• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هل عادت أمريكا إلى المنطقة؟

لا شك أن الاهتمام الأمريكي بالمنطقة العربية ليس مجرد أفكار بسيطة أو توجهات ذات بعد واحد تتعلق بها؛ بل هي مجموعة من العوامل المتشابكة والمعقدة المتعلقة بالسياسة الأمريكية.

«لن نتركَ الشرق الأوسط ولن نسمحَ لقوى أخرى بملء الفراغ».

هكذا تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال لقائه قادة دول الخليج وثلاث دول عربية أخرى في مدينة جُدة، وفي كلمة أمام الرؤساء والملوك والمسؤولين الممثلين لست دول خليجية والأردن ومصر والعراق، شدد بايدن على أنه أول رئيس أمريكي يزور الشرق الأوسط، من دون أن يكون الجيش الأمريكي منخرطاً في حرب بالمنطقة منذ 11 سبتمبر 2001م.

وقال بايدن: «لن نتخلى عن الشرق الأوسط ولن نترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران»، مضيفاً: «اسمحوا لي أن أختتم بتلخيص كل هذا في جملة واحدة: الولايات المتحدة ملتزمة ببناء مستقبل إيجابي في المنطقة بالشراكة معكم جميعاً ولن تغادر».

وجاء البيان المشترك الذي صدر بعد عدة ساعات من اللقاء ليضيف عدة محاور أخرى:

فقد تعهد فيه القادة بالحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين وتعميق تعاونهم الدفاعي والاستخباري، كما شدد البيان على الجهود الدبلوماسية لمنع إيران من تطوير سلاح نووي، داعياً لتعزيز قدرات الردع المشتركة ضد التهديد المتزايد.

كما أقرَّ القادة في بيانهم المشترك بالجهود المستمرة التي تبذلها منظمة أوبك لتحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمية، مرحبين بإعلان المنظمة زيادة المعروض على مدار شهرَي يوليو وأغسطس.

وينص البيان على تأكيد إدارة بايدن رغبتها في الترويج لما سمي برؤية جديدة للشرق الأوسط تقوم على الحوار والتعاون الاقتصادي والعسكري، مدعومة بمحاولات لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.

وبعيداً عن الخطابات المفعمة بالآمال التي ألقيت في هذا المؤتمر، واللغة الدبلوماسية للبيان المشترك، والزخم الإعلامي المصاحب لتلك الفاعلية، هناك تساؤلات تخطر على ذهن الكثيرين، منها:

- هل هناك بالفعل تغيير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط؟

- ما دوافع هذا التغير؟ وهل يمكن أن يتحقق بالفعل أم أن الأمر لن يتعدى الآمال والأمنيات؟

- وما أثر هذا التغير - إن وجد - على الصراع بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة؟

لكي نستطيع أن نحدد أن هناك تغييراً في الإستراتيجية الأمريكية يجب علينا في البداية فهم الدوافع الأمريكية تجاه المنطقة وتاريخ إستراتيجياتها المختلفة عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى هذه اللحظة الراهنة.

البدايات:

لا شك أن الاهتمام الأمريكي بالمنطقة العربية ليس مجرد أفكار بسيطة أو توجهات ذات بعد واحد تتعلق بها؛ بل هي مجموعة من العوامل المتشابكة والمعقدة المتعلقة بالسياسة الأمريكية.

وعند الحديث عن تاريخ ذلك الاهتمام نلاحظ أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تطورت العلاقات بين الولايات المتحدة وبين دول المنطقة لتأخذ بُعداً جديداً متأثرة بثلاثة عوامل مهمة حينها:

العامل الأول: كان يمثل الرغبة الأمريكية في الهيمنة على العالم، تلك الرغبة التي اكتسبت زخماً حقيقياً بعد أن قادت أمريكا العالم عسكرياً في التخلص من هتلر والنازية عدو الغرب الأكبر، لتقود أمريكا الغرب في صراع جديد مع القوة المنافسة الأخرى وهي الاتحاد السوفييتي.

