• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الاتجاه الباطني في تشكُّله الجديد

الاتجاه الباطني في تشكُّله الجديد


شهدت الساحة العربية في القرن الثالث الهجري حادثة فكرية خارجة عن نسق الفكر الإسلامي، وهي ظهور الاتجاه الباطني، الذي تقوم فكرته على أن النصوص الشرعية لها معانٍ باطنية خفية مختلفة عن المعاني المتبادرة من ظاهرها.

وقد انطوى تحت هذا الاتجاه طوائف كثيرة، كانت سبباً في تعدُّد الأسماء والألقاب التي أُطلقت عليه، ومن تلك الطوائف: الإسماعيلية والقرامطة والنصيرية والدروز والتعليمية والسبعية والخرمية[1].

ومع اختلاف تلك الطوائف في ألقابها ومسمياتها إلا أنها اشتركت في فكرة عامة؛ وهي أن النصوص الشرعية لها نوعان من المعاني: معانٍ باطنة ومعانٍ ظاهرة، وأنه لا بد لكل ظاهر من باطن، وأن المقصود في الحقيقة لصاحب الرسالة هو المعنى الباطني للنصوص، وأن هذا المعنى بمنزلة اللب والظاهر بمنزلة القشور، وأن المكلفين ليسوا ملزمين بما يدل عليه ظاهر النصوص؛ وإنما يجب عليهم البحث عن المعنى الباطني ويلزم الأخذ به ولو كان مخالفاً للظاهر القطعي.

ولا يشترط في المعنى الباطني وجود علاقة بينه وبين ما يفيده ظاهر النص، وهو – في عقيدتهم – يمكن أن تتعدَّد مظاهره، ويصل إلى أعدد كبيرة جداً؛ فقد ذكر الديلمي واقعة تدل على أن المعاني الباطنة لا تكاد تنحصر في عدٍّ؛ وذلك أن بعض أئمة الباطنية روى أن للكلمة سبعة وجوه، فقال قائل: سبعة وجوه؟، كأنه استقلَّها، فقال: سبعون وجهاً، فقال القائل: سبعون وجهاً؟ فقال: سبعمائة وجه[2].

فالنصوص الشرعية ليست إلا قوالب تنزَل عليها المعاني الباطنة، وهي بمنزلة الأجساد الميتة التي تحل فيها الأرواح والمعاني، والجسد إذا لم تحل فيه الروح يبقى ميتاً لا فائدة منه، وكذلك هي النصوص الشرعية إذا لم تحدَّد المعاني الباطنية لها[3].

ويقول إخوان الصفا في تأكيد المعنى الباطني للنصوص: «اعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة، وهي الألفاظ المقروءة والمسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة، وهي المعاني المعقولة»[4].

وقد تناول الاتجاه الباطني القديم القرآن وجعل ألفاظه قوالب لما يراه من المعاني الباطنية، وعبث بمعانيه وقفز على نصوصه البينة الظاهرة، وأنشأ معاني بعيدة كل البعد عن سياقه ودلالاته، ومخالفة لما هو معروف من لغة العرب، ومناقضة لما فهمه الصحابة وأئمة التفسير، وحدد لمعانيه الكبرى في التوحيد والعقائد والأخبار والعبادات والشعائر معاني مختلفة كلَّ الاختلاف عن مقتضيات النصوص الشرعية البينة[5].

ولم يكتف الباطنية بذلك العبث بالنصوص الشرعية، بل شنوا حملة شعواء على علماء المسلمين من الفقهاء والمفسرين ووصفوهم بكل ذميمة؛ بحجة أنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً سطحياً، ولم يلتفتوا للمعاني الحقة الكامنة في داخل ألفاظ نصوصه.

ونتيجة لهذه النظرية التأويلية أبطل الاتجاه الباطني الإلزام بشرائع الإسلام الكبرى، واكتفى بمعرفة المعاني الباطنية من ورائها (في زعمه)، وأكد على أن من عرف المعنى الباطني من العبادات سقط عنه التكليف بها ولم يَعُد محاسَباً عليها[6].

