قلم التحرير
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه،
وبعد:
عند انبعاث الأمم وصعودها فإنها تحتاج إلى تكامل القوة مع الدهاء والسياسة، ومع
تعاظم القوة وتراكم النجاحات قد تبتلى الأمم بقادة لا يقيمون وزناً للسياسة وحُسْن
التدبير، ويتعاظم في أنفسهم الإحساس بالقوة المطلقة وأنها السبيل الوحيد لتحقيق
الطموحات وتنفيذ المشاريع، وهو ما يمكن ملاحظته في ضمور الدبلوماسية لدى السياسيين،
وتلاشي الحسِّ بمدى خطورة المنافسين لدى المخططين الإستراتيجيين. ومع مرور الزمن
يزداد الضمور ويتعمق الشعور بالثقة والتفوق لأن القوة المطلقة تحقق النجاحات وتغطي
على القصور المتعاظم في مجالَي السياسة والتخطيط؛ وهو ما يكون عاملاً أساسياً في
سرعة الهبوط والانحدار عند تناقص القوة وفقدان التفوق.
إن سُنة التداول والتدافع الأزلية تطبَّق على جميع الأمم دون استثناء، وكل أمة تأخذ
حظها من التمكين إذا اكتشفت سرَّ تفوُّقها فحتى المغول والتتر حصل لهم فرصة تمكين
وظهور لم تعمِّر طويلاً، وشعوب الغرب (الروم) حصل لهم ظهور في حِقَب متتالية،
والعرب حصل لهم ظهور عظيم تطاوَل واستمر مرتكزاً على ركن متين وهو الإسلام. وقد فهم
هذه الحقيقة ووعاها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال:
«نحن
أمة أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله».
ويبدو أن الأمم تختلف في بنيتها الشخصية فمثلاً العرب لديهم عصبية قَبَلية ولكن
الفردية طاغية فيهم ومن ثَمَّ فإن شرط تمكينهم هو ذوبان الفرد في همٍّ جماعي وهو
الدين الكامل الذي تقوم عليه الدولة ويتشكل على أساسة المجتمع. أما الغرب فشعوبهم
لديها عصبية جماعية يذوب فيها الفرد. وهنا يمكن أن نقول: إن ضعف منظومة التدين لدى
العرب - ويلحق بهم - المسلمون إيذان بفقـدان الدافـع للتماسـك المجتمعي ومن ثَمَّ
يكون السقوط في أوحال الذل والاستعباد؛ ولا يمكن العبور للتمكين والعزة إلا من خلال
بوابة الدين. وأما الغرب فإن مفتاح سقوطهم هو طغيان الفردية وتعاظمها في مجتمعاتهم؛
ولذا فإن تعميق التدين لدى مجتمعاتنا أساس في عودة الأمة للتمكين؛ ومن هنا يمكننا
فهم سبب تعرُّض المسلمين لحرب شرسة ضد مظاهر التدين ومحاولة مسخ الهوية الإسلامية
من أقصى الشرق في تركستان الشرقية (شعب الأويغور) مروراً بالهند وصولاً إلى فرنسا
(رائدة العالم الغربي في محاربة الإسلام)، وهي هجمات تزداد كلما برزت ملامح عودة
المسلمين للساحة الدولية بعد طول غياب.
ما يهمنا هنا هو التأكيد على أنه ثمة بوادر انبعاث إسلامي يدعمه دخول العالم الغربي
المسيطر على العالم في مرحلة تراجعٍ تزداد وضوحاً مع الأيام ويسرِّع من وتيرتها
فقدان أمريكا التفوق العسكري المطلق مع بروز قوى منافسة جديدة تبحث لها عن حصة في
مناطق النفوذ، وكذلك ضعف أمريكا المزمن في تدبير السياسة ورسم الخطط وَفْقَ الأوضاع
المستجدة؛ فالصين أصبحت العدوَّ الأوَّل وروسيا العدو الثاني والعالم الغربي مقسَّم
وغير متماسك لعدم وجود الاتفاق على العدو الأخطر، والأهم عدم الاطمئنان إلى ثبات
وصوابية السياسات الأمريكية وبروز النزعة الفردية وعدم المبالاة بمصالح وتخوفات
الحلفاء.
