• - الموافق2025/08/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
زاوية أردبيل... من هنا خرج قرن الشيطان

وكان حقدهم على أهل السنة قد صار عقيدة راسخة ومتجذرة في أعماقهم، فقرر بعد اجتماعه مع قادة القزلباش مهاجمة شروان، والانتقام من ملكها لدم أبيه وجده، فهاجمها القزلباش بضراوة وقتلوا ملكها، شر قِتلة، وارتكبوا فيها الفظائع (906هـ/1500م)، وكانت هذه أُولى فتوحاته


تأسيس زاوية أردبيل

أسسها الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي في مطلع القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي في أردبيل أعظم مدن أذربيجان. وكان صفي الدين هذا - الذي نسبت إليه (الصفوية) أسرةً، وطريقةً صوفية، ثم دولةً - قد ولد في قرية (كلخوران) في ضواحي أردبيل عام (650هـ/1252م) لأب ميسور الحال[1] سُني المظهر شافعي المذهب، وكان هو المذهب السائد هناك، وكانت أمه ابنة الشيخ جمال الدين باراتي الأردبيلي، أحد مشاهير الصوفية الفرس بشيراز، وكان والده من مريديه. وتلقى صفي الدين العلوم الدينية بأردبيل، وانتظم بسلك الصوفية منذ صغره. ثم سافر إلى شيراز، والتقى بالشاعر الصوفي الفارسي الشهير سعدي الشيرازي، وأقام بزاوية الشيخ عبد الله الخفيف الشيرازي (331هـ/ 942م)، ثم التحق بخدمة الشيخ (مير عبد الله الفارسي) ودلَّه الأخير على الشيخ زاهد الجيلاني أحد أقطاب الصوفية آنذاك. فعاد إلى أردبيل، وقد تعمق في أسرار المحبة الإلهية، وطوى بعض المراحل المعروفة بالسير والسلوك، وتعرَّف على فن تربية المريدين ورعايتهم، ومنها انتقل إلى زاوية الشيخ زاهد بجيلان (674هـ/ 1276م)، فلزمه وصار مريدَه الأول، فزوجه هذا ابنته، وقبل موته جعله خليفته. وكان الشيخ زاهد يحظى بحماية ودعم المغول، وكان مريدوه كثيرين بجيلان ومازندران وأذربيجان، فصار هؤلاء أتباعاً للشيخ صفي الدين، ولذلك بادر بعد وفاة شيخه (700هـ/ 1300م) بالعودة إلى أردبيل وأقام فيها زاوية لنفسه كشيخ لطريقة، وجمع حوله مريدي شيخه وغيرَهم، وتخصص في الوعظ واهتم أيضاً بالسماع، وهو يعطي معنى الحياة بسعادة حسب مفهوم الصوفية، فذاع صيته، وكثر مريدوه، وكان أغلبهم من العامة الجهال والبدو الرحل، الذين ينفق عليهم الدجل والتضليل والهذيان بسهولة، وخصوصاً التركمان والتتر القادمين من صحاري منغوليا والأناضول، والذين اعتنقوا الإسلام حديثاً. وكانت أذربيجان، وسائر إيران، آنذاك، ترزح تحت نير المغول بعد اجتياحهم لشرقي العالم الإسلامي، وتدمير حواضره وإفراغها من علمائها وقياداتها الحية، وتخريب دور العلم. وهو الاجتياح الذي هلل له الروافض والنصارى واليهود والشعوبيون الفرس؛ بل شارك فيه بعضهم مشاركة فعالة، ثم أسهموا في تدعيم أركان حكمهم الوثني الذي شمل إيران والعراق، فأُسندت إليهم المناصب العليا، وبخاصة الوزارة، فلعبوا دوراً خطيراً في تحريك الدسائس والمؤامرات والفتن الطائفية، التي عمَّت أرجاء المشرق الإسلامي، تنفيساً عن أحقادهم المزمنة، وهو الأمر الذي هز ثقة أكثر الناس بأنفسهم وأفقدهم المناعة ودفعهم إلى الهروب من واقعهم، فوجدوا في المتصوفة الذين فرغت لهم الساحة حينذاك الملاذ والملجأ، كما اتخذهم الطامحون والحاقدون مطية لنشر أفكارهم الهـدامة ولتحقيق أهدافهم الخبيثة، ولذلك فلا نستغرب إذا عرفنا أن كثيراً من أفكار الفرق الضالة - كالروافض مثلاً - قد تسربت إلى التصوف خلال هذه الفترة. وتوفي صفي الدين عام 735هــ/1334م، ودامت مدة رئاسته للزاوية 35 عاماً، وخلفه في رئاستها، ابنه صدر الدين موسى، المولود في (704هـ/ 1304م).

