• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإشارات التربوية في (الكناية) القرآنية

(الكناية) أبلغ من التصريح، وأنها من التعبيرات البيانيَّة الغنيَّة بالاعتبارات الأخلاقيَّة والإشارات التربويَّة؛ فهي تُضفي على المعنى جمالاً، وتزيده قوة، وتُبرز المعاني في صور حسيَّة تُبيِّن قُبحها أوْ جمالها، ومِن محاسنها: تهويل المعنى، وشدة وقْعهِ في الن


(الكِنايَة) أحد أَسَالِيبِ القُرآن البلاغيَّة؛ الغنيَّة بالاعتبارات الأخلاقية والإشارات التربوية، لأنها ترمي إلى ذِكْرِ الشَّيْءِ بِغَيرِ لَفظِهِ الموضوع له. يَعني: أنْ تتكلم بالشيء، وتُريد غيرَه. يقال: كنيْتُ بكذا عن كذا، إذا تركت التصريح به.

والكناية تتفاوت إلى: التعريض، والتلويح، والرَّمز، والإِيماء، والإِشارة والإِرداف.

وقد اتفق علماءُ اللغة على أنَّ (الكناية) جزء من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة لا تكون إلَّا بحيث يطوى ذِكْر المستعار له، وكذلك الكناية فإنها لا تكون إلَّا بحيث يطوى ذِكْر الـمُكنَّى عنه.

ونسبة الكناية إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عام، فكل كناية استعارة وليست كل استعارة كناية.

ويفرق بينهما مِن وجهٍ آخَر؛ أنَّ الاستعارةَ لفظها صريح، والصريح هو ما دلَّ عليه ظاهر لفظه، والكناية ضد الصريح؛ لأنها عدول عن ظاهر اللفظ.

وعلى هذا يكون بين الكناية والاستعارة ثلاثة فروق:

أحدها: الخصوص والعموم.

ثانيها: الصريح وغير الصريح.

ثالثها: حمل الكناية على جانبي الحقيقة والمجاز.

والاستعارة لا تكون إلَّا مجازاً، كما في قول الله - تعالى -: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]. نلحظ فيه التطـابق بين الـمُكنَّى {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، وبين المُكنَّى عنه (السفينة). يقول الإمامُ الرازي: الكناية بالألواح والدُّسُر في هذا السياق إشارة إلى أنَّ نجاة نوح ومَن معه؛ إنما هيَ بعناية الله وحده، لا بتلك السفينة، فما هيَ إلَّا مجرد ألواح رُكِّبتْ فيها دُسُر[1].

وانظر إلى قوله - سبحانه -: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. تصعير الخد: كناية عن التبرُّم بالناس وعدم الإقبال عليهم، بلْ التعالي عليهم. وقوله {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} كناية عن الكِبْر.

وتأمل قوله - جلَّ شأنه -: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29]. فاليد عادة تستخدم في العطاء أوْ في المنع. فقوله: {مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ} أيْ: مقيَّدة، واليد عندما تُقيَّد لا تستطيع الإنفاق، فهي كناية عن البخل والإمساك. وقوله: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} بسْط اليد: كناية عن البذل والعطاء، والنهي هنا عن {كُلَّ الْبَسْطِ}، فيباح بعض البسْط، وهو الإنفاق في صدد الحاجة والضرورة. وللكِنَايَةِ أَسبَاب، منها:

  أَنْ يَكُونَ التَّصرِيحُ مِمَّا يُستَحْيَا مِن ذِكْره: مثل الكِنَايَة عَنِ الجِمَاعِ بِالملَامسَةِ، قَال - تَعَالَى -: {وَإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: ٦]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الملَامَسَةُ: هي الجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا يَشَاءُ.