وبناءً عليه أوَّل الباطنيون جميع المفروضات والمسنونات، وجعلوها رموزاً وإشارات إلى معاني أخرى تتوافق مع أصولهم الفلسفية والعقائدية.

فقد أضحى الوضوء رمزاً يراد به تجديد العهد بإمام الزمان، وغدت الصلاة رمزاً للاتصال بإمام الزمان والدعاء إليه، والزكاة رمزاً لبثِّ العلوم والأسرار لمن يتزكى بها ويستحقها، وأصبح المقصود من الصوم كتمان العلم عن أهل الظاهر الذين لا يفهمونه، والحج طلب العلم الذي تُشَد إليه رحائل العقل[7].

ولم يكتفوا بذلك؛ وإنما ستباحوا مع ذلك المحرمات الظاهرة في الشريعة كالزنى وشرب الخمر وغيرها، بحجة أنها غير ملزمة لمن أدرك المعنى الحقيقي للتكاليف الشرعية[8].

ولم يقتصر العبث الباطني على ذلك؛ وإنما تعدَّاه إلى الأصول العقائدية الكبرى في الإسلام والأخبار القطعية الواردة في نصوص الشريعة وأوَّلها عن ظاهرها إلى ما ادَّعاه من معاني باطنة.

فعقيدتهم في الإله مختلفة عما هو في نصوص الشريعة؛ فإنهم جردوا الإلهة - سبحانه - من كل صفة واعتمدوا على النفي المحض الذي لا يقوم إلا على سلب كل المعاني الوجودية، وفي الوقت نفسه أطلقوا عليه أوصافاً لم تَرِد في النصوص الشرعية كوصف العقل الأول والمبدع، ولم يكن الله - تعالى - في زعمهم معبوداً لأنه مستحق للعبادة؛ وإنما لأنه محل لوله العقول الأولى به[9].

وأما الوحي فهو في تصورهم عبارة عما تتلقاه نفس النبي مما يفيض عليها من فيوض العقل المبدع، وهو يختلف باختلاف قوة عقل ونفس النبي واستعداداته وكمالاته، ونتيجة ذلك توصلوا إلى أن البنوة ليست اختياراً إلهيا وإنما هي صفة مكتسبة[10].

وبناءً على ذلك فالقرآن ليس لفظه كلام الله، وإنما هو كلام النبي الذي عبر به عما تتلقاه نفسه من الفيوض الإلهية، وكذلك أنكروا معجزات الأنبياء والرسل وعدُّوها من جملة الشعبذة والخرافة[11].

وتجاوز تأويلهم الباطني ووصل إلى عقيدة اليوم الآخر، فأوَّلوا جميع المكونات التي يقوم عليها كالموت والقبر والبعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وجعلوها رموزاً لمعانٍ باطنية لا تمتُّ إلى حقيقتها الظاهرة بصلة، وهزؤوا بالمسلمين الذي يعتقدون صحة تلك الحقائق ويؤمنون بكونها أموراً واقعية حقيقية[12].

وهكذا ينتهي الاتجاه الباطني إلى اطِّراح جميع مظاهر الدين وإباحة محرماته وتغيير معالمه وإذابة حدوده الفاصلة بينه وبين الأديان الأخرى، وأصبح رأيهم يستوعب كل المذاهب والآراء ؛ لأنه لم يعد هناك معنى واحد للنص الشرعي يمكن إلزام الناس به، وإنما لكل نص تأويل ولكل تأويل سبعين تأويل إلى ما لا نهاية.

ولم يقتصر الباطنية على ممارسة عبثهم المجرد، وإنما حاولوا القيام بشرعنة مذهبهم وسعوا إلى الاستدلال عليه بنصوص من الشريعة ومن آثار آل البيت، ومما اعتمدوا عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نزلت عليَّ آية إلا ولها ظهر وبطن»[13].

