كشف تحقيق نشرته منظمة (ذا سنتري) أن مجموعة من المرتزقة الروس والسوريين نفَّذوا جرائم حرب خلال ملاحقة عناصر مجموعة السيليكا المسلمة في مدينة مباباري وسط البلاد، وأوضحت المنظمة أن 20 مدنياً تم قتلهم في أحد المساجد في تلك المدينة إثر تحصنهم فيه
في السنوات القليلة الماضية ظهرت متغيرات سياسية وعسكرية في الشرق الأوسط لها علاقة
كبيرة بصراع مراكز القوى في العالم، كان أولها التدخل الروسي عام 2015م لإنقاذ
النظام السوري واستجابة لدعوة من حلفاء موسكو في طهران، وبينما فُسِّر هذا التدخل
في سياق المواجهة (الأمريكية - الروسية) وسعي موسكو لتمكين وجودها في البحر
المتوسط، توسعت بالمقابل مبادرات التدخل العسكري الروسي لتشمل إفريقيا، لكن قبل
الخوض في تفاصيل هذا الحَراك وطبيعته يجب الحديث عن الحاضنة التي صنعها الكرملين
لتأمين وجوده في تلك المنطقة على مدار العقود الماضية.
لقد موَّلت روسيا - وما تزال - برامج لتدريب وتأهيل عسكريين أفارقة تستوعب 500 فرد
سنوياً، وهذا العدد المحدود كان بمثابة منصة لتعزيز التواصل في العلاقات المدنية
والعسكرية بين موسكو وحكومات القارة السمراء، وما يؤكد نجاح المساعي الروسية إشارة
تقارير صحفية مؤخراً إلى تورط موسكو بدعم الانقلابين الأخيرين في مالي؛ فقد أكدت
صحف غربية أن كبار قادة الانقلابين في مالي كانوا جميعاً يتلقـون تدريبات في روسيا.
بالإضافة إلى التدريب العسكري فإن الجامعات الروسية تستوعب أكثر من 15000 ألف طالب
إفريقي سنوياً من نيجيريا وأنغولا والمغرب وناميبيا وتونس، ويراهن الكرملين على هذه
المبادرات لتعميق العلاقات طويلة الأمد مع المجتمعات الإفريقية لا سيما أن نسبة من
هؤلاء الطلاب يعودون إلى بلادهم ويتولون مناصب عليا في مؤسسات عامة.
العلاقات الروسية طويلة الأمد مع جنرالات النظام الليبي السابق، هي التي مهدت
الطريق أمام خليفة حفتر للاستعانة بمجموعة الفاغنر الروسية لدعم انقلابه على
الحكومة الشرعية، ومحاولاته اليائسة للسيطرة على البلاد، وبغضِّ النظر عن المسعى
الذي أفشله التدخل التركي في ليبيا، إلا أن موسكو نجحت في تثبيت أقدامها في الشرق
الليبي ونجحت في الاقتراب من الحدود الجنوبية لأوروبا، كما حسَّنت من قدرتها للوصول
إلى الموانئ في البحر الأحمر. وبخلاف البُعد العسكري فإن موسكو ترى أن وصولها إلى
طرق الهجرة الإفريقية إلى إوروبا جعلها تمتلك سلاحاً آخر يستهدف أوروبا يتعلق
بإثارة الأزمات الإنسانية والسياسية. بالإضافة إلى مساعيها المتعلقة بالاقتراب من
الحدود الجنوبية لأوروبا؛ فنشرها لأكثر من 200 شخص من مرتزقة فاغنر في موزمبيق يؤكد
أن الكرملين يحاول التمركز في نطاق جغرافي واسع في إفريقيا بهدف الوصول إلى الموارد
الطبيعية، وخطوة وجوده في ليبيا كانت بداية رسم ممر روسي واضح يربط الشرق الليبي
بالعمق الإفريقي؛ فقد أرسلت موسكو 1200 مرتزق من مجموعة فاغنر وزودتهم بطائرات ميغ
29 وصواريخ أرض جو وعتاد عسكري ضخم ليس فقط لمساندة حفتر لكن لضمان وجودٍ روسي طويل
الأمد في المنطقة، لذلك يمكن اعتبار ليبيا بدايةً لعمليات روسية في إفريقيا،
وقاعدةً لوجستية لتوسُّعٍ لاحقٍ في بلدان أخرى مثل جمهورية إفريقيا الوسطى إذ تم
تعيين جنرال روسي مستشاراً للأمن القومي في رئاسة الجمهورية في العاصمة بانجي،
وباعت الحكومة حقوق التنقيب عن الذهب والماس للروس مقابل برامج تسليح وتدريب
لجيشها، وقد كشف تحقيق نشرته منظمة (ذا سنتري) أن مجموعة من المرتزقة الروس
والسوريين نفَّذوا جرائم حرب خلال ملاحقة عناصر مجموعة السيليكا المسلمة في مدينة
مباباري وسط البلاد، وأوضحت المنظمة أن 20 مدنياً تم قتلهم في أحد المساجد في تلك
المدينة إثر تحصنهم فيه.
