إن صيغة الأمركة، والأوربة، هي صيغة تعميمية تنميطية، ترتبط بالاقتصاد المعولم، والتجارة السلعية، والإعلام، أكثر مما هي في الواقع، بل إنها قابلة للتغير؛ لأن وسائل الاتصال متاحة لكلّ مَن امتلك المال والقدرة والمنافسة.
يتمثل السؤال الأساس في هذا المقال في: كيف تكون الرواية العربية محقِّقة
للكونية/ العالمية في فضائها الإنساني؟
إنه سؤال يتصل بالهوية وعلاقتها بالرواية، ويتفرع من هذا السؤال أسئلة عديدة؛ هل
يتم ذلك عن طريق مناقشة القضايا الإنسانية العالمية؟ أم يكون عن طريق تناول القضايا
الإنسانية المحلية؟ أم عن طريقهما معًا؟ وبأيّ أشكال أو تقنيات يُمكنها تحقيق ذلك؟
ومكمن الجدل في هذا السؤال؛ أن الكثيرين يعتقدون أننا إذا فارقنا محلّيتنا، وقمنا
بكتابة روايات عن المشكلات العالمية، وأبرز القضايا الفكرية التي تهمّ المجتمعات
الإنسانية؛ فإننا بذلك نصل للعالمية، بدلاً من الإغراق في المحلية.
وبالفعل هناك روائيون يضعون أعينهم على الغرب وحركة الفكر والفلسفة في العالم، بل
ويتعمدون أن تكون رواياتهم في بيئة اجتماعية متعولمة؛ مدّعين أن الحضارة الحديثة في
عصر العولمة، انتفت فيها خصوصيات المكان والإنسان، وأضحت المدن والعمارة الحديثة
متشابهة في الشوارع والبنايات والوظائف والهموم والآلام، وكذلك في الطعام والملابس
ونمط الحياة ونوعية الأفلام التي نشاهدها.
وهذا الكلام يتبنَّاه بعض أنصار العولمة، الذين يرون أن هذه سيرورة تسير فيها
البشرية، بحكم ثورة الاتصالات وسهولة المواصلات، وتراجع الدولة القومية، وصعود
التدفقات العالمية بمختلف أشكالها؛ مما أوجد حياةً نمطيةً للإنسان، خاصةً مع سهولة
تدفُّق التجارة والسلع، وتشابه الأذواق الاستهلاكية وتقارب الثقافات[1].
بلا شك فإن وجهة النظر هذه لها نصيب من الواقع، ولكنها ليست كل الواقع؛ فخصوصية
الإنسان والبيئة والثقافة والأديان والعادات والتقاليد، وأيضًا الاتجاه المضاد
لتيار العولمة، الذي يرى أنها ليست تقاربًا إنسانيًّا، وإنما سَعْي لأمركة العالم،
واستمرار في سياسة نشر التغريب
Westernization،
وأن العولمة ما هي إلا موجة أخرى للتمدُّد الغربي، وقد سبقتها مِن قَبْل نزعة
الأوربة
Europeanization،
وكلها مصطلحات وثيقة الصلة بالإمبريالية والكولونيالية الغربية، وتتغاضى عن عمدٍ عن
الاختلافات داخل الغرب وداخل الثقافة الأمريكية ذاتها[2]،
فالغرب ليس كلاً واحدًا، وهناك تباينات في الثقافات الغربية، كما هو الحال في
الاختلافات الثقافية والفكرية بين الثقافة الإنجليزية والثقافة الفرانكفونية،
والثقافة الألمانية، وأيضًا ثقافات الشعوب الأوروبية صغيرة العدد، والمتمسكة
بلغاتها وهويتها القومية، مثل إيطاليا والدول الإسكندنافية وإسبانيا والبرتغال.
ونفس الأمر مع الثقافة الأمريكية؛ لأن أمريكا من الداخل خليطٌ من الثقافات
الأوروبية، بالنظر إلى أنها كانت مقصدًا لمهاجري أوروبا، بجانب عشرات الثقافات
النابعة من الجنسيات والأعراق المختلفة التي هاجرت واستقرت وتجنَّست بالجنسية
الأمريكية، ونطقت بلغتها، ولكنها لا تزال متمسكة بجذورها، ربما تكون هناك ثقافة
غالبة في المجتمع الأمريكي أو الأوروبي، ولكنها لا تلغي ولا تُقصي التحيُّزات
الثقافية، سواء لدى الشعوب الأصلية، أو لدى المهاجرين والمتجنّسين، والدليل قائم
أمامنا، من خلال اليمين العنصري في أمريكا وأوروبا، والذي صعد بقوة خلال العقد
الثاني من القرن الحادي والعشرين، مستدعيًا إرثًا ثقافيًّا غربيًّا يعود إلى قناعات
مترسّخة منذ الحقبة الاستعمارية وما قبلها.
وبالتالي، فإن صيغة الأمركة، والأوربة، هي صيغة تعميمية تنميطية، ترتبط بالاقتصاد
المعولم، والتجارة السلعية، والإعلام، أكثر مما هي في الواقع، بل إنها قابلة
للتغير؛ لأن وسائل الاتصال متاحة لكلّ مَن امتلك المال والقدرة والمنافسة.
