• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هل تحقق عزل النظام الإيراني في الداخل والخارج

لقد وصلت المعارضة داخل إيران وخارجها إلى تلك الخلاصة منذ فترة، واستقر تقديرها على أن يجري الحراك على نحو تدريجي، وكذا الحال لدى القوى الخارجية التي باتت تتحرك هي الأخرى وفق نفس الرؤية


تتلخص مسيرة الصراع داخل إيران وحول دورها الخارجي، في فكرة عزل النظام تدريجيًّا عن الجمهور الأوسع في الداخل، مع تصعيد فعاليات عُزلته على الصعيد الإقليمي والدولي.

وهي مسيرة نتج عنها حتى الآن، وبشكل واضح، تقلُّص القاعدة الشعبية والسياسية والاجتماعية، التي تمنح النظام مشروعية البقاء، وبذلك أصبح بقاؤه معتمدًا بالدرجة الأولى، على دور أجهزة القمع وسياسة الترهيب والترويع، خاصةً بعد انطفاء بريق الشعارات الأولى لثورة الخميني، وحل محلها الإحباط الشعبي من جهة، والقمع من الجهة الأخرى.

والأهم الآن أنه تم طرح شعارات تُعبّر عن رؤية مجتمعية تتجاوز المرحلة السابقة والأطروحات الحالية للنظام، وأهمها بناء نظام فيدرالي بديل للنظام الحالي شديد المركزية إلى درجة التسلط.

وهي مسيرة أنتجت قناعة لدى القوى الخارجية -الإقليمية والدولية- بفقدان الأمل في إصلاح سلوكيات النظام، بما زاد إصرارها ونشاطها لعَزْله في مختلف المجالات الدولية؛ إذ باتت تَنظر له باعتباره نموذجًا قمعيًّا ودمويًّا لا يعمل ولا يتحرك إلا وَفْق أعمال القتل والترويع وبناء الميلشيات وتفكيك الدول المجاورة، والإضرار بالمصالح الغربية، كما وصلت تلك القُوَى إلى قناعة بأن هذا النظام قد أصبح خارج التاريخ، ولم يعد ممكنًا اعتباره ضمن ترتيبات المستقبل.

وقد بدا واضحًا الآن، وفق مؤشرات متعددة؛ أن القوى الداخلية، وتلك المتصارعة مع النظام في الخارج، باتت تعتمد استراتيجية الإضعاف التدريجي للنظام حتى إسقاطه، دون حرب خارجية ودون حرب أهلية واسعة أيضًا.

في الداخل، أظهرت التحركات السياسية والجماهرية الأخيرة، وهي الأكثر وعيًا وتنظيمًا واتساعًا، إدراك النُّخَب -وقطاع واسع من الجمهور أيضًا- أن أقوى ما في النظام هو أجهزة القمع المؤدلجة ونمط الأيديولوجيا التي تعمل على أُسسها، وأن أضعف نقاط النظام تتمثل في تراجع وضيق تمثيله السياسي والاجتماعي، فصمّمت حراكها على أساس تعميق عزل النظام عن قطاعات أشد اتساعًا، وحددت هدفها في العمل على إنهاك قُوى القمع وإضعافها التدريجي خطوة خطوة، وحركة تلو أخرى، مع تفادي التعجيل بوقوع صدام شامل في وقت مبكّر.

وإذ لا يريد الخارج شنّ حرب على إيران، على غرار ما حدث من حرب تدمير العراق؛ إذ لا يريد الغرب الدخول في صراع حربي مع الميلشيات الإيرانية في الإقليم؛ فالخطة الغربية البديلة الجارية مختلفة عن نَمط الحرب الشاملة على العراق؛ إذ تستهدف عزل النظام خارجيًّا، وإقامة أسوار حول صِلَاته السياسية والاقتصادية بالعالم، مع استمرار إنهاك النظام في المحيط الجغرافي، ومساعدة الداخل على إسقاط النظام؛ حيث لا تريد القوى الغربية تدمير إيران، بل الإبقاء على معالم قوة الدولة الإيرانية، واستمرار توظيفها من داخل الاستراتيجية الغربية في الإقليم، سواء في مواجهة العرب -خاصة دول الخليج- أو في مواجهة تركيا الصاعدة.

لقد وصلت المعارضة داخل إيران وخارجها إلى تلك الخلاصة منذ فترة، واستقر تقديرها على أن يجري الحراك على نحو تدريجي، وكذا الحال لدى القوى الخارجية التي باتت تتحرك هي الأخرى وفق نفس الرؤية.