رئاسة صدر الدين وابنه علي واتساع النفوذ

وتزامن ذلك مع وفاة أبي سعيد آخر ملوك المغول الأقوياء وبداية حكم الأُسَر المغولية (الطوائف)، ومنها الأسرة الجلائرية التي استقلَّت بالعراق وأذربيجان، وقد حافظت زاوية أردبيل على مكانتها في هذا العهد، وظلت محل اهتمام هؤلاء الملوك، ولذلك استمرت تنمو وتتضخم وتميزت عن غيرها من الزوايا. وكان صدر الدين أكثر طموحاً من والده، فبنى على قبره قبة عظيمة بأردبيل، وتحول مع الأيام، والدعاية المؤثرة، وادعاء الانتساب لأهل البيت إلى مزارٍ عظيم يؤمه الآلاف من المريدين، ولهذا فقد اتسع نفوذ صدر الدين وعظمت مكانته، لدرجة أثارت غيرة حاكم أردبيل المغولي، فحاول التخلص منه سراً، ولكن صدر الدين شعر بالخطر ففر إلى جيلان، وأقام عند أخواله ومريديه هناك، ثم عاد إلى أردبيل بعد مقتل ذلك الحاكم المغولي (758هـ/1357م)، فاشيع بأن مقتله من كراماته، فتألق نجمه مجدداً، واكتسب وزاويته شهرة إضافية. وحينما وصل تيمور القائد المغولي الدموي إلى أذربيجان في حملته الأولى (789هـ/1387م)، كان صدر الدين ما يزال رئيساً لزاوية أردبيل، فكان أن وصل إليه هذا الطاغية بيد مليئةٍ بالأموال المنهوبة، وأظهر له الإخلاص والمحبة، وبالمقابل أمسك الشيخ صدر الدين بساعد تيمور وباركه، ودعا له بطول العمر، وبتحقيق المزيد من الفتوحات. وبعد وفاة صدر الدين (794هـ/1392م) الذي رأس الزاوية مدة 59 سنة، خلفه ابنه خواجة علي الذي كان أتباعه يُجلُّونه بصورة خيالية، وعندما زار تيمور الزواية للمرة الثانية (802هـ/ 1399م) استقبله خواجة علي بحفاوة، رغم سمعته السيئة وأعماله التدميرية، ووصفه أيضاً - مثل والده - بالملك العادل، وصار محل احترامٍ كبيرٍ من قِبَله. ولم يلبث تيمور أن عاد لزيارة الزاوية للمرة الثالثة بعد ثلاث سنوات، ومعه ألوف من الأسرى الأتراك الذين أسرهم بعد هزيمته للعثمانيين في معركة أنقرة (804هـ/1402م)، فعفا عنهم بطلب من الخواجة علي إكراماً لزاوية أردبيل، فصار هؤلاء من أشد مريدي زاوية أردبيل ولاءً للصفويين، وكانوا هم نواة الجماعة التي عُرفَت فيما بعد بالاسم التركي (قزلباش) أي أحمر الرأس، وزاد تيمور على ذلك أن أوقف المزارع المحيطة بأردبيل على الزاوية، وأقطع الصفويين أيضاً إقطاعات واسعة في أذربيجان والعراق وغيرهما، لضمان استمراريتها وتمويل أنشطتها داخل أردبيل وخارجها، فصارت هذه كلها إرثاً لهم، شأنها شأن مشيخة الطريقة ورئاسة زاوية أردبيل. وبعد وفاة تيمور (807هـ/1405) ظل خواجة علي وزاويته موضع اهتمام ورعاية ابنه الأشهر شاه روخ، الذي كانت قاعدة حكمه هراة، ثم إن أذربيجان خضعت لقبيلة القرة قوينلو التركمانية، فكان زعيمها (قرة يوسف عدو التيموريين) يزايد في إظهار الإخلاص والمحبة لخواجة علي، وظل يقدم لزاويته كل أشكال الدعم المالي حتى وفاته (823هـ/1420م). وتوفي خواجة علي في القدس (830هـ/1427)، وقد تحولت الزاوية من زاوية محلية إلى زاوية عابرة للحدود والأقاليم، ومدة رئاسته لها كانت 37 سنة، فخلفه ابنه إبراهيم الذي اشتهر بلقب (شيخ شاه) أي (الشيخ الملك)، والمصادر - حقيقة - تشكك في قدراته، وتمر عليه سريعاً، ومدة رئاسته للزاوية 20 سنة، وبعد وفاته (851هـ/1447م) خلفه ابنه جنيد.