  أَنْ يَكُونَ التَّصرِيحُ مِمَّا يُستَقبَحُ ذِكْرُه: مثل الكِنايةُ عَنِ البَوْلِ والبراز بِالغَائِطِ، قال - تعالَى -: {وَإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}. فَقَولُه: {مِّنَ الْغَائِطِ}، كِنَايَةٌ عن البوْل والبراز، وَأَصْلُ الغَائِطِ المكان المنخَفِض من الأرض، حيث يرتاده من أراد قضاء حاجته، جرياً على عادة العرب، وهي أنَّ الإنسان إذا أراد قضاء حاجته قصد مكاناً منخفضاً من الأرض وقضى حاجته فيه، فذُكِر عمَّا يُستهجَن ذِكْره، فكنَّى عنه بمكانه، وهو كناية عن الحدث.

 وَمثل ذلك: الكِنَايَةُ عَنْ قَضَاءِ الحَاجَةِ بِأَكل الطَّعام، قَالَ اللَّهُ - تعالى -: {مَا الْـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]. فقوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} كِنَايَةٌ عَن قَضَاءِ الحَاجَةِ، لأنَّ أكل الطَّعامِ من لوازمه قَضَاء الحَاجَة.

  التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ قُدرَةِ الله تعالى: مثل الكِنَايَةِ عَن (آدَم) بالنَفْسِ الوَاحِدَةِ، قَال - تَعَالَى -: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: ١].

وقال - جلَّ شأنه -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189] فَقَوْله: {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}، كِنَايَةٌ عَنْ (آدَمَ)، تنبيهاً على كمال قدرته تعالَى.

فبأسلوب (الكنايــة) يمكن التعميَة، والتغطيَة، وإخفاء ما يودُّ المتكلم إخفاءه حرصاً على المكنَّى عنه، ورغبة في عدم تردُّده على الألسنة. والكناية طريقٌ من طرق الإيجاز والاختصار، كما أنها وسيلة للإقناع؛ إذ تقدِّم لنا المعاني مؤكَّدة بدليلها، وهدفها - أيضاً - تجميل الكلام وتحسينه، وإظهاره في حُلَّةٍ جديدة دون إسفاف، فمن غايتها صرف قُبح القبيح، وإظهار حُسن الحَسن.

ولوْ تأملنا أسلوب الكناية في سورة النساء - على سبيل المثال - فسنقف أمام مواضع كثيرة فيها التنبيه والتدليل على المعنى المهذَّب الجميل؛ الذي تُضفيهِ الكناية على الآية مِمَّا يُظهرها بالمظهَر اللائق الحسن البديع:

 قال - سبحانه -: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]. جاءت الكناية في قوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} في الإفضاء إلى الشيء؛ لأنه عبارة عن المباشَرة له، والذي عُني بالإفضاء في هذا الموضع هو الجماع، وهذا أسلوب تربوي مُهذَّب، فالكناية هنا تطرح مضامينها طرحاً رائعاً، فيه الفنيَّة والجماليَّة، وفيه العفَّة والحِشمة، مع الوصول إلى المقصود من الكلام.

وفي قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ...} [النساء: 23]. فقد جاءت الكناية في قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} كناية عن الجماع، أوْ المراد الخلوة.

وفي قوله - تباركت أسماؤه -: {وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]. فقد جاءت الكناية في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ} عمَّا يجري بين الرجال من الْتماس الشهوة، وحصول اللَّذة، فلا أحسنَ، ولا أجملَ، ولا ألْطفَ من كناية الله تعالى[2].

وفي قوله - جلَّ شأنه -: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْـمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، فقد جاءت الكناية في قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أيْ: الخروج عن الاستقامة والاعتدال، وظهور المخالفة، والعناد، وكانت المقارنة بالنشز من الأرض وهو المكان المرتفع، فالتعالي على الآخَر مُوجِب لفساد العلاقة، وقد بيَّنَ - سبحانه - أنَّ النشوز مذموم في الرجل كذلك؛ لقوله: {وَإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128]، والأصل في العلاقة بين الزوجين هي المودة والمحبة {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. لكيْ لا تكون سعادة طرف على حساب الطرف الآخَر. وجاءت الكناية - أيضاً - في قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْـمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، كناية عن ترك الجماع، وهذا أسلوب أخلاقي قويم.

