ينتهِ خطر اندلاع حرب كبرى في أوروبا. حتى
القوات المسلحة المُعَدَّة جيدًا بشكل معقول مثل التي في أوكرانيا ليست قادرة على
الصمود في دفاع ناجح دون دعم كبير من الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى. أما
قرار السويد وفنلندا التقدّم بطلب لعضوية الناتو، فسيؤدّي هذا إلى تغيير جذري في
الوضع الجيوستراتيجي في شمال أوروبا، وسيجعل أيّ عدوان روسي ضد الناتو محتملًا
لمخاطر أكبر.
ويعتبر التقرير أنّ مثل هذه التداعيات السياسية لغزو أوكرانيا لم تكن في نية بوتين؛
لأن هذا يُضعف موقف روسيا بشكل كبير، وذلك على النحو التالي: ستكون سانت بطرسبرغ،
الميناء الرئيسي لروسيا في بحر البلطيق، وثاني أكبر مدينة في البلاد، على بعد 150كم
فقط من دولتين من دول الناتو، في غرب إستونيا قبلًا، وفي الشمال فنلندا الآن.
وفي حالة اندلاع حرب كبرى مع الناتو، فإن الأسطول الشمالي، أكبر وأقوى قوة بحرية في
روسيا، سيكون لديه مهمة اعتراض قوافل الإمداد من أمريكا الشمالية إلى أوروبا. حتى
إنّ السوفييت خطّطوا لهبوط برمائي في شمال النرويج لتأمين خروج أسطولهم الشمالي إلى
شمال المحيط الأطلسي. وتقع الشواطئ حول بودو
Bodo
أو نارفيك
Narvik
أو ترومسو
Tromso
على بعد 70 إلى 90كم فقط من الحدود الفنلندية السويدية.
لذا فإن سلوك الطريق الوحيد الموجود بين الشمال والجنوب كان ممكنًا، قبل انضمام
الدولتين الشماليتين الوسطيتين. وعلى روسيا أن تنسى هذا الأمر.
وستوفر فنلندا العضو في الناتو بحدودها مع روسيا التي يبلغ طولها 1340 كيلومترًا
العمق الاستراتيجي للتقدّم الأطلسي الافتراضي نحو مورمانسك
Murmansk؛
حيث تقع القواعد البحرية للأسطول الشمالي في بحر بارنتس
Barents
وربما أيضًا، في البحر الأبيض، وهو بحر داخلي في شمال الجزء الأوروبي من روسيا،
وتضمّ المنطقة أكثر من نصف غواصات الصواريخ الباليستية الروسية.
فإذا ضاعت مورمانسك وشبه جزيرة كولا
Kola،
فلن تبقى الجهود الروسية في شمال الأطلسي، وسيعاني الردع الاستراتيجي الروسي من
ضربة قوية. وستحتاج روسيا إلى التخطيط لنشر عدد كبير جدًّا من القوات، وهو أمر
مكلّف، لحماية هذا الجناح، ولن تكون روسيا قادرة على استخدامها في أيّ مكان آخر[10].
أما الآثار الجيوسياسية، لانتصار أوكرانيا، أو تحوّلها إلى قوة عسكرية ذات خبرة
وكفاية، فستكون أخطر بكثير، مما كانت عليه أوكرانيا قبل الحرب، بالنظر إلى التداخل
الجغرافي والديموغرافي والإثني بين روسيا وأوكرانيا. والقرب الجغرافي لكبرى المدن
الروسية من الحدود الأوكرانية؛ وعليه يتوقّع بعض الخبراء في الشأن الروسي أن يتفكّك
اتحاد روسيا في حال الهزيمة، كما هو سيناريو تفككّ الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات
القرن الماضي[11].
سيناريوهات الحرب
يذكر الباحثان ليانا فيكس
Liana Fix
ومايكل كيماج
Michael Kimmage
في مقال لهما بمجلة
«فورين
أفيرز
Foreign Affairs»
ثلاثة سيناريوهات لنهاية الحرب:
السيناريو الأول:
وهو الأقل احتمالًا، أن تقبل روسيا بهزيمتها، فترضى بتسوية تفاوضية، وبشروط
أوكرانيا.