رئاسة جنيد والتحول المصيري

وكانت لجنيد طموحات سياسية واسعة، ولذلك فقد استغل اضطراب الأوضاع في البلاد غداة انتهاء الحكم التيموري بوفاة شاه روخ بن تيمور (850هـ/1447م)، واستقل بأردبيل وصار يتصرف كالملوك وتلقب بلقب سلطان، الأمر الذي أثار غضب جهانشاه بن قرة يوسف زعيم القرة قوينلو، الذي كان قد استقل بأذربيجان، واستولى على أكثر أملاك التيموريين في فارس، فتدخل وطرد الجنيد من أردبيل، وأسند رئاسة الزاوية للشيخ جعفر الصفوي عمِّ جنيد، فلجأ جنيد وجماعة من مريديه إلى الأناضول وظل يتنقل في نواحي الأناضول وشمالي الشام، واختلط بالباطنية والبكتاشية، وأثروا عليه أعظم تأثير، فتشرَّب أفكارهم، وتبنَّى أساليبهم في العمل، وكان جنيد يحظى بالحفاوة بين التركمان أينما حلَّ لكونه من سلالة صفي الدين مرشدهم الروحي، ووارثاً له، واكتسب الكثير من المريدين هناك بصورة أشبعت غروره، وجعلته يتطلع للزعامة السياسية أكثر فأكثر؛ إذ راح يبحث عن الحلفاء الأقوياء الذين يمكنهم مساعدته في القضاء على جهانشاه، ومن ثَمَّ العودة إلى أردبيل وتحقيق طموحاته السياسية.

وبعد سبع سنوات من النشاط السري والعلني بين قبائل التركمان، وبعد أن تعرض للطرد من أكثر من منطقة بسبب غلوه وإفراطه في الزيغ والضلال، استقر جنيد عند أوزون حسن البايندري، زعيم قبيلة الآق قوينلو التركمانية بديار بكر، والطامح للزعامة وبسط النفوذ، فقد أذن له في الإقامة بعاصمته (آمد) ثم زوجه بأخته عندما وجد فيه حليفاً مفيداً في حربه ضد جهانشاه؛ نظراً لكثرة مريديه وحماستهم لقتال جهانشاه، ولكن جنيد لم يلبث أن قتل في شروان[2] في معركة مع قوات جهانشاه وشروان شاه (864هـ/1460م) أثناء محاولته عبور أراضيها بدعوى الجهاد في القوقاز، لكن أتباعه عدُّوه شهيداً وأضفوا عليه مزيداً من القداسة، وادَّعى بعضهم قيامه من الموت بعد مقتله.