وفي قوله - تبارك وتعالى -: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]. فقد جاءت الكناية هنا عن المداومة على المعاصي واستحواذ الخطيئة على الإنسان؛ لاشتماله على القبائح. والقرين هو التابع اللازم للإنسان، فكلما لزمه ازداد تأثُّره به، وأخذه منه، وماذا يُرتجَى مِمَّن قرينه الشيطان غير كثرة الولوغ في المعاصي، بحيث لا ترى له قُرْبَ هداية، ولا تأمَل فيه خيراً، وكل ذلك أُوجِزَ بعبارة: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا}.

وفي قوله - عزَّ سلطانه -: {إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، فقد جاءت الكناية في قوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}. كناية عن الدقِّة في الوزن والحساب، وقيام العدل في أدق الأمور، وعدم خفاء الأمور الهيِّنَة على الله، فالملِكُ - سبحانه - عدْل رحيم لا يظلم عباده أبداً.

وفي قوله - سبحانه -: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]. فقد جاءت الكناية في قوله: {تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} كناية عن شدة الندم، وبيان الخسران، وظهوره لأصحاب الموبقات. وتُسوَّى بهم الأرض يعني: خفاؤهم، وصَغَارهم بعد علوِّهِم وتكبُّرِهِم، وقد جيء بهم ليُفتَضَحوا على رؤوس الأشهاد، فتمنَّوا لوْ تبتلعهم الأرض.

 وفي قوله - عزَّ وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] . فقد جاءت الكناية في قوله: {مِّنَ الْغَائِطِ} كما مرَّ قبل قليل.

وجاءت الكناية في قوله: {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} أيْ: المواقَعَة، وقد دلَّت عليه القرينة، والإعراض عنه لصرف الذهن عن تصوره، وقد ضربتْ الآيةُ {مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مَثلَيْن لِمَا يُعفُّ عن ذِكْرِه: وهو قضاء الحاجة، والجماع؛ لأنَّ ذِهن الإنسان يتصور الكلام الذي يسمعه، فكان من الأجدر الإعراض عن المعنى الأصلي.

بلْ انظر إلى قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: ٤٤]. فقد جاءت الكناية في قوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} أيْ ميْلهم إلى الضلال، وانصرافهم عن الهداية، فهيَ كناية عن إيغالهم في غيِّهم، ولا يوجد تعبير أبعد من هذا التعبير في البعد عن الهدى والرشاد!

وتأمَّل قوله - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّـمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47]. فقد جاءت الكناية في قوله: {نَّطْمِسَ وُجُوهًا} أيْ: وقوع العذاب وانقضاء وقت التوبة والرجوع، وقد جاء طمس الوجوه لأنَّ الوجهَ علامة الإنسان فيكون طمسه خروجه عن الكرامة التي كرَّم اللهُ بها عباده، فلا يكون هؤلاء سوى مسوخ على صورة الحيوانات المكروهَة كالقِردَة، والخنازير وهي الحيوانات التي هي محل استقباح وتحقير.

وفي قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57]. فقد جاءت الكناية في قوله: {ظِلًّا ظَلِيلًا} أيْ: النعيم وبُعد الشقاء، في حين غيرهم يلاقي العذابَ، وتلفحه النار.

قال - تعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. الكناية في قوله: {شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أيْ: وقوع الخِلاف، والتنازع. فالشِّجَار هو الاشتباك بين الأمور والتداخل بينها، والأصل فيها الشجر، وتداخل أغصانه، وقد استُعمِل للخصومة لِـمَا فيها من تشابك الأيدي، فسُمِّيَ لذلك شِجاراً لمشابهة بينهما.