ولعل أكثر ما يوضّح هذا التلاقي -وربما التوافق- سواء عبر تقاطع المصالح أو عبر توافقات محددة، بين الداخل والخارج على الإضعاف التدريجي للنظام، هو ما جرى خلال الفترة الأخيرة من مظاهرات متواصلة تسير بخطًى تدريجية، مع الحفاظ على زخم الاستمرار في الحراك وتوسيع رُقعة انتشاره. وما جرى من ضربة إسرائيلية أخيرة بالطيران المسير؛ إذ استهدفت نقطة الالتقاء بين روسيا وإيران من جهة، كما صبَّت أهدافها -في الوقت ذاته- في مصبّ إضعاف النظام داخليًّا وهزّ صورته وإظهاره بمظهر غير القادر حتى على حماية أهم منشآته التسليحية أو ما يُوصَف في إيران بالمجمع الصناعي العسكري.

خاتمي يقر بانعزال النظام

لعل أفضل تعبير عن وصول النظام إلى حالة الانعزال الخطيرة، هو ما ورد في البيان الذي أصدره الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي بمناسبة الذكرى الـ44، لما وصفه بانتصار «الثورة الإسلامية» في إيران.

لقد وصف خاتمي عُزلة النظام الإيراني عن غالبية المجتمع بشكل دقيق، كما بيَّن أسباب تلك العزلة، وجعلها أساسًا للثورة الجارية، وإن لم يذكر تعبير «الثورة» بطبيعة الحال.

وفي ذلك بدا خاتمي، وكأنه ينفض يده من النظام، أو ينعيه أمام الجميع.

 قال خاتمي في بيانه: إن «الشعب يتخطَّى جيلنا والأجيال التي كانت حاضرةً في الثورة وفي فترة الإصلاحات..»، وقال: أن «الخطأ الكبير لنظام الحكم في البلاد هو إرضاء جزء صغير من المجتمع يعتبره مواليًا له، على حساب زيادة استياء غالبية المجتمع الذين فقدوا الأمل في مستقبل أفضل».

لقد استخلص خاتمي، أن النظام بات معزولاً، وحدَّد سبب عزلته، فأشار إلى أنه يعمل لأجل مجموعة محدودة، وقرّر أن غالبية المجتمع فقدت الأمل في النظام. وهذا هو التعبير الدقيق عن ما وصل إليه النظام من عزلة. وذاك هو أهم سبب من أسباب الثورات.

وسواءٌ قصد خاتمي أم لم يقصد؛ فقد فسَّر أسباب توسُّع الحراك الشعبي على صعيد الفئات المشاركة، وعلى صعيد التوسُّع الجغرافي، وأجاب عن سؤال: لماذا شمل الحراك الأخير مختلف القوميات، كما كشف عن أسباب تواصل هذا الحراك دون توقُّف وعلى مدى زمني طويل بلغ عدة أشهر.

وفي واقع الحال، إن ما أصاب النظام الإيراني هو مرض شائع في المجتمعات ما بعد الثورات. ففي خلال الثورات تُرْفع شعارات تحمل مطالب الأغلبية، وبعد وصول النُّخَب الجديدة للحكم تتغير الشعارات وتصبح مُعبّرة عن مصالح المنتفعين بالنظام.

تتحول الشعارات من التعبير عن المطالب إلى شعارات للدفاع عن الحكم، فتضيق رقعة تمثيله سياسيًّا واجتماعيًّا بسبب انصراف الجمهور الواسع الذي صدَّق الشعارات الأولى، وتحول إلى وقود للثورة، وهذا الجمهور الواسع يعود ويصبح في مواجهة النُّخب التي سيطرت على الحكم وبات وجودها واستمرارها في الحكم، هو قضيتها.

قبل وأثناء فعاليات الثورة الإيرانية؛ رفَع الخميني ومن معه الشعارات القادرة على حَشْد أوسع القطاعات النخبوية والجماهيرية والاجتماعية والقومية، لتشكيل قوة قادرة على إسقاط حكم الشاه.

لكنَّ الأمور تغيَّرت تدريجيًّا بعد أن انتهت الفورة، واستقرت النُّخب التي قادت الثورة في الحكم؛ إذ صار استمرار وجودها في الحكم هو الهدف، وذلك كان واضحًا في انتقال النظام من رفع شعارات الدفاع عن المظلومين إلى شعارات الدفاع عن «نظام الجمهورية الإسلامية»، ومن شعارات تغيير الحكم إلى شعارات تثبيت الحكم والدفاع عنه، وفي اعتبار المعارضين له متعاونين مع الخارج.