وتكمن أهمية جنيد في كونه حوَّل الطريقة إلى حركة سياسية، تعتمد في وجودها على أعداد ضخمة من المريدين المنتظمين في تشكيلات شبه عسكرية، كما حاول حشد فرق الروافض والبكتاشية جميعاً، تحت لوائه، وزعم اقتراب ظهور المهدي، وأنه سيقاتل تحت رايته، ولذلك انسلخ تماماً عن عقيدة آبائه، وتبنَّى عقائد مريديه الجدد، ومنها: اعتقادهم بألوهية علي، والولاية المطلقة للقيادة، وتقديس المرشد، والنصر بالرعب، وانتهاج أسلوب الغارات ضد الكفار لأغراض سياسية واقتصادية ودعائية، كما صارت لغته هي التركية، بدلاً من الأذرية، وقبل ذلك ادَّعى الانتساب للإمام الكاظم، وهو يُعدُّ العقل المدبر للدولة الصفوية. وترك جنيد طفلاً رضيعاً يسمى حيدر، وكان يعيش وأمه بقصر خاله، وأطلق مريدو الجنيد لقب الشيخ على هذا الرضيع وتجمعوا حوله، وشجعهم أوزون حسن على طاعته، وكان يزعم أنه يرى الأنوار الإلهية تسطع في جبينه، وأنه يجدر به تسنم مقام المشيخة، وذلك حتى يستغل مريدي الجنيد الكثيرين في حروبه ضد جهانشاه. ونجح فعلاً بمشاركتهم باغتيال جهانشاه (873هـ/1468م)، ثم ولديه بالطريقة نفسها، ومن ثَمَّ السيطرة على أذربيحان. وعندما استقر بتبريز لاحقاً، أعاد رئاسة الزاوية لحيدر الذي كان وصل سن التاسعة حينذاك.

رئاسة حيدر وتكوين جيش القزلباش

وهكذا تسنم هذا الطفل زعامة زاوية أردبيل، ولكنه كان تحت إشراف خلفاء والده، الذين كان لديهم أسرار الحركة، فكان هؤلاء يلقنونه العقائد الشيعية والبكتاشية المتطرفة دون علم أوزون حسن لكونهم كانوا يتبعون أسلوب (التقية) بانضباطٍ شديدٍ، كما كانوا يتعهدونه بالتمرينات العسكرية والبدنية القاسية، لأن الغارات ضد الكفار صارت جزءاً لا يتجزأ من أنشطتهم لخدمة أهدافهم السياسية، وكان أوزون حسن قد أتاح لهم حرية العمل لمساعدتهم له في التخلص من جهانشاه، فاستغلوا هذه الفرصة وأنشؤوا في أردبيل ورشة لتصنيع السلاح، وشحنوا مخازنهم بأنواع الأسلحة، استعداداً لاستئناف الغارات في القوقاز، بل أقاموا لهم هيئة حكومية مصغرة في أردبيل. وعندما بلغ حيدر الحلم زوجه أوزون حسن ابنته (مارتا) من زوجته (كاترينا) النصرانية المتعصبة ابنة ملك طرابزون، فنتج عن ذلك اتساع نفوذه، ومن ثَمَّ زيادة فرصه في تحقيق أهدافه، وقبل ذلك اتساع سلطته وقدرته على إرهاب المعارضين له، وقمعهم