ويظهر في المقابل نظرية “التخالف الثقافي” التي تُشدّد على الاختلافات الدائمة بين
الثقافات، فكلّ ثقافة لها مكوناتها وخصوصيتها وفرادتها، ويصعب أن تتلاشى مع طغيان
ثقافة العولمة أو طروحاتها، أو أن تخضع لأية عمليات أو تدفقات ثنائية متبادلة،
متعددة ومتعدية، وهذا لا يعني عدم تأثرها بالغزو الفكري والثقافي بحكم ثورة
الاتصالات، وإنما يعني أنها لا تتأثر بها كثيرًا من ناحية الجوهر، دون المساس
بالجوهر والبنية العميقة للثقافة، بل وتبدو هذه الثقافات مغلقة بصفة أساسية أمام
السيرورات العالمية، وإنما أيضًا أمام أيّ مؤثرات أخرى. فالثقافات في العالم أشبه
بالفسيفساء، وهناك ثقافات منعزلة، لا تعنيها العولمة ولا تتأثر بالتغيرات الحادثة[3]،
مثلما هو الحال في المجتمعات الصغيرة والنائية والفقيرة، خاصةً إذا كانت الثقافة
بقناعات عقدية ودينية، فإنه يصعب تغييرها. وبذلك تبقى العولمة مجرد مظاهر خارجية
أشبه بالفقاقيع على السطح الماء، قد تعكر صَفْوه، دون تأثير كبير فيه.
ولذا، فإن الثقافة العربية الإسلامية على كل ما فيها من انفتاح وقبول للآخر؛ فإنها
لا يمكن أن تُذاب في مؤثرات العولمة، ولا في ثقافة أخرى مهيمنة؛ لأنها ثقافة ترتبط
بحضارة كبرى، ولها هويتها الإسلامية ومسيرتها التاريخية الحافلة، ومساهمة شعوب
عربية وغير عربية في صُنعها، بجانب امتداداتها الجغرافية، وإنتاجها الإبداعي
والعلمي، وبالتالي قد تتأثر قليلاً، ولكنَّه تأثُّر محدود، قد يتلاشى سريعًا.
هذا النقاش عن العولمة والتأثيرات الثقافية يعود بنا إلى النظر في موقف الرواية
العربية من قضية عالمية الأدب، بكل أبعادها الإنسانية، وكيف يمكن تحقيق ذلك.
فالرواية العالمية ترتبط بمفهوم عالمية الأدب، وقد تناولته المناهج النقدية
المقارنة؛ كما يقول إيتامبل، وأفاضت في مناقشته، ورأت أنه: تمثّل عالميّ، شهرة
عالمية، تَلَقٍّ عالميّ، تداول عالميّ؛ هذا على مستوى الكَمّ، أما على مستوى
الكَيْف فهو يتصل بانتشار النوع، والمستوى، والقيمة، والمعايير، فالكيف يعني
دينامية متزايدة غير محدودة، تنمو مع المكتسبات الجديدة، مهما كان موقعها في
العالم، ومن البدهي أن يتم تجاوز البعد الأوروبي[4].فالمعيار
العالمي يعني النظر إلى الجودة الأدبية، التي تجعل العمل مقروءًا في لغات عدة بعد
انتشاره، والسبب في ذلك يعود إلى الأجواء والأفكار التي يطرحها العمل من ناحية
الفكرة والأحداث والشخصيات، وأيضًا القدرة على التشويق من خلال بنية وأسلوب ماتعين.
بغضّ النظر عن معيار المركزية الأوروبية الذي ينظر بدونية إلى ما يسميه إيتامبل
الآداب الصغرى، والتي تحمل حقائق جمالية، تجعل من الحكم على هذه الآداب بأنها قاصرة
وهامشية ومهمَّشة ومألوفة بشكل ضئيل أو أقل مألوفية، أو المعروفة بشكل قليل؛ فكلها
أحكام لا تتصل بالجودة، وإنما بالكمية، وشتَّان بين الاثنين، فانتشار الآداب
الأوروبية يعود إلى الحقبة الاستعمارية الكبرى[5]
إبَّان القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وقد واكبه انتشار آدابه
وفنونه وقِيَمه في الحكم على الأعمال الفنية وتذوُّقها، فلما تُرْجِمَت الآداب
الصغرى، تفاجأ العالم برَوْعتها وفِكْرها العميق.
فالعالمية ترتبط بنوعية الأدب، وما يطرحه من قِيَم أدبية رفيعة، أما ذيوع الرواية
عالميًّا فيتأتَّى من خلال الترجمة النَّشطة إلى لُغَات عدَّة، خاصةً اللغات ذات
الانتشار العالمي مثل اللغة الإنجليزية والفرنسية، مع حملات الدعاية والتسويق.
[1] العولمة: نص أساس، جورج ريتزر، ترجمة: السيد إمام، المركز القومي للترجمة،
المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2015م، ص91-95.
[2] المرجع السابق، ص173، 174.
[3] المرجع السابق، ص518، 519.
[4] مراجعة الأدب العالمي، أدريان مارينو، ترجمة: عبد النبي ذاكر، دار الغرب للنشر
والتوزيع، وهران، الجزائر، د ت، ص67، 68.
[5] المرجع السابق، ص11.