وقد اجتهد علماء الإسلام كثيراً في الرد على الاتجاه الباطني، وألَّفوا كتباً كثيرة في نقضه، وقد أحاطت دراساتهم الاتجاه الباطني من جميع جهاته: من جهة حقيقته ومآلاته، ومن جهة جذوره التاريخية والفلسفية وكيفية انتقاله إلى الساحة الإسلامية، ومن جهة نشأته وتطوراته وعلاقته بالمذاهب المناقضة للإسلام، وناقشوا أصوله الفلسفية وأبطلوها بالأدلة العقلية والشرعية، وكشفوا عن أساليبه في التلبيس على الناس وفي ترويج مقالاتهم ومذهبهم.

وأجمع علماء المسلمين على كفر الاتجاه الباطني والحكم عليه بأنه مناقض لحقيقة الإسلام والحكم عليه بالكفر والضلال والزندقة، وأكدوا على أنه الهدف منه هدم الإسلام، ولكن لما عجز أتباعه عن التصريح بذلك لجؤوا إلى الأساليب الباطنية الملتوية[14].

ونتيجة لجهود علماء المسلمين المتكررة في الوقوف ضد الاتجاه الباطني بقي منزوياً وظل منبوذاً في الفكر الإسلامي وشاذاً في أفكاره وتصوراته، ولم يلقَ قبولاً ولا انتشاراً لدى المسلمين.

التشكل الجديد للاتجاه الباطني:

أخذت الفكرة الباطنية تظهر من جديد في الساحة الإسلامية، ولكنها هذه المرة تتبدى في ثوب مختلف وتشكُّل مغاير وأضحت تتسمى بأسماء جديدة: كاسم التنوير والتجديد والحداثة والتأويل.

وتتحدد معالم الباطنية الجديدة بشكل ظاهر في المدرسة الحداثية العربية؛ فقد تبنَّت هذه المدرسة حقيقة النظرية الباطنية وامتثلت روحها بكل وضوح؛ فقد جعلت الرؤية الباطنية أصلاً من أصولها ومنطلقاً من منطلقاتها المعرفية، ورتبت عليها النتائج نفسها التي ترتبت على الباطنية القديمة، فلا يكاد القارئ يجد فرقاً بين التشكُّلين في حقيقة التأويل الباطني.

والمستقرئ للمنتَج الحداثي لا تنقصه المؤشرات ولا الدلائل الدالة على الارتباط الوثيق بين المدرستين، وعلى التداخل المنهجي بينهما، وحتى لا يكون الكلام مجرد دعوى خالٍ مما يدل على صدقه، دعونا نستعرض النظرية الحداثية في منهجية فهم النص الشرعي وفي منهجية فهمها للأصول العقائدية الكبرى في الشريعة الإسلامية.

أما منهجيـة فهـم النص الشرعي، فإن الخطـاب الحـداثي لا يختلف فيها عن النظرة الباطنية القديمة؛ فقد توصل إلى أن النص الشرعي لا يقول الحقيقة وأنه ليس له ثوابت ولا معانٍ جوهرية ثابتة؛ وإنما هو نص منفتح على ما لا يحصى من المعاني، وقابل لما لا عد له من الاحتمالات التأويلية.

فالنص الديني عند محمد أركون «نص مفتوح على جميع المعاني، ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفذه بشكل نهائي»[15]، والقرآن عنده «عبارة عن مجموعة من الدلالات والمعاني الاحتمالية المقترحة على كل البشر»[16]، وينتهي حسن حنفي إلى أن النص الشرعي يختلف معناه وتأويله بحسب اختلاف العصور «لأن النص قالب بلا مضمون»[17]. يمتلئ بحسب الظروف المحيطة به.