وتكميم أفواههم والإمعان في إلحاق الأذى بهم؛ إذ صارت زاوية أردبيل في عهده دولة داخل الدولة. ولكن أوزون حسن توفي قبل تحقيق تلك الأهداف (882هـ/1477)، وتغلَّب على الحكم بعده ابنه يعقوب، وكان هذا محبّاً للعلم والأدب ومسالماً، وأسس مدارس عدة في البلاد، وشجع العلماء على نشر مبادىء الإسلام الصحيحة، فاستعاد هؤلاء العلماء بعضاً من مكانتهم التي فقدوها، فأخذوا ينكرون بدع الصوفية. ولم يرق ذلك، بطبيعة الحال، للشيخ حيدر واستقر رأيه على الحفاظ على مكانة زاوية أردبيل، ومواجهة هذا التحدي بأي ثمن، فأمر مريديه بأن يضعوا على رؤوسهم عمامة حمراء باثنتي عشرة ذؤابة، رمزاً إلى الأئمة الأثنا عشر، وتحديداً لهوية جماعته، وزعم أن الإمام علي زاره في المنام وأمره بذلك، ولذلك أُطلق عليها (تاج حيدري). وسرعان ما انتظم مريدوه - الذين لُقِّبوا منذ ذلك الوقت بلقب «قزلباش» أي أحمر الرأس - في وحدات خاصة مسلحة ومنضبطة، واتجهوا بغاراتهم إلى مدن شروان وداغستان ذات الغالبية السنية، ولم تسلم أردبيل من شرورهم وبخاصة العلماء؛ فقد مورست ضدهم أساليب غاية في الخسة والفظاعة، لإجبارهم على الرحيل أو السكوت عن الباطل، وتحولت زاوية أردبيل إلى مركز لبث الرعب. ولَـمَّا كان حيدر ابن عمة السلطان يعقوب وزوج أخته، فقد كان يتبع أسلوب المداراة معه، وكان حيدر باعتباره رجلاً نشأ على التقية، يتقن كل أساليب الخداع والمسكنة، التي كانت تنطلي على السلطان. وكان إذا لم تنفع هذه الأساليب توسل بأمه لديه، فكان السلطان يخضع لتوسلات عمته، فيعفو عنه. لكنه في النهاية ضيق عليه، فخضع لفترة (تقية)، ثم إنه عاد للعمل بزعم إحياء فريضة الجهاد، ولكنه بدلاً من أن يُغِيْر على الكفار، أغار على شروان للثأر لوالده من ملكها، وارتكب مذبحة بجموع من سكانها السُّنة، وأحرق المساجد والمدارس، فاستغاث شروان شاه بالسلطان يعقوب فبعث هذا جيشاً مدداً له، فخاض الجيشان معاً معركة ضارية ضد القزلباش، انتهت بمصرع حيدر (893هـ/1488م) وهزيمة القزلباش وعودتهم لقبائلهم، ولأسلوب التقية. وبعد ذلك أمر السلطان يعقوب بتعطيل زاوية أردبيل، وبنفي زوجة الشيخ حيدر، أي أخته مارتا، وأولادها علي وإبراهيم وإسماعيل إلى شيراز، وأمر عامله عليها أن يسجنهم في قلعة اصطخر، وأن يمنع القزلباش من التجمع حولهم، أو الاتصال بهم.

