• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ثمرات التوحيد

الموحِّد صحيح العقيدة يرضى بقضاء الله وقدره، لا يأخذ ما ليس له، ولا تمتد عينه، ولا يتعلق قلبه بما متع الله به غيره، ولا يحسد أحداً على خير أعطاه الله إيَّاه


الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فللتوحيد والعقيدة السليمة أثر بالغ على الدين والمجتمع، نعرض لطرف من جوانبه في السطور الآتية:

ثمرات التوحيد العائدة على الدين:

الأولى: تعلُّم التوحيد واعتقادُه يحفظ حدود الدين ومعالم العقيدة من الزيغ والضلال، ويحميها من طروء البدع والمحدثات عليها[1]، فإن تعلُّم العقيدة وتمثُّلها في الواقع يحمي الدين من عبث العابثين، وابتداع المبتدعين.

وما ضلت الأمم، بدءاً من قوم نوح عليه السلام إلى يومنا هذا إلا بسبب إهمال تعلُّم العقيدة، وترك العناية بها.

فقوم نوح عليه السلام استدرجهم الشيطان بنصب التماثيل للعُّباد الذين ماتوا، حيلة منه لعبادتها في المستقبل[2]. ولو أنهم وعَوا مكيدته، وتفطنوا لمكره، واحتاطوا لأمر العقيدة ما انطلت عليهم حِيَلُه. وهكذا حال كلِّ قوم ضلوا عن الصراط المستقيم، وانحرفوا عن الدين القويم، ونشأت فيهم الشركيات والبدع. فتقصير العامة في تعلم العقيدة والتوحيد، وتقصير كثير من أهل العلم في حراسة العقيدة بتعليم التوحيد ونشره يفضي إلى ما ذُكر.

الثانية: أن الشُّبه الواردة من أعداء التوحيد لا تندفع ولا يبين فسادها إلا بسلامة هذه العقيدة ومعرفتها، فيرشُد المسترشد بإيضاح المحجة، ويُلزَم المعاند بإقامة الحجة[3]، قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].

الثالثة: أن التوحيد تبنى عليه العلوم الشرعية، والأعمال القلبية والقولية والبدنية، فإنه أساسها، وإليه يؤول أخذها واقتباسها[4].

فالتوحيد هو مفتاح القبول للعمل والثواب عليه[5]؛ فلا خير في عمل يصدر مِن غير الموحِّد المخلص، ولا قبول له، قال تعالى: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، وقال سبحانه وتعالى في أعمال المشركين: {وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية: «فهذه هي أعماله التي كانت في الدنيا على غير سُنة رسله وطريقتهم، ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثوراً، ولا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلاً، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه كله ضائعاً، لم ينتفع منه بشيء، وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم»[6].

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانه، فمن في سبيل الله؟

وفي رواية: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياءً.

وفي أخرى: الرجل يقاتل غضباً ويقاتل حمية.

قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[7].

وعن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال له ناتل أهل الشام[8]: أيها الشيخ! حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلَّمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفَق فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار»[9].

ولأن الله تعالى عَدْل لا يظلم أحداً فإنه يعطي فاعلَ الخير رياءً حظَّه من الدنيا؛ بالذكر الحسن وغيره، كما فعل بحاتم الطائي، وغيره ممن قدَّموا للبشرية خيراً من اختراعات أو اكتشافات أو صناعات أو غيرها؛ فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «إِنَّ أَبَاكَ أَرَادَ أَمْراً فَأَدْرَكَهُ». يَعْنِي الذِّكْرَ[10].

قال ابن كثير: «وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيء أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم والإحسان إلا أن نفع ذلك في الآخرة معذوق [أي معلق ومشروط] بالإيمان، وهو ممن لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»[11].

وقال: «حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية... كان جواداً ممدَّحاً في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الإسلام، وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة والذكر»[12]، كما كشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  هذا الأمر الغيبي في حديثه آنف الذكر.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه! إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»[13].