العامل الثاني الذي ساهم في بدايات الاهتمام الأمريكي هو احتلالُ الصهاينة فلسطين وإعلانُهم دولتهم، وأعقبه اندلاع الصراع الذي عُرِف وقتها بالصراع العربي الصهيوني، والمعروف أن هناك لوبياً صهيونياً قوياً داخل الولايات المتحدة، نواته توجه بروتستانتي ينظر إلى الدولة اليهودية في فلسطين على أنها شرط نزول المسيح في عقيدتهم ليقودهم للسيطرة على العالم كله.

العامل الثالث للاهتمام الأمريكي بالمنطقة، هو تفجر النفط في المنطقة العربية التي باتت تستحوذ على الإنتاج والاحتياطي الأهم عالمياً في أراضيها، مع تزايد اعتماد العالم الصناعي على البترول باعتباره مصدراً للطاقة، إذ تبلغ نسبة احتياطي النفط في الوطن العربي نحو 415 مليار برميل نفط تقريباً؛ أي ما نسبته 65.7% من الاحتياط العالمي من النفط الخام المقدرة بـ 724 ملياراً و 500 مليون برميل نفط تقريباً.

ونتيجة تلك العوامل صنف الساسة والإستراتيجيون الأمريكان المنطقة العربية، بأنها أكثر المناطق الإستراتيجية أهمية في العالم، وأنها إحدى أضخم الغنائم المادية في تاريخ العالم، وَفْقاً لما قاله نعوم تشومسكي.

في حين توقع واحد من كبار الدبلوماسيين الأمريكيين في الخمسينيات من القرن الماضي وهو رايموند هير، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها الانقسام الأكبر في علاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط؛ أن تلك المصالح الأمريكية ستصبح خلفية وسببَ معظم التدخلات الأمريكية في شؤون الشرق الأوسط، وستصبح سبب العديد من الصراعات المستقبلية بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

حرب الخليج الأولى:

عندما غزا العراق الكويت عام 1990م - وربما كان ذلك بتحريض خفي أمريكي - استغلت إدارة جورج بوش الأب الموقف وجعلت الساحة العربية منطلقاً لإعلان أنها القوة الأولى العالمية دون منافس؛ ليس لمجرد سقوط المنافس لها عالمياً عند تفكك الاتحاد السوفييتي، ولكن أرادت إظهار تفوقها وهيمنتها عملياً وليس نظرياً على أرض الواقع، فاختارت المنطقة العربية لتكون مسرحاً لتلك اللعبة، حينها انطلقت الجيوش وأساطيل الولايات المتحدة تقود جيوش 27 دولة خلفها، لتدمِّر قوات العراق المسلحة وكلِّ البنى التحتية للعراق، بالإضافة إلى قتل مئات الآلاف من المدنيين والعسكريين العراقيين عمداً، ثم البدء بحصار الشعب العراقي الذي وصفه الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه (حرب الخليج) بأن البشرية منذ خلق الله آدم وحتى قيام الساعة لن تشهدَ له مثيلاً.

الحادي عشر من سبتمبر:

هذه اللحظة تمثل تطوراً جديداً في النظرة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط؛ إذ دخل عامل جديد وهو ما أطلقت عليه الولايات المتحدة (الإرهاب)، ليكون أحد محددات الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية، وذلك بعد قيام مجموعة من الجهاديين العرب بشن هجمات متزامنة على مجموعة على أهداف إستراتيجية أمريكية في نيويورك وواشنطن، واتخذت إدارة بوش الابن هذه الهجمات ذريعة لشن حربٍ على العراق وأفغانستان، واحتلت عاصمتي كلٍّ من البلدين لأول مرة في تاريخ الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية، وأسقطت حكومتيهما، بعد قتل عشرات الآلاف من أبناء الشعبين، وما لبثت أن تعرضت القوات الأمريكية لهجمات ناجحة من قِبَل المقاومة العراقية والأفغانية كبدت الأمريكان خسائر فادحة، وهو ما دفع أمريكا إلى تغيير إستراتيجيتها في المنطقة والانسحاب العسكري منها.

أوباما وما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق:

أخذت أمريكا درساً هامّاً من هزيمتها المريرة في العراق، وهي عدم تدخُّلها العسكري بحشود عسكرية على الأرض، والاكتفاء بالقصف الجوي أو دخول وحدات محدودة من المارينز في الحدود الضرورية كما حدث في سوريا، وكذلك حرصت الولايات المتحدة على وجود قوة إقليمية تَعْهَد إليها بإدارة المنطقة وتكون وكيلاً إقليمياً لها.