وأما العالم الإسلامي فهو ساحة الصراع الساخنة حيث يجري على ثراها صراعات دامية
لإعادة تشكيل خريطة النفوذ العالمية التي رسمتها دول الاستعمار الغربية خلال الـ
150 سنة الأخيرة، وسنعرض لسلسلة من الأحداث التي تمثل عيِّنات مختارة تقرِّب
الصورة:
أولاً:
غزو أفغانستان والعراق والتدخل في سوريا واليمن الذي حدث في مرحلة التفرد الأمريكي
ثم لم يعد بقاء الاحتلال ممكناً في هذه البلدان لمدَّة أطول دون دفع أثمان باهظة،
ولذلك كان تبرير الرئيس بايدن الانسحاب من أفغانستان هو عدم إمكانية الانتصار
عسكرياً مع وضوح التربص الصيني الروسي. وكان فشل إدارة مفاوضات الدوحة وحصول طالبان
على ما تريد، وفضيحة ما جرى أثناء الانسحاب من كابل مؤشراً على اهتراء المنظومتين
العسكرية والدبلوماسية؛ ولذا فإن المتوقع هو تنفيذ انسحاب عسكري أكثر تنظيماً من
العراق وسوريا، إلا أن الصعوبة تكمن في الترتيبات المخابراتية والدبلوماسية ومصير
الحلفاء والعملاء ولمن سيتم تسليم إدارتهم؛ إذ مستقبل مشروع كردستان الكبرى غامض،
وعودة قادة حزب العمال للإشادة بالعلاقات التاريخية مع عائلة الأسد توحي بإمكان
عودة الأوضاع إلى نقطة الصفر وهي عودة الملف الكردي إلى نظام الأسد تحت إشراف
الروس، أما العراق فلن تستطيع إيران إدارته وحدها.
ثانياً:
في تصرُّف يذكِّر بأيام استئساد الدول الاستعمارية على الدولة العثمانية المنهكة؛
قدم سفراء عشر دول هي: أمريكا وفرنسا وألمانيا وهولندا والنرويج والسويد والدنمارك
وفنلندا وكندا ونيوزلندا (ويلاحظ هنا غياب الإنجليز) مذكرة مشتركة تطالب بإطلاق
سراح شخص غامض اسمه (عثمان كافالا) الذي تصفه وسائل الإعلام الغربية وتوابعها في
المنطقة برجل الأعمال وفاعل الخير، ويصفه الرئيس التركي بـ
«سوروس
تركيا الأحمر».
ومن الملاحظ أن كافالا وسوروس يتشابهان في النشاطات الثقافية والاجتماعية، وإن كانا
يتشابهان في الأهداف فهو أمر خطير للغاية؛ فسوروس شخصية يهودية يسارية نشاطاته
تتعدى اهتمامات رجل الأعمال العادية؛ فهو متهم بمحاولة تدمير اقتصاديات النمور
الآسيوية السبع بالتلاعب بعملاتها، ويوصف إعلامياً بالمحسن الكبير! وهو داعم عالمي
للتوجهات الليبرالية. والذي يظهر أن هذا الطلب الجماعي يخدم إعلان بايدن عزمه على
إسقاط الرئيس التركي ولذلك كان ردُّ أردوغان عنيفاً وطلبه من وزير الخارجية إبلاغهم
بقرار اعتبارهم أشخاصاً غير مرغوب بهم إذا لم يلتزموا باتفاق فيينا المنظِّم
للعلاقات الدبلوماسية، وعلى إثر هذا الموقف الصلب سارعت الدول العشر المعنية
بالاعتذار وَفْق صيغة وافقت عليها الخارجية التركية قبيل انتهاء المهلة المحددة.
ويبدو أن تداعيات القرار لم تنتهِ عند ذلك؛ فقد وقعت المعارضة التركية في شَرَك
مهاجمة قرار الرئيس والتحذير من تداعياته قبل أن تُصدَم بتراجع الدول السريع فقد
تورطت هذه الدول العشر في تصرف غير محسوب العواقب؛ فطرد السفراء يعني إما القبول
بتغيير السفير وهذا إهانةٌ، وإما المغامرة بتجميد العلاقات! وبالطبع كان الاعتذار
السريع يلقي بظلال الشك على قدرة الغرب على تركيع تركيا ويوحي بمستوى النضج السياسي
المتدني لدى هذه الدول وأن السير الأعمى وراء أمريكا والاتكاء عليها تحفُّه
المخاطر، والملفت في الأمر أن سفراء الدول العشر لم يُدعَو إلى احتفالات يوم
الجمهورية، وتجاهُل وجودِهم إذا استمر فسيعني أن استبدالهم مسألة وقت، وبدلاً من
كسب المعارضة لحليف قوي مثل كافالا خسرت حرية حركة ممثلي هذه الدول الداعمة لهم.