وفي قوله - جلَّ جلاله -: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء: 74]. فقد جاءت الكناية في قوله: {يَشْرُونَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}. أيْ: الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومعنى يشتري: (يبيع) وهي كناية عن المتاجرة؛ لأنَّ البيع والشراء في التجارة، ومعناها: أنَّ حياة الإنسان لها ثمن؛ فإمَّا يشتري بها ما رخص، أوْ يشتري بها ما غلا ثمنه.

وفي قوله - تباركت أسماؤه -: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّـمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: ٧٧]. فقد جاءت الكناية في قوله: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}، الفتيل: هو السَّحَاة التي في شق النواة. والمعنى: أنهم لا يُنقَصونَ أخس الأمور، وأبخسها عند الحساب!

وقوله - سبحانه -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْـمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. أيْ: عدم استطاعة أحد الفرار من الموت، فقدرة الله، وقدرة رُسلِه الموكَّلين نافذة!

وقوله - تعالى -: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. فالكناية في قوله: {يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أيْ: يستخرِجونه مِن مخابئهِ؛ لأنهم امتازوا على غيرهم بالنبوغ والفهم، فلا يكون البتُّ لكل مَن هبَّ ودَبَّ، وإنما يكون لِمن أُوتيَ البصيرة.

 وقوله - عزَّ وجل -: {إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90]. فالكناية في قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، والمعنى: الضيق وعدم الرغبة في الدخول في أمر، بلْ شدَّة كراهته وثِقَلِه على النفس، إضافة إلى احتباس ذلك في قلوبهم، وإذا ضاق الصدر اختنق الإنسان، وجعل ما بهم ضيقاً لاحتباس أمر من الأمور في صدورهم، وعجزهم عن البوح به فكان ذلك وجه المماثلة.

وقوله - سبحانه -: {كُلَّ مَا رُدُّوا إلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91]. فالكناية في قوله: {أُرْكِسُوا فِيهَا}، والمعنى: أنهم يُقحَمون في الفتنة كلما أرادوا الخروج منها لعدم خلوص أنفسهم، ولزيغ قلوبهم، وهي كناية عن التردُّد في الفتن لوجود مقدماتها، ودلَّ ذلك على أنَّ الفتنة غمرتهم.

وقوله - جلَّ وعلا -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْـحَقَّ} [النساء: ١٧١]. فالكناية في قوله: {تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} فالغلوُّ معناه مجانبة الحق، واتِّباع الهوى، والزيادة في الدِّين ما ليس فيه. و (الغلوَّ) من غلوِّ الماء وارتفاعه، فهي حالة طيش تُفضي إلى المضرَّة، وتجاوز الحد؛ فكما أنَّ الماء يرتفع ويخرج من المرجَل، فإنَّ الغالي يَطيش ويَخرج من الدين.

مِن هنا نعلم: أنَّ (الكناية) أبلغ من التصريح، وأنها من التعبيرات البيانيَّة الغنيَّة بالاعتبارات الأخلاقيَّة والإشارات التربويَّة؛ فهي تُضفي على المعنى جمالاً، وتزيده قوة، وتُبرز المعاني في صور حسيَّة تُبيِّن قُبحها أوْ جمالها، ومِن محاسنها: تهويل المعنى، وشدة وقْعهِ في النفس لحصول العِظَة والخشية.

ولا جَرَمَ أنَّ الكنايات القرآنية تأتي في المقدمة إذا عددنا الدقائق الفنيَّة التي كان بها القرآنُ مُعجزاً بِنظْمِه العجيب، وإيقاعهِ البديع... فسبحانَ مَن هذا كلامـــه، وهذا بيانــــه!

 

 

 


[1] تفسير مفاتيح الغيب، للإمام فخر الدين الرازي.

[2] الكناية والتعريض، لأبي منصور الثعالبي.


أعلى