لكن حتى يتحقّق هذا السيناريو، ينبغي تغيير الكثير من المعطيات مع اختفاء أيّ مظهر
من مظاهر الحوار الدبلوماسي بين روسيا وأوكرانيا والغرب. وإن نطاق العدوان الروسي
ومدى جرائم الحرب التي وقعت، سيجعلان من الصعب على أوكرانيا قبول أيّ تسوية
دبلوماسية تصل إلى أقل من استسلام روسي كامل.
وعلى هذا، يمكن لحكومة روسية، في عهد بوتين أو من يخلفه، أن تحاول الاحتفاظ بشبه
جزيرة القرم، والتفاوض على السلام في أماكن أخرى. ولحفظ ماء الوجه محليًّا، يمكن أن
يدّعي الكرملين أنه يستعد لحرب طويلة في أوكرانيا، أو يلوم الناتو على ضعف أداء
الجيش الروسي في أوكرانيا؛ لأنه سلّم كييف الأسلحة. فالناتو بحسب هذا الادّعاء، هو
الذي أعاق النصر الروسي، وليس قوة أوكرانيا. لكن لكي ينجح هذا الأسلوب الاحتوائي
داخل النظام الروسي، ينبغي تهميش المتشدّدين فيه، وربما بوتين نفسه. سيكون هذا
صعبًا، ولكنه ليس مستحيلًا. ومع ذلك، هذه النتيجة غير محتملة في عهد بوتين.
السيناريو الثاني:
أن تترافق هزيمة روسيا مع التصعيد:
وهنا، سيسعى الكرملين على نحوٍ عدميّ إلى إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، بينما يطلق
حملة من أعمال التخريب من دون تبنّيها في البلدان التي تدعم كييف، وفي أوكرانيا
نفسها. وفي أسوأ الحالات، يمكن لروسيا أن تختار إطلاق هجوم نووي على أوكرانيا.
عندها ستتجه الحرب نحو مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو وروسيا. وبذا، تتحوّل روسيا
من دولة تريد تغيير النظام الدولي إلى دولة مارقة، وهي مرحلة انتقالية جارية فعلًا.
وهذا من شأنه أن يعزّز اقتناع الغرب بأن روسيا تُشكِّل تهديدًا فريدًا وغير مقبول.
قد يدفع تجاوز روسيا العتبة النووية إلى مشاركة الناتو في الحرب بالسلاح التقليدي،
مما يسرِّع بهزيمة روسيا.
أما
السيناريو الثالث
لانتهاء الحرب، فسيكون الهزيمة الروسية من خلال انهيار النظام؛
حيث ستجري المعارك الحاسمة ليس في أوكرانيا، بل في أروقة الكرملين أو في شوارع
موسكو. لقد ركّز بوتين سلطته بشكل صارم بين يديه. وعناده في خوض حرب خاسرة وضع
نظامه على أرضية متزعزعة. سيسير الروس وراء قيصرهم غير الكفء، فقط إلى نقطة
معيَّنة. فعلى الرغم من أنّ بوتين قد جلب الاستقرار السياسي إلى روسيا، وهي حالة
ثمينة بالنظر إلى التصدّعات التي وقعت في سنوات ما بعد الاتحاد السوفييتي؛ إلا أنّ
مواطنيه قد ينقلبون عليه إذا أدّت الحرب إلى الحرمان العام. إنّ انهيار نظامه قد
يعني نهاية فورية للحرب، والتي لن تكون روسيا قادرة على خوضها وسط الفوضى الداخلية.
إن الانقلاب الذي أعقبته حرب أهلية بعد استيلاء البلاشفة على السلطة في عام 1917م،
قد عجّل بانسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى، وقد يتكرّر التاريخ مرة أخرى في
موسكو[12].