ويحاول طيب تيزيني أن يقنع المسلمين بأن القرآن «ليس إلا علامات لا تحيل بالضرورة إلى شيء، وإنما تدل - غالباً - على الصورة التي يتلقَّاها الوعي عن الشيء»[18].

وأما نصر حامد أبو زيد فإنه حاول بكل ما أوتيه من قوة أن يفرغ النص الشرعي من كل معنى ثابت ومن كل دلالة ثابتة؛ ليتوصل إلى أنه مجرد قالب مفرغ من المحتوى، وينتهي إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لا يستطيع أن يصل إلى تحديد معنى النص الشرعي، حيث يقول: «إن فهم النبي صلى الله عليه وسلم للنص يمثل أُولَى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية على فرض وجود مثل هذه الدلالة»[19].

ويعبر علي حرب عن حقيقة النظرة الباطنية الجديدة بأوضح عبارة وأظهر دلالة تكشف عن حجم التطابق بين الباطنيتين فيقول: «ذو اللب لا يقف عند الظاهر المنطوق به، بل يقلب الغائر والمضمور والمستتر؛ أي: يطلب معنى المعنى، ومعنى المعنى ليس سوى الظاهر والسطح والشكل الدال، وقد حجب نفسه وتحوَّل إلى عمق لا مرئي أو محتوى أو باطن»[20]، «ومهمة القارئ الناقد أن لا يُؤخَذ بما يقوله النص، مهمته أن يتحرر من سلطة النص لكي يقرأ ما لا يقوله»[21]، ويقول: «القرآن نص لا يمكن لأي تفسير أو مذهب أن يستنفذه أو يغلقه، فلكلٍّ تصوره وفهمه، ومن ثَمَّ لكلٍّ مذهبه وإسلامه»[22].

ونتيجة للباطنية الجديدة فإنه لم يعد الأمر المهم في قراءة النص الديني البحث عن مراد الله ومقصوده من كلامه؛ وإنما بات الأمر المهم هو البحث عما ينقدح في ذهن القارئ للنص من معانٍ ولو كانت مخالفة لما كان من فهم الصحابة، ومن ثمَّ انتهت الباطنية الجديدة إلى أن إعجاز القرآن ليس راجعاً إلى عُلُو بيانه وسُمُوِّ فصاحته وإحكامه وتركيبه ودلالته؛ وإنما إلى أنه أقوى نص ينفتح على معانٍ لا حصر لها ويتقبل احتمالات لا عدَّ لها، ويتسع لكل المتناقضات، وكلها في الوقت نفسه تمثل حقيقته ومقصده[23]!

وحين انتهى الخطاب الحداثي إلى هذه النتيجة أخذ يوجه الذم الشديد إلى العلماء والمفسرين والفقهاء لأجل أنهم لم يصلوا إلى النظرية نفسها التي توصَّل إليها وبات يصفهم بالسطحية والجهل والغباء[24]، تماماً كما فعلت الباطنية القديمة.

وبناءً على هذه النظرة الباطنية أفرغ الخطاب الحداثي العقائد الإسلامية والعبادات العملية من محتواها وغدت أموراً رمزية يتغير معناها والمراد منها بحسب تغيُّر الزمان والمكان، فالعقائد الإسلامية لا تَعْدُ أن تكون تجارب إنسانية يقوم بها المجتمع المسلم ثم لا يلبث أن يتخلى عنها أو يقوم بتغيرها إذا تغيرت الظروف أو اقتضت الحاجة إلى ذلك.

فإذا كانت الباطنية القديمة تجعل الإيمان بالإله مجرد تصوُّر ذهني لا حقيقة له في الواقع، فكذلك هو الخطاب الحداثي، بل إنه تجاوزها إغراقاً في الباطنية؛ فالإيمان بالله لم يعد في تصوُّرهم إيماناً وتصديقاً بذات مقدسة متصفة بالكمال والجلال؛ وإنما هو تصور يقيمه الإنسان عن شيء يراه مقدساً ويمكن أن يتغير بتغيُّر الظروف، وأضحى الإله عند حسن حنفي «مفهوم بلا ما صدق»[25]؛ أي: أن الإله ليس له حقيقة في الخارج؛ وإنما هو معنى في الذهن فقط، وانسجاماً مع ذلك فإن حنفي يجعل اسم الله عبارة عن الرغبات التي يريدها الإنسان «فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبَد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل...»[26].