المخاض العسير للحلم الصفوي

ولكن بعد ثلاث سنوات توفي السلطان يعقوب (896هـ/1491م)، وتغلب رستم بيك بن مقصود بن أوزون حسن على تبريز، في ظل منافسة قوية من ابن عمه بايسنقر بن يعقوب، لذلك أمر رستم بيك بإعادة عمته وأولادها إلى أردبيل، وأجلس أكبرهم (علياً)، على مسند زاويتها بلقب: السلطان علي. وكان في نيته حينها الاستفادة من نفوذهم لجلب القزلباش إلى جانبه، ليتقوى بهم، وفي الوقت نفسه الاستجابة لتوسلات عمته (الأخت الشقيقة لوالده). وهكذا اجتمع القزلباش حول خلفاء حيدر من جديد، فسلطهم رستم بيك على منافسه بايسنقر، فخلصوه منه (897هـ/1492)، فزاد هذا من أهميتهم عنده، فأطلق أيديهم في أردبيل، ولكنهم عادوا لأساليبهم القديمة، وقاموا باغتيال بعض العلماء، وأحرقوا بعض المساجد والمدارس، وأخافوا السبيل، فقرر رستم بيك على إثر ذلك وَضْع حدٍّ لممارساتهم تلك، خصوصاً مع تزايد مخاوفه من ضخامة حشودهم، فأمر بإحضار السلطان علي وأخويه إلى تبريز ووضعهم تحت الإقامة الجبرية. ولكن المئات من الفدائيين القزلباش قاموا ليلاً باقتحام مقر إقامتهم وأخرجوهم منه، فأرسل رستم بيك قوة لمطارتهم فقُتِل السلطان علي وأخوه إبراهيم أثناء تلك المطاردة (899هـ/1494م)، وقام سبعة من قادة القزلباش بنقل إسماعيل ابن الثامنة من عمره، سراً إلى جيلان عبر منطقة جبلية وعرة، وأخفوه في منزل صائغ يهودي في رشت يدعى نجم زرگر، ولما خفَّ الطلب عليه أودعوه عند (كاركيا ميرزا علي) حاكم لاهيجان زيدي المذهب، المنتسب للحسن بن علي، والذي خصص قسماً من داره لإقامته وقادة القزلباش السبعة، وقد لقب هؤلاء أنفسهم بلقب (أهل الاختصاص)، وظلوا على صلة بأتباعهم في الأناضول، وواصلوا دعايتهم لزعامة إسماعيل الذي لقَّبوه بالشاه، وعندما قدم بَعْثُ حاكم تبريز لاستلام إسماعيل، احتال حاكم لاهيجان في إخفائه وأنكر وجوده. ثم إن الحروب اشتعلت بين البايندريين بأذربيجان، وكان هناك دوماً من يعمل على إشعالها، فتمتع إسماعيل بالحرية بلاهيجان. وكان الخلفاء السبعة يُعدُّونه من النواحي العقائدية والسياسية والعسكرية للقيادة، واستأجروا له معلماً لتعليمه القراءة والكتابة، وكان نجم الصائغ أيضاً يتردد عليه ويعلمه الرياضيات وعلم النجوم، ويقص عليه الحكايات والقصص المسلية، وصنع منه خلفاء أبيه إلهاً مطاعاً. وكان القزلباش الذين يأتون لزيارته ينثرون النذور والهدايا عليه ويسجدون له ويقبِّلون قدميه، ولأن أولئك الخلفاء، كانوا وحدهم حلقة الوصل بينه وبين العالم الخارجي، فلم يكن يعلم شيئاً عن السُّنة، إلا ما أرادوا له هم أن يعلمه، فكان أن صوروهم له بأبشع صورة، وربوا فيه كرههم بأشنع طريقة؛ فكان كلما جلس أحدهم أمامه بكى متذكراً الإمام الحسين والشيخ جنيد والشيخ حيدر، ولعن السُّنِّيين الذين قتلوهم، وتمنى أن يمنحهم الله الفرصة للانتقام لدمهم منهم. فكان هذا الأسلوب يؤجج مشاعره للانتقام ويثير فيه مشاعر الشراسة، كما أن هذه المعاملة جعلته يعتقد - كطفل - أنه مخلوق إلهي مقدس. وكان في طفولته ميالاً لإراقة الدماء فعملوا على تقوية ذلك فيه حتى لا يضعف أمام توسلات السُّنة عندما يحين الوقت للانتقام منهم. وأقلق وجوده في لاهيجان على هذا النحو رستم بيك، فعزم على الخروج بنفسه لاجتياح لاهيجان والقبض عليه، لكنه اغتيل وهو يستعد لذلك (902هـ/1497م)، وبذلك أزيحت العقبة الأخيرة من طريق الصفويين؛ ولا سيما أن الصراعات على السلطة في أذربيجان ازدادت حدة وباتت البلاد على شفير الهاوية.