وثمة سيناريو رابع، جاء من خلال مقال للباحثين إيفو دالدير
Ivo H.
Daalder
وجيمس جولدجيير
James
Goldgeier،
في المجلة نفسها، التي حفلت منذ بدء الحرب في أوكرانيا، بآراء متناقضة وسط معسكرين
استراتيجيين؛ الأول ينحو باتجاه التهدئة مع روسيا خوف الانزلاق إلى حرب نووية، أو
نشوب حرب عالمية ثالثة، والثاني يتشبّث بضرورة دعم أوكرانيا حتى تحقيق النصر
النهائي على روسيا.
وبين هذين الفريقين ثمّة تباينات وفروقات تقارب المسألة الأوكرانية بشيء من
الواقعية المعتدلة. دالدير ودولدجيير في مقالهما، يميلان أكثر إلى الواقعية، دون
التساهل مع موسكو. فهما يعتبران أنّه من غير الممكن أن تستردّ كييف كلّ الأراضي
المحتلة بالقتال في الميدان، وإلا فإن المضيّ في هذا الخيار، قد يُفضي إلى حرب
مباشرة بين روسيا والناتو.
وإنّ السيناريو الأكثر احتمالًا، هو أن تطول الحرب، وهو ما يعمل عليه بوتين، من
خلال التحصّن في المناطق المحتلة، في الشرق والجنوب، والتعبئة المتصاعدة تدريجيًّا
للقادرين على حمل السلاح، لملء الفراغات في صفوف الوحدات الروسية العاملة في
أوكرانيا. والرهان على تعب الغرب وتخلِّيه عن أوكرانيا.
أما الردّ فيكون بانتهاج استراتيجية احتواء طويلة المدى، من خلال عقوبات مشدّدة
ومستدامة، كما كانت الحال أيام الاتحاد السوفييتي. وفي الوقت نفسه، تقوم دول
الناتو، باستنهاض نفسها عسكريًّا، لمواجهة أيّ أخطار ممكنة من الاتحاد الروسي،
باتجاه دول الحلف، ومواصلة الدعم لأوكرانيا للدفاع عن المناطق المحرَّرة، وتحرير ما
أمكن من مناطق محتلة[13].
[1]
https://www.defense.gov/News/News-Stories/Article/Article/3214909/russia-suffers-catastrophic-strategic-disaster-in-ukraine/
[2]
https://www.reuters.com/world/europe/burning-through-ammo-russia-using-40-year-old-rounds-us-official-says-2022-12-12/
[3]
https://carnegieendowment.org/2022/10/26/larger-geopolitical-shift-behind-iran-s-drone-sales-to-russia-pub-88268
[4]
https://www.reuters.com/world/europe/more-than-100000-russian-military-casualties-ukraine-top-us-general-2022-11-10/
[5]
https://www.worldometers.info/world-population/russia-population/
[6]
https://www.forbes.com/sites/craighooper/2022/12/26/ukraine-converts-219-billion-in-us-military-surplus-into-fearsome-force/?sh=5a25bf8a370a
[7]
https://www.visualcapitalist.com/top-25-fleets-of-combat-tanks/
[8]
https://www.worldometers.info/world-population/ukraine-population/
[9]
Zbigniew Brzezinski, The Grand Chessboard: American Primacy and Its Geostrategic
Imperatives, USA, Basic Books, 1997. 26-27. 30.
[10]
IOANNIS E.
KOTOULAS AND WOLFGANG PUSZTAI, GEOPOLITICS OF THE WAR
IN UKRAINE, Foreign Affairs Institute, June 2022, Report No. 4,
P. 32-33.
[11]
https://www.geopoliticalmonitor.com/assessing-potential-outcomes-of-the-ukraine-war/
[12]
https://www.foreignaffairs.com/russian-federation/putin-last-stand-russia-defeat
[13]
https://www.foreignaffairs.com/ukraine/long-war-ukraine-russia-protracted-conflict