ولا يفتأ محمد أركون يكرر - كلما سنحت له الفرصة - أن مفهوم الإله مفهوم متغيِّر يتطور بحسب الظروف، وينكر على المُسَلَّمة التقليدية لدى المسلم التي تفترض وجود إله متعال ثابت لا يتغير[27]؛ ولهذا يدعو محمد أركون المسلمين إلى تغيير مفهوم الإله، وتحديد معنىً آخرَ يتناسب مع عصرنا؛ «لأن تصوُّر العصور الوسطى مرعب ومخيف ويشل طاقات الإنسان عن الحركة أو يمنع فتح طاقاته وتحقيق ذاته على وجه الأرض»[28].

وإذا كان الوحي عند الباطنية القديمة ليس ذا مصدر إلهي وإنما يرجع إلى قوة استجابة عقل النبي للفيوض المتدفقة على ذهنه وقوة تعبيره عنها وصفاء خياله، فإن العقل الحداثي لا يختلف عند ذلك التصور، بل يزيد عليه في الإغراق الباطني؛ فالوحي في تصوُّر الباطنية الحداثية ليس هو إعلام من الله - تعالى - لنبيه بواسطة جبريل، وليس هو شيئاً متعالياً عن الواقع؛ وإنما هو عبارة عما يشعر به النبي من سُمُوِّ وما يصوره له خياله المتدفق والمتداخل مع الحالة الاجتماعية والنفسية التي يعيشها.

ويكشف حسن حنفي عن تصوره عن حقيقة الوحي فيقول: «الوحي بناء إنساني ووصف لوضع الإنسان في العالم»[29]، ويتفق محمد أركون مع هذه النظرة فيقول:«الوحي ليس كلاماً معيارياً نازلاً من السماء لإجبار البشر على تكرار طقوس الطاعة»[30].

والوحي الـذي يحصـل للنبي – في تصور الباطنية الجديدة – لا يختلف في حقيقته عما يحصل للكاهن والشاعر البليغ؛ فالأنبياء في حقيقة الأمر يشتركون مع الكهان والفنانين أصحاب الحس المرهف والشعراء الكبار في القدرة على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والمنام[31].

وقد كان لهذه النظرة الباطنية انعكاسات كثيرة، من أبرزها: أن القرآن لم يعد هو كلام الله المنزل على نبيه، وإنما هو كلام الرسول الذي عبر به عن الشعور النفسي الذي هجم على عقله فحرك خياله الفسيح ليخرج لنا ما نسميه «القرآن المقدس»، وهو ببناءً على ذلك لا يختلف عن كلام البشر في مصدره. ومن انعكاسه أيضاً: أن الوحي لم ينقطع بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هو حالة لا تزال مستمرة ما بقي النشاط الإنساني مستمراً ؛ لأن الإنسان يحتاج إلى أن يتجاوب مع واقعه الخارجي؛ فهو لا يستغني عن حالة الوحي التي مرت بالأنبياء[32].

وإذا كانت عقيدة اليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار عبارة عن رموز لا حقيقة لها عند الباطنية القديمة، فهي كذلك عند العقل الحداثي، عبارة عن رموز لمعانٍ أخرى، وهي كما يقول حسن حنفي تمثُّلات فنية وصياغات أدبية، «فأمور المعاد لا تشير إلى وقائع مادية وحوادث فعلية وعوالم موجودة بالفعل في مكان ما يعيشها الإنسان في زمان ما، بل هي بواعث سلوكية ودوافع للفعل»[33].