خروج قرن الشيطان من القمقم

وبحلول عام (905هـ/1499م) رأى قادة القزلباش المحيطين بالشاه إسماعيل أن الفرصة قد باتت سانحة للتحرك، فقرروا الخروج وأخذوا إسماعيل في البداية إلى نواحي خلخال وشواطىء بحر الخزر في الشمال، وأخذوا من هناك يبعثون الرسل لخلفائهم في الأناضول لحشد القزلباش وإرسالهم إليهم. وخلال ثلاثة أشهر التحق بمعسكر إسماعيل ألفي قزلباشي، فتحرك إسماعيل مع بعضهم إلى أردبيل بحجة زيارة ضريح جده، ولكن حاكم أردبيل شك في نواياهم فأمرهم بالمغادرة بعد أيام من وصولهم، فغادروها واتجهوا إلى نواحي (طالش). ولم يواجه إسماعيل أثناء هذه التحركات أي مقاومة؛ بل كان يُستقبل بحفاوة لأن السيادة في مناطق إيران الشمالية الغربية آنذاك كانت للأسر المحلية، وكان كثير منها من مريدي أسرته الصفوية، أو المتشيعين لها، كما أن تلك المناطق كانت بعيدة عن مراكز قوة الآق قوينلو في ديار بكر وبغداد وتبريز، المنشغلين أصلاً بالصراع فيما بينهم، فكانت هذه المناطق نقاط ارتكاز انطلق منها إسماعيل لتحقيق الحلم الصفوي. وحينذاك راجت شائعات أن إسماعيل ينوي الخروج وتملُّك العالم، فانضم إليه الآلاف، كما انضم إليه كل الناقمين على العثمانيين، فصارت حوله حشود هائلة، وكلٌّ منهم على استعداد للموت بإشارة من يده، لأنهم كانوا يعتقدون أنه تجسيم للإله، وكان حقدهم على أهل السنة قد صار عقيدة راسخة ومتجذرة في أعماقهم، فقرر بعد اجتماعه مع قادة القزلباش مهاجمة شروان، والانتقام من ملكها لدم أبيه وجده، فهاجمها القزلباش بضراوة وقتلوا ملكها، شر قِتلة، وارتكبوا فيها الفظائع (906هـ/1500م)، وكانت هذه أُولى فتوحاته. وفي العام التالي، وبينما كان القزلباش يكتسحون مدن الشمال، وهم في أعلى درجات حماستهم، قرر الشاه إسماعيل الزحف على تبريز، وبعد أن هزم حاكمها ألوند ميرزا حفيد أوزون حسن، دخلها دخول الفاتحين، وكان عمره آنذاك 14 سنة، وكان أول عمل قام به هو إعلان المذهب الشيعي مذهباً رسمياً وحيداً للدولة، وارتكب في حق أهل تبريز أصحاب المذهب الباطل - حسب زعمه - مجزرة راح ضحيتها عشرات الآلاف من خيارهم، ودمر الكثير من مساجدها، واستباح الحرمات، وأعلنها حرب إبادة لا هوادة فيها على الإسلام، ثم كانت هذه الأعمال المروعة بعد ذلك الشغل اليومي للقزلباش، الذين تحولوا إلى وحوش مفترسة، والذين اكتسحت جحافلهم إيران، والعراق، وخراسان... وغيرها. هكذا انقلب السحر على الساحر؛ بل على كل السحرة، الذين ظنوا أن هذه الجماعة إنما هي ألعوبة في أيديهم، وخرج المارد الصفوي الشيطاني من القمقم، وابتلع كل هؤلاء السحرة، وبعد ذلك استعصى القضاء عليه، حتى من قبل أقوى قوة في العالم وقتذاك، وهي الدولة العثمانية، رغم هزيمتها له مراراً وتكراراً، ولنا أن نتصور حجم الكارثة، التي كانت ستلحق بالإسلام وأهله، لو لم ينتصر العثمانيون على الصفويين في معركة جالديران (920هـ/1514م)، وغيرها.

كانت صدمة الصفويين أعنف صدمة تعرض لها المسلمون في تاريخهم، ولم يتم استيعابها حتى اليوم، وتاريخ الصفويين الدموي لَـمَّا يكتب بَعْدُ، وما زلنا لا نعرف سوى القليل من وقائعه، إلا أننا صرنا نرى بأم أعيننا بعض فصوله تتكرر حالياً، ولكننا بالمقابل صرنا نعرف من يمسك بخيوط هذه اللعبة، ونؤمن إيماناً جازماً بأن ما يفعلونه إنما هو إملاء من الله لهم:  (وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون).


 


[1] لم يتقرر أصل الصفويين بدقة، وهل هم تركمانية، أو كردية، أو فارسية. ويجزم مؤرخو الشيعة بأنهم من آل البيت.

[2] كانت شَروان مملكة صغيرة في أذربيجان، شمال نهر إرس، وغرب بحر الخزر، في الطريق إلى القوقاز، وكانت تحكمها أسرة محلية، استقلت بها أثناء انهيار الحكم التيموري، ويلقب ملوكها بلقب «شروان شاه».

 

 

أعلى