ثالثاً:
دخول صراع النفوذ في إفريقيا مرحلة متقدمة تتمثل في زيارة رئيس تشاد لأنقرة على رأس
وفد كبير ووعود تركية بدعم عسكري؛ وهو ما يعني أن مستقبل نفوذ فرنسا القوي في تشاد
يلفُّه الغموض؛ خاصة بعد إسقاط حكومة حمدوك الشيوعي السابق التي تضم أربعة أحزاب
انفصالية على يد الجيش في السودان، وهي الحكومة التي فرضتها أمريكا لمرحلة انتقالية
فهي غير منتخبَة. ومن الملاحظ أن هذه الحكومة انشغلت بتنفيذ أجندات الأحزاب من
إعلان إفريقيةِ السودان ومحاربةِ التدين واللغة العربية مع تجاهل الإعداد لانتخابات
أو محاولة تحسين أوضاع الناس التي تردَّت إلى مستويات غير مسبوقة... وهنا نرجع إلى
مواقف الدول: فألمانيا وفرنسا وبقية الاتحاد الأوروبي وصفوا الحدث بانقلاب وطالبوا
بعودة الحكومة، أما أمريكا فكانت أكثر حذراً ولم تصرِّح بأنه انقلاب ولكن دعت إلى
الحوار والتوافق بين ما سمته بـ (المكونين العسكري والمدني).
ثم إن عَرْض الأمر على مجلس الأمن أبرز أن روسيا ترى أن ما جرى هو نتيجة لسنوات من
السياسات الفاشلة أو بمعنى آخر: هو نتيجة سياسة أمريكا وإدارتها الفاشلة للمشهد...
وبعد مناقشة الأمر تم التوافق على مطالبة مجلس الأمن بعودة حكومة مدنية. (أي: نعم
لحكومة مدنية، ولا لحكومة الأحزاب الهامشية الموالية لأمريكا). والمحصلة أن البرهان
أزاح أتباع أمريكا بالتنسيق مع روسيا وتركيا التي زارها قبل أقل من شهر.
رابعاً:
على هامش قمة العشرين المنعقدة في روما وفي تصرُّفٍ لافتٍ للنظر التقى الرئيس
الأمريكي بالرئيس الفرنسي في مقر السفارة الفرنسية في الفاتيكان (فيلا نابليون
بونابرت) وصافحه بحرارة وأثنى على فرنسا قائلاً: إن بلاده ليس لها حليف أقدم ولا
أكثر ولاءً من فرنسا، وانتقد تصرُّف بلاده خلال أزمة صفقة الغواصات وأنه غير ملائم
وأنه لم يكن على قدرٍ كبيرٍ من اللياقة وحاول التبرؤ من القرار برصفِ كلام مفاده
أنه كان يعتقد أن هناك أشياء موجودة ولكنها غير موجودة ويقصد إبلاغ فرنسا بالصفقة
السرية مسبقاً؛ وهو ما يعني أن الرئيس غير مُلِمٍّ بالتفاصيل، وأن الاعتذار يدل على
حاجة أمريكا الماسَّة لفرنسا، وأن مشروع الغواصات النووية لحصار الصين قد انهار بعد
حادث الغواصة النووية الأمريكية في بحر الصين الجنوبي الذي ألقى بظلالٍ من الشك حول
فاعلية هذه الغواصات أمام تفوُّق التقنيات الصينية، والسؤال هنا: أين ستكون
المغامرة الأمريكية الجديدة التي ستحتاج فيها إلى العون الفرنسي؟ وهل سنشهد تصعيداً
للصراع حول إفريقيا؟ وما مدى قدرة أمريكا الحالية على إدارة الصراعات المعقَّدة؟
وهل ستشهد الأيام القادمة هرولة بايدن لـ (10 داوننغ ستريت) للإشادة بالعلاقات
التاريخية مع بريطانيا العظمى والتأكيد على دعم أمريكا لها في خلافها الحالي مع
فرنسا حول حقوق الصيد؟ إنه خيال قد يتحقق في خضم التخبط السياسي الأمريكي؛ فزيارة
الرئيس الهَرِم لأقوى دولة لرئيس صغير السن لدولة من الدرجة الرابعة أو الخامسة في
مقر إقامته دليل على المأزق الإستراتيجي الذي تعيشه أمريكا حالياً فهي تحتاج إلى
كثير من الكياسة والدهاء ولا تتحمل مزيداً من السياسات الخرقاء، وهل تعتقد أمريكا
أن إشعالها إفريقيا لن يدفع الآخرين إلى إشعال أمريكا اللاتينية المتحفزة للتمرد
على التسلط الأمريكي.