فالشريعة الإسلامية حين تذكر في نصوصها المقدسة الجنة والنار لا تقصد منها أمراً حقيقياً في تصور الباطنية الحداثية؛ وإنما قصدت مراعاة العقلية العربية البسيطة المبنية على تقبُّل الأسطورة، وفي تأكيد هذا المعنى يقول عبد المجيد الشرفي: «الرسالة القرآنية موجهة إلى أناس بأعيانهم في القرن السابع، وتتضمن ظواهر تتناسب مع ثقافة ذلك العصر، مثل: الجنة وإبليس والشياطين والملائكة والطوفان وعمر نوح، وهي ظواهر بعيدة اليوم عن التصورات الحديثة»[34]، ولا ينفك الخطاب الحداثي يكرر دوما بأن القرآن مليء بالأساطير التي كانت شائعة في الجاهلية، وأنه استخدمها من أجل نشر دعوته ورسالته[35].

وأما حسن حنفي فهو يتعامل باحترافية باطنية مع عقيدة الجنة والنار، «فالجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه الدنيا وليس في عالم آخر... الجنة ما يصيب الإنسان من خير الدنيا، والنار ما يصيب الإنسان من شر فيها»[36].

ويرى محمد أركون أن الإيمان بأخبار الجنة من الأمور التي توجب السخرية، فيقول: «أليس من الواجب علينا أن نتخلص من السخرية التي تتحدث عن جنة الله المملوءة بالحور العين وأنهار الخمر والعسل المرتبطة بالخيال الشعري لدى البدو»[37].

وإذا تتبع القارئ المنتج الحداثي فسيجد أمثلة عديدة نالها التأويل الباطني، ولم تسلم من سطوته، ومن أشهرها وأكبرها: العبادات الخمس التي تمثل أركان الإسلام، فقد تغيرت عن صورتها وشكلها وعددها وأنظمتها في النظرية الباطنية الجديدة[38].

وإذا كانت الباطنية استوعبت كلَّ المذاهب والاتجاهات، فكذلك الباطنية الحداثية؛ ولهذا أخذ يصرخ أتباعها بأنه لا يوجد إسلام واحد، له أصول مشتركة وعقائد محددة يُلزم الناس بها ولا توجد عبادات ظاهرة تجب على عموم المسلمين، فليس هناك إسلام صحيح موافق للحق وإسلام باطل، وإنما لكلٍّ إسلامه وتصوره، وكل التصورات صحيحة ولو كانت منتاقضه مع نفسها[39].

وإذا كانت الباطنية القديمة حاولت أن تشرِّع لأفكارها بالاستدلال ببعض النصوص الشرعية والتراثية، فكذلك الحال في الباطنية الحداثية؛ فإن عدداً من روادها سعوا جاهدين في محاولة التعلُّق ببعض النصوص الشرعية والتراثية لتأسيس الشرعية لنظريتهم وموقفهم[40].

كل الشواهد السابقة تؤكد للقارئ على أننا أمام موجة جديدة من الباطنية، وأننا نشهد حالة انتعاش للمعول الباطني التي استخدم في تقويض معالم الشريعة الإسلامية سابقاً، وأننا في الحقيقة نستمع إلى صدى عالٍ ومتكرر لمواقف شهدها التاريخ الإسلامي من قبل.

والمستقرئ لنتائج الباطنية الجديدة يدرك بوضوح أننا أمام تحريف جديد للإسلام؛ فقد تغيرت معالم الإسلام الأساسية وتبدلت ملامحه الأصلية وانقلبت سماته الذاتية وصفاته الخاصة، وأصبح في المنتج الحداثي صورة أخرى مختلفة عما يعرفه المسلمون من دينهم؛ فالإسلام الذي يريد أن تصل إليه الباطنية الحداثية إسلام محرَّف ومبدَّل ومشوَّه، وليس هو الإسلام الحقيقي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون من بعدهم.