وأصبحت قضية نُخَب الحكم هي الدفاع عن نفسها ومصالحها. وهو ما نتج عنه انعزال النظام وتحوُّل نُخَبه إلى ممارسة الأنماط السلطوية للحكم، وهي دورة لا تتوقف إلا بتغيير استراتيجي؛ إذ كلما تفاعلت القطاعات الجماهيرية الواسعة مع مطالبها ورفعت شعاراتها وتحركت للتعبير عن استيائها، اعتبرها النظام تهديدًا له -أو للثورة- وواجهها بالقمع، ليعود الحراك الشعبي مجددًا وبصورة أوسع، فيزيد النظام قمعًا فتتصاعد عزلته، وهكذا جرت تلك المسيرة التي ستنتهي إلى إسقاط النظام.

ويزيد من تصاعد تلك الحالة وشدتها في إيران؛ أن النظام طائفي ومعزول بحُكم تكوينه، ويُنتج فكرًا وشعارات تتناقض مع ثقافة ومصالح ومطالب قطاعات واسعة من الجمهور العام، وأنه نظام عِرْقي يقف موقف المستعمر من القوميات الأخرى في داخل المجتمع.

قصف أصفهان وعزلة النظام

لقد جاءت عملية القصف الأخيرة للمصانع العسكرية في أصفهان، وفق رؤية وخطة عزل النظام خارجيًّا، وداخليًّا أيضًا.

لقد جرت عملية القصف لأسباب تتعلق بما يجري داخل الكيان الصهيوني من المظاهرات غير المسبوقة ضد حكومة نتنياهو. وقد شملت نحو 30 مدينة، وشارك فيها رئيس الوزراء السابق -بما يمثل تغييرًا في نمط العلاقات بين الحكم والمعارضة. كما جرت عملية القصف على خلفية تصاعد النقاش داخل الكيان الصهيوني حول فكرة «زوال إسرائيل»؛ إذ انضم إلى المحذرين من الانهيار رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك.

وبهذا المعنى فقد تغيَّر الوضع الاستراتيجي لإيران من وَضْع القدرة على المواجهة، إلى وضعية «تبة ضرب النار» للجيش الصهيوني. أصبحت إيران موضعًا لتنفيس الاحتقانان الداخلية بين مكونات التجمع الصهيوني.

وكان القصف وفقًا لهذا المعنى عنوانًا لضعف النظام الإيراني، ولعدم قدرته على المواجهة، وهو ما يهزّ صورته بشكل أعمق أمام الجمهور العام في المجتمع الإيراني -بما في ذلك قطاع من مناصريه- بفقده شروط القدرة على حماية المجتمع، وعلى حماية الدولة، بل حتى على حماية نفسه.

وزاد من تلك الحالة ما أعلنته إيران نفسها بأن الطائرات المُسيَّرة التي انطلقت وقصفت في أصفهان، قد جرى إطلاقها من داخل الأراضي الإيرانية، ولم تأتِ من الخارج، وهو ما يُعمّق من الشعور بفشل أهم وأقوى أجهزة النظام باعتبارها لم تستطع لا منع تهريب تلك الطائرات للأراضي الإيرانية، ولا منع مَن يُطلقها مِن داخل الأراضي الإيرانية لتقصف مصانع عسكرية بالغة الأهمية.

غير أن قراءة طبيعة المنشآت التي جرى قصفها يُظْهِر بُعدًا آخر يتعلق بالسعي لعزل النظام خارجيًّا؛ فلقد وجهت الطائرات الصهيونية ضَربتها لمصنع إنتاج الطائرات المسيرة الإيرانية ولمصنع إنتاج الصواريخ بعيدة المدى.

وفي ذلك أراد نتنياهو أن يسجّل حضوره ومساهمته في الخطة الغربية في أوكرانيا، ودون احتكاك مباشر مع روسيا؛ خشيةَ ردّها عبر سوريا. فمصنع الطائرات المسيّرة المقصوف هو ما يُنتج طائرات شاهد-36 التي تُورّدها إيران لروسيا لتستخدمها في حربها على أوكرانيا. والمصنع الثاني الذي قُصِفَ هو الذي يُنتج الصواريخ بعيدة المدى التي تثير قلق أوروبا.