كانت القوة الإقليمية الأنسب من وجهة نظر إدارة أوباما هي إيران، التي أثبتت جدارتها في العراق، فعملت أمريكا على تجاوز العقوبات الغربية ضد إيران وعقد اتفاق نووي معها؛ ليتم تأهيل إيران وقبولها عالمياً مرة أخرى وراعية للمصالح الأمريكية في المنطقة، كي تتفرغ الولايات المتحدة لتهديدات رأت أنها أكثر خطورة على زعامتها العالمية؛ خاصة تلك التهديدات القادمة من الصين وبدرجة أقل روسيا.

ترامب وتغيير البوصلة:

انتهزت إيران الفرصة وتوغلت في المنطقة، فبعد هيمنتها على بغداد تمكنت من إخضاع عدة عواصم عربية أخرى لسيطرتها، فسقطت دمشق وصنعاء وبيروت، الأمر الذي أقلق الكيان الصهيوني وشعر أن الهيمنة الإيرانية على المنطقة تنتقص من طموحاته في أن يكون الزعيمَ والمهيمنَ على المنطقة، فغيَّر الكيان الصهيوني من إستراتيجيته التي تسمى (شد الأطراف)؛ القائمة على التحالف مع القوى التي تقع على أطراف المنطقة كإيران، إلى محاولة الحدِّ من هيمنتها وإرجاعها مرة أخرى إلى دورها المطلوب صهيونياً وهو كبح جماح أي تطلع سُني للهيمنة في المنطقة.

تزامن هذا مع صعود إدارة ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، التي استمدت نجاحها المفاجئ في الانتخابات من الدعم البروتستانتي الموالي للدولة الصهيونية، فحاولت تلك الإدارة التناغم مع الكيـان الصهيوني في أحلامه بزعامة المنطقة العربية وقيادتها في اتجاهين:

الأول: تشجيع دول المنطقة على التطبيع مع الكيان الصهيوني والتحالف معه ضد إيران.

والثاني: لجم إيران وإعادة فرض العقوبات وحالة الحصار.

بايدن ومحاولة العودة مجدداً:

ركزت إدارة بايدن على إزالة آثار ما فعلته إدارة ترامب في المنطقة؛ فحاولت إحياء نهج أوباما بالابتعاد عن المنطقة ومشاكلها والتركيز على التحديات التي تواجه أمريكا عالمياً، فحددت في بدايات حكمها في وثيقة الأمن القومي، الصين أولاً وبعدها روسيا باعتبارهما أبرز التحديات، وحاولت في الوقت نفسه إقفال الملفات القديمة التي أثارتها إدارة ترامب عليها، وأبرزها هو الموقف من إيران، فدخلت في مباحثات مع النظام الإيراني لإحياء الاتفاق النووي مجدداً.

ثم تورطت الإدارة الأمريكية في احتواء روسيا أثناء الحرب الأوكرانية، ومحاولاتها تطبيق نظام عقوبات قوي ضد روسيا، كان من أبرز بنوده مقاطعة حلفاء أمريكا للنفط والغاز الروسي اللذين يشكلان عماد الاقتصاد الروسي، وفي الوقت نفسه أدت مقاطعة النفط الروسي إلى تصاعد الأسعار، وهو ما نتج عنه ارتفاع أسعار البنزين ووقود السيارات، وهو ما قلل من شعبية بايدن داخلياً، وحزبه الديمقراطي مقبل في نوفمبر القادم على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.

والتفت بايدن مرة أخرى إلى المنطقة العربية التي تركتها الولايات المتحدة أمام الأطماع الإيرانية قبل ذلك، ووجد العرب الطلبات الأمريكية بزيادة كميات النفط في الأسواق العالمية لتعويض النفط الروسي فرصة لمطالبة الطرف الأمريكي بإعادة النظر في علاقاته مع إيران؛ بل باعتبار العرب قوة تصلح لقيادة منطقتهم بأنفسهم بعيداً عن توكيل أي قوة إقليمية أخرى بإدارتها.

فهل سينجح العرب في هذا التحدي وفرض كيانهم قوة إقليمية تدير المنطقة بنِديَّة واستقلالية؟

 


أعلى