ونتيجة لما بين الباطنيتين من ارتباط منهجي وثيق حرص العقل الحداثي على أن يتبنى الباطنية القديمة ويثني على أتباعها ويقوم بإبرازهم وإخراجهم للوجود مرة أخرى، كما فعل نصر حامد أبو زيد وعلي حرب مع ابن عربي، وكما فعل محمد أركون مع أبي حيان التوحيدي، وكما فعل حسن حنفي مع السهروردي[41] فإنهم صوروا هؤلاء وغيرهم من الباطنية على أنهم الممثلون للعقلانية والفكر المستنير والتجديد والتطور في التاريخ الإسلامي.

ولا بد من التأكيد في ختام هذه المقارنة المنهجية على أن الحكم بالتطابق بين الباطنية القديمة وبين الباطنية الحداثية المعاصرة ليس معناه الحكم بالاتفاق بينهما في كل مفاصل الفكر ولا في كل فقرات النظرية نفسها، فإنه مع ما بينهما من اتفاق إلا أنهما تختلفان في عدة جهات:

الأولى: من جهة الفكرة المركزية؛ فالباطنية القديمة كانت ترتكز على فكرة الإمام المعصوم في تحديد المرجعية التي تحدد المعاني الباطنية، والباطنية الحداثية ترتكز على فكرة «التاريخية» التي تعني أن كل فكرة مرتهنة بزمانها وواقعها الخاص، فهذه الفكرة تمثل المرجعية التي يُعتمَد عليها في تحديد المعنى الباطني الجديد للحقيقة الشرعية.

الثانية: من جهة المنفذ التبريري، فالباطنية القديمة حاولت النفوذ إلى الفكر الإسلامي من خلال استغلال الانتساب إلى آل البيت النبوي، والتظاهر بحبهم والانتصار لهم، والباطنية الحداثية تحاول النفوذ إلى الفكر الإسلامي من خلال استغلال الانتساب إلى العلم والتطور والتقدم والحضارة والخروج من الأزمة العربية.

الثالثة: من جهة الدعم والتمويل، فالباطنية القديمة كانت تعاني من الانفراد والانعزال عن المجتمع وقُوبِلت بإنكار صارم من العلماء وكثير من الحكام وعموم المسلمين؛ فهي لم تلق دعماً ولا تمويلاً يساعدها على الانتشار، وهذا بخلاف الباطنية الحداثية، فإنها تحظى بدعم سخي من بعض الحكومات العربية والغربية، وتُعقد لها المؤتمرات والندوات في كثير من الجامعات والمعاهد، ويُبرز دعاتها في الفضائيات على أنهم هم رواد للفكر الإسلامي ومجدِّدوه.

الرابعة: من جهة الوضع الثقافي والسياسي للعالم الإسلامي، فالباطنية القديمة خرجت في زمان كان العالم الإسلامي يعيش في عز مجده وفي عنفوان فتوته وقوته، سواء في المجال العلمي والمعرفي أو في المجال السياسي، وإما الباطنية الحداثية، فقد خرجت في زمان يعاني فيه العالم الإسلامي من الضعف الفكري والسياسي ومن التشتت وسطوة العدو وطغيان الاستبداد وتغييب الشعوب، وفي مثل هذه الحالات يعم الجهل بالدين وبحقائقه ومعالمه، ويتسبب ذلك عادة في تفتح الأبواب لنفوذ المناهج المخالفة لحقائق الدين ولأصوله.

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)


[1] انظر: فضائح الباطنية، الغزالي (ص11 - 17)، وبيان مذهب الباطنية وبطلانه، الديلمي(ص21 - 22).

[2] انظر: بيان مذهب الباطنية وبطلانه، الديلمي (ص39).

[3] انظر في أهمية المعنى الباطني لدى الباطنية ومنزلته: العقائد الباطنية، صابر طعيمة (ص11 - 16).

[4] رسائل إخوان الصفا (4/138).