لقد أراد نتنياهو أن يقول لأوروبا والولايات المتحدة: إن إسرائيل تحمي أوروبا عبر قصف إيران، ليس فقط بشأن الطائرات الإيرانية المسيّرة التي تقصف في أوكرانيا، بل أيضًا بشأن الصواريخ بعيدة المدى التي يتوسّع نطاق تغطياتها فتهدّد الدول الأوروبية. وأرسل نتنياهو رسالة مفادها،  أن موقف الكيان الصهيوني الذي طالما دعا لمواجهة إيران وقصفها، كان الموقف الصحيح، وأن الغرب لو كان سانَد نتنياهو في قرار قصف إيران وتدمير صناعاتها العسكرية، ما كان هناك طيران مُسيَّر إيراني يقصف الآن في أوكرانيا، ولا صواريخ بعيدة المدى تهدّد أوروبا.

وهكذا استهدف القصف سحب حالة العداء الغربية لروسيا والحرب الجارية معها على الأرض الأوكرانية لتشمل إيران، أو هو أراد أن يلفّ حبل تدهور العلاقات الروسية الغربية حول رقبة إيران.

النظام يساهم في عزل نفسه

وسواء كان الالتقاء بين الحراك الداخلي وحركة القوى الخارجية، قد جرى وفق حالة تقاطع المصالح، أو وفق ارتباط بين جماعات المعارضة والقوى الخارجية، فالمؤكد أن النظام نفسه هو أكبر المساهمين في إنجاح خطة عزل نفسه وتقويض قدرته على البقاء.

فعلى الرغم من ادّعاء النظام امتلاكه الوعي وإدارة السياسات الداخلية والخارجية وفق خطط استراتيجية، بل حتى على الرغم من تحقيق النظام لبعض التوسع في الخارج وثبوت قدرته على تحطيم دُوَل عربية، فالنظام هو من أغلق طريق الإصلاح الداخلي، وهو من أسرف في القمع الداخلي وأدمن مواجهة الاحتجاجات الإصلاحية والمطلبية بالرصاص الحي، بما دفع قطاعات متزايدة من الشعب الإيراني للتحول من رفع شعارات الإصلاح إلى السعي لعزل النظام وإسقاطه.

وهو أيضًا مَن أصابه الزهو بما لم يُحقّق بيديه وبقدراته في دول المحيط، وفقده القدرة على التمييز بين توسُّعه في الإقليم بدعم خارجي، وبين مَن فتح الباب أمامه ليسقط في الهاوية.

لم يلتقط النظام الدعوات لإصلاحه؛ لم يدرك مغزى أن يصبح جزءًا من نخبة النظام في صفّ المطالبة، بل في قيادة الدعوة والحركة الشعبية الساعية للإصلاح. لم يَفهم النظام رسالة الحركة الخضراء التي تشكَّلت بعد تزوير نتائج انتخابات عام 2009م، ونظَر لما جرى بنظرة التعالي وبنظرة التخوين. والأدق أنَّ النظام رفَض إدراك أبعاد التغييرات الفكرية والسياسية الاجتماعية في داخله وفي داخل المجتمع.

لم تكن الحركة الخضراء سوى حركة إصلاحية من داخل النظام، وخاتمي هو أحد عناوين الإصلاح الأقل تشددًا، لكنَّ النظام لم يلتقط الإشارة، ومضى معتقدًا أن القمع هو ما سيثبّت وجوده في السلطة وليس الحوار.

ولقد تحرك الجمهور العام على أُسس مطلبية، وبشكل عفوي، ودون مشاركة النُّخَب في عام 2019م. كان الحراك واسعًا، ورفَع مطالب للإصلاح الاجتماعي، لكنَّ النظام لم يلتقط المغزى أيضًا، وأمسك بعصاه الغليظة؛ مِن باسيج وحرس ثوري، وطرَق بها على رؤوس المحتجين، بما زاد عُزلة النظام.

وكان طبيعيًّا أن يأتي الحراك الحالي واسعًا وشاملاً، وأن يرفع شعارات إسقاط أو تغيير النظام..

 وهكذا لم يَعُد النظام الإيراني يفيق من آثار ضربة داخلية إلا وتلقَّى الأخرى. كما تتقلص قدراته على الصعيد الخارجي يومًا بعد يوم، إلى درجة التحول إلى تبة ضرب نار للقوات الصهيونية. وهو في مأزق خارجي بعد أن توارت مرحلة سيولة العلاقات الدولية التي سمحت له بأن يجمع بين التعاون مع القوات الأمريكية في العراق والقوات الروسية في سوريا، وحل محلها سياسة المحاور والأحلاف الصراعية.

 


أعلى