ثمرات التوحيد العائدة على الدين المجتمع:

الأولى: تحقيق الأخوَّة واستقامة حياة الناس، والتعاون على البر والتقوى، واجتماع الكلمة، وتصافي القلوب، ونفي أسباب الفرقة والاختلاف، فلا استقامة للحياة بمعزل عن العقيدة وتحقيق التوحيد؛ فبالتوحيد الخالص وبالعقيدة الصحيحة تستقيم مصالح الناس، ويتعاونون على ما فيه الخير بإخلاصٍ وتجرُّدٍ لله تعالى، فالتوحيد والعقيدة ينظمان حياة الناس على أسس واضحة وعادلة، والموحد صالح في نفسه مصلح لغيره، لا يعتدي على غيره، ولا يستحل حراماً من دم أو مال أو عرض أو غيرها،

الموحِّد صحيح العقيدة يرضى بقضاء الله وقدره، لا يأخذ ما ليس له، ولا تمتد عينه، ولا يتعلق قلبه بما متع الله به غيره، ولا يحسد أحداً على خير أعطاه الله إيَّاه، {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: ١٣١]، {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـــينَ} [الحجر: ٨٨]، فهو راضٍ بما قسم الله له، ولا يحسد أحداً على خير أعطاه الله إيَّاه.

وهكذا يعيش أفراد المجتمع في تصافٍ وتوادٍّ وتعاون، بلا حسد ولا بغضاء ولا شحناء ولا عداوات تنهك القلوب وتستهلك الأوقات، وبهذا تصلح الحياة وتستقيم الأمور[14].

الثانية: العقيدة السليمة توحد المجتمع نحو هدف واحد، فكما فرَّقت العقيدة بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، والزوج وزوجه فذاك حيث يجب التفريق، كما قال عتبة بن ربيعة: «يا محمد!... إنا - والله - ما رأينا سخلة[15] قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتتَّ أمرنا... والله! ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى؛ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى...»[16]. إنه تفريق بين الناس! لكن على أساس العقيدة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِـحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45 وقال سبحانه: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [يونس: 93 وقال جل جلاله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذىنَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: ٤]. فهو تفريق حيث يجب التفريق، وحيث لا ينفع الاجتماع، فهو اجتماع موهوم، اجتماع على دَغَل ودَخَن، تمزِّقه أدنى مصلحة، وتفرِّقه أدنى صيحة، اجتماع سرعان ما يتصدع ويتداعى عند أدنى سبب، قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وتلك طبيعة الحق حين يتعايش الناس على وَهْم الاجتماع، فيأتيهم الحق ليغربلهم فيتساقط الطغام، وتثبت النفوس الراقية لتجتمع على مثل ما اجتمع عليه الصحابة من كل قبيلة وجنس ولغة ولون، في لُحمة نادرة هي أشد من لُحمة القبيلة والنسب والأخوة.

في حين جمعت العقيدة بالحق من أبواب أخرى أضعاف ما فرقت؛ جمعت بين الأعداء المتحاربين؛ فكيف بالإخوة المتصافين! وألَّف الله بها تأليفاً حقيقياً بين قلوب أتباعها المؤمنين، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: {وَإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْـمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وسلم ٢٦^صلى الله عليه وسلم ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 - 63].

قال الزمخشري: «التأليف بين قلوب مَن بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الآيات الباهرة، لأنَّ العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء، وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا - لا يكاد يأتلف منهم قلبان. ثم ائتلفت قلوبهم على اتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم  واتحدوا، وأنشؤوا يرمون عن قوس واحدة. وذلك لِـمَا نظم الله من أُلفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادِّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد.

وقيل هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم، ودق جماجمهم، ولم يكن لبَغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن، ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها، وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله، حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا، وصاروا أنصاراً، وعادُوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته»[17]، قال تعالى: {وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، وقال سبحانه: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقال تبارك وتعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. والعقيدة هي الرابطة بين المؤمنين، وحين تُفقَد تتعدد الاتجاهات وتتفرق الأهواء وتتباين الدعوات؛ فالمنافقون حين فقدوا رابطة التوحيد والعقيدة لم يجدوا أمامهم سوى روابط واهية كالقومية والوطنية، ونحوهما، قال تعالى: {وَإذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، فلا شيء يجمعهم وينتسبون إليه سوى الوطن، ولا شيء من الروابط يجمعهم سوى التراب، أما المؤمن - وإن كان قد خُلق من التراب - فقد تسامى بالوحي وارتقى فلم يرجع للانتساب إلى التراب مرة أخرى مفتخراً.

الثالثة: حصول الرِّفعة والعزِّ في الدنيا، والفتح والنصر والتمكين لأمة التوحيد، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: ٥٥]، وكذلك للأفراد الموحدين، قال سبحانه: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، فقد شبَّه تبارك وتعالى الإيمان والتوحيد في علوِّه وسعته وشرفه بالسماء، التي هي مصعده ومهبطه، فمنها يهبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها.

وشبَّه الذي ترك الإيمان والتوحيد وأشرك بالله بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين، من حيث التضييقُ الشديدُ، والآلامُ المتراكمةُ.