[5] انظر: أمثلة كثيرة على التفسيرات الباطنية للقرآن: أساس التأويل، القاضي النعمان ابن حوية (ص184، 188)،و العقائد الباطنية، صابر طعيمة (ص59 - 65).

[6] انظر: الجيل الثالث، مصطفى غالب – الباحث الباطني – (ص141).

[7] انظر: تأويل الدعائم، ابن حيون الإسماعيلي (1/177، 179 ) و (3/58، 59)، وبيان مذهب الباطنية وبطلانه، الديلمي (ص28)، وفضائح الباطنية، الغزالي (ص46 - 53).

[8] انظر: العقائد الباطنية، صابر طعيمة (ص17 - 19).

[9] انظر: راحة العقل، الكرماني (ص195 - 196).

[10] انظر: إثبات النبوات، السجستاني (ص111).

[11] انظر: فضائح الباطنية، الغزالي (ص40 - 43).

[12] انظر: فضائح الباطنية، الغزالي (ص44 - 46).

[13] انظر في الاستدلال بهذا الحديث: أعلام النبوة، الرازي (ص19).

[14] انظر: فضائح الباطنية، الغزالي (ص36، 156)، ومجموع الفتاوى، ابن تيمية (9/134) و (11/581).

[15] تاريخية الفكر الإسلامي، أركون (ص145).

[16] تاريخية الفكر الإسلامي، أركون (ص139).

[17] اليسار الإسلامي، حسن حنفي (ص2/395).

[18] النص القرآني، طيب تيزيني (ص375).

[19] نقد الخطاب الديني، نصر حامد (93).

[20] نقد النص، علي حرب (24).

[21] نقد النص، علي حرب (22)، وانظر: نقد الحقيقة، علي حرب (49).

[22] نقد الحقيقة، علي حرب (83).

[23] انظر: نقد الحقيقة، علي حرب (19، 34)، ونقد النص، علي حرب (87).

[24] انظر: من الاجتهاد إلى نقد الفكر الإسلامي، محمد أركون (ص38، 39، 97)، والإسلام بين الرسالة والتاريخ، الشرفي (ص11 ،29)، ومفهوم النص، نصر حامد أبو زيد (ص301).

[25] من العقيدة إلى الثورة، حنفي ( 1/58).

[26] التراث والتجديد، حنفي (ص113).

[27] انظر: الفكر الإسلامي قراءة علمية (ص102).

[28] قضايا في نقد الدين، أركون (ص281).

[29] من العقيدة إلى الثورة، حنفي (5/87).

[30] من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أركون (ص96)، وانظر: القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص19 - 22).

[31] انظر: مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد (ص56)، وتاريخية الفكر الإسلامي، محمد أركون (ص38).

[32] انظر: نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد (ص189).

[33] من العقيدة إلى الثورة، حنفي (4/531).

[34] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، الشرفي (ص45).

[35] انظر أمثلة على ذلك: العلمانيون والقرآن الكريم، أحمد الطعان (ص815).

[36] من العقيدة إلى الثورة، حنفي (4/533).

[37] قراءات في القرآن، محمد أركون (ص12) نقلاً عن (العلمانيون والقرآن)، الطعان (ص346)، وانظر: العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية تكري الربيعو (ص128).

[38] انظر: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبدالمجيد الشرفي (ص59 - 72)، والعلمانيون والقرآن الكريم، أحمد الطعان (ص833).

[39] انظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، محمد أركون (ص189)، والإسلام بين الرسالة والتاريخ، الشرفي (ص14)، والممنوع والممتنع، علي حرب (ص 108، 180)، ونقد الحقيقة، علي حرب (ص83).

[40] انظر: حصاد الزمن (الإشكالات) حسن حنفي (ص65)، ومفهوم النص، نصر حامد أبو زيد (ص43).

[41] انظر في نقل كلامهم: العلمانيون والقرآن الكريم، أحمد الطعان (ص736 - 737).

أعلى