وشبَّه الأهواء التي تتوزع أفكارَه بالطير المختطِفة التي تخطف أعضاءه وتمزقها كلَّ ممزَّق، فلكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، كما أن لكل نوع من الأهواء مزعة من دينه وقلبه.

وشبَّه شياطينه التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه تؤزُّه أزّاً وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، وتُطوِّح به في أودية الضلالة السحيقة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلِفة، التي هي أبعد ما تكون من السماء[18].

الرابعة: استقرار الدين في المجتمع، وسلامته من العبث به، وحفظه من التبديل والتغيير والتحريف، فالحديث عن نشأة الفِرَق مرعب؛ كيف أن كلَّ فرقة لا تلبـث أن تتشـعب إلى فِرَق، وتتشـرذم إلى كتل، وتتشظى شرراً نارياً يحرق ما حوله من عقائد الناس بشبهاته وبلبلته.

الخامسة: سلامة المجتمع من التفرق والاختلاف، وزرع العداوات، والاحتراب على أساس الدين؛ فإن المجتمع إذا اختلَّت فيه العقيدة تمزَّق وذهبت ريحه، وهان على عدوه، فالتفرق والاختلاف من أقسى العقوبات الإلهية، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 56]، وهي خطة فرعون ليُبقي مجتمعه قَلِقاً غير مستقر: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: ٤]، فيقرِّب هذا ويُبعِد ذاك، ليرنو كلٌّ لخطب ودِّه وطلب قربه: {قَالَ نَعَمْ وَإنَّكُمْ إذًا لَّـمِنَ الْـمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 42]، ويحذِّرنا الله من التفرق في الدين، ومن المفرقين لدينهم، فيقول سبحانه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ 31 مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32]، ويبرِّئ رسوله صلى الله عليه وسلم  منهم فيقول: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، فالحفاظ على العقيدة يبقي المجتمع موحداً متماسكاً، بعيداً عن غلو الخوارج والمعتزلة وتكفيرهم للمؤمنين بلا برهان، وجفاء المرجئة الذين يتركون المخالف يشطح دون نكير، ويُحدِث في المجتمع شرخاً، ويبقي المجتمع نائياً عن عقائد القدرية والجبرية، وتصورات المؤولة وتشبيهات المجسِّمة، وخرافات المتصوفة، وإسقاط الرافضة لِنَقَلة الوحي من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

وحين تظهر وتنتشر هذه العقائد المنحرفة، فإن الظلمَ سيعمُّ والعدوانَ سينتشر، وسيختل الأمن، فيتفرق المجتمع ويختلف، وتضيع فيه معالم الدين...

إن انضباط العقائد في المجتمع واتحادها على منهاج النبوة يكون كلٌّ قد عرف الحدود والتزم الأحكام، فيأمن الناس على الأرواح والأعراض والممتلكات.


 


[1] يُنظر: المواقف، ص8.

[2] يُنظر: ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (4636).

[3] يُنظر: المواقف، ص8.

[4] يُنظر: المواقف، ص8.

[5] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد، ص58.

[6] الرسالة التبوكية (زاد المهاجر إلى ربه)، ص52.

[7] أخرجه البخاري (2655) و (2958) و (7020)، ومسلم (1904).

[8] اسم رجل، وهو ناتل بن قيس الحزامي الشامي من أهل فلسطين، تابعي، ابن صحابي.

[9] أخرجه مسلم (1905).

[10] أخرجه الإمام أحمد (18262)، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط ، وصححه ابن حبان (1/41).

[11] البداية والنهاية: 5/80.

[12] البداية والنهاية: 2/270.

[13] أخرجه مسلم (365).

[14] يُنظر: المنهاج إلى أصول الدين للصوينع، ص101 - 102، ومختصر لوامع الأنوار البهية، ص56 - 57.

[15] كلمة تحقير وذم، يُنظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 3/145، وجمهرة اللغة لابن دريد: 1/598، والنهاية لابن الأثير: 2/350.

[16] أخرجه عبد بن حميد: 1/337 الحديث (1123) وأبو يعلى: 3/349 - 350 (1818)، وابن أبي شيبة: 7/330 - 331 (36560).

[17] الكشاف: 2/221 - 222، ويُنظر: تفسير الطبري: 10/35 - 37، وتفسير ابن كثير: 1/390، 2/324، وتفسير السعدي: 1/325.

[18] يُنظر: إعلام الموقعين: 1/180، والأمثال في القرآن، ص46، والكشاف: 3/157، وتفسير السعدي، ص537.


أعلى