وفي محاولات لاستجداء الدعم الروسي لتثبيت أركان سلطتهم الأوتوقراطية وجَّه زعماء
من مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا دعوة لموسكو، عام 2018م للتدخل
لمحاربة الجهاديين في جنوب الصحراء. وسعى الكرملين للحصول على موطئ قدم لإنشاء
قاعدة بحرية على سواحل أرض الصومال لمجابهة الوجود الصيني الأمريكي في جيبوتي. كما
أعربت روسيا عن اهتمامها ببناء مركز بحري لوجستي في إريتريا، لكن يبدو أن الضغوط
الأمريكية أحبطت هذه الخطوة. وكانت صحيفة بيلد الألمانية قد نشرت تقريراً أشارت فيه
إلى معلومات تم تسريبها من الخارجية الألمانية، تؤكد أن الروس يقومون بتشييد قواعد
عسكرية في ست دول إفريقية؛ وهي خطوة من أولويات الرئيس فلاديمير بوتين. واستشهدت
الصحيفة بالتقرير الذي أكد أن روسيا أبرمت منذ عام 2015 اتفاقيات تعاون عسكري مع 21
دولة في إفريقيا. وبيَّنت أن الكرملين بتعزيزه لوجود طغاة في الحكم حصل على
امتيازات لبناء قواعد عسكرية في ست دول، هي إفريقيا الوسطى، ومصر، وإريتريا،
ومدغشقر، وموزمبيق، والسودان.
ولا شك أن الوجود الروسي سيؤجج الصراع مع فرنسا الدولة الاستعمارية الأكثر نفوذاً
في إفريقيا؛ لا سيما في إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجير ومورتيانيا
وتشاد، وبينما تسعى فرنسا لاستجلاب الدعم الأوروبي والأمريكي لاستدامة حملتها
العسكرية ضد الجماعات الجهادية التي أصبحت تهدد بقاءها في مستعمراتها السابقة؛ فإن
الوجود الروسي يركز على تعزيز واردات الأسلحة الروسية والحصول على عقود التنقيب عن
المعادن الثمينة والثروات الطبيعية مع حضور عسكري غير رسمي يمثله مرتزقة فاغنر
للحفاظ على المصالح الاقتصادية الروسية. ولا يزال الروس يسيطرون على 37.6 % من سوق
السلاح في إفريقيا، بينما تبلغ حصة فرنسا 14%، هذا وتعدُّ الجزائر أكبر زبون
للأسلحة الروسية في إفريقيا تليها مصر ثم السودان وأنغولا.
تصنع روسيا نفوذها الجيوسياسي في إفريقيا من خلال مشاريع منخفضة التكلفة تحقق مكاسب
اقتصادية لموسكو، وتراهن على التدخل السريع لحمايتها عبر مرتزقة فاغنر وتعزيز
علاقتها بالأنظمة السياسية الموجودة، فبالإضافة إلى الامتيازات الاقتصادية تمنح
إفريقيا للروس 54 صوتاً في أروقة الأمم المتحدة، مقابل ذلك يحصل بعض الحكام في
إفريقيا على دعم سياسي روسي منقطع النظير؛ لذلك حينما أراد الرئيسي الغيني ألفا
كوندي الحصول على ولاية ثالثة غير دستورية عام 2019م، صرح السفير الروسي ألكسندر
بيجادزه، قائلاً:
«الدساتير
ليست عقيدة... الدساتير يجب أن تتكيف مع الواقع وليس العكس».
على المدى الطويل اعتمدت موسكو على واردات السلاح وبرامج التدريب لتثبيت حضورها في
إفريقيا لكنها الآن أصبحت ترسل عناصر فاغنر لتعزيز هذا الحضور وتوفير الدعم لمن
يحمون مصالحها من السياسيين الأفارقة، لذلك تنشر عناصرها في ليبيا وجمهورية إفريقيا
الوسطى والسودان وموزمبيق. فقد أبرم الرئيس الروسي صفقة مع الرئيس فوستان أرشانج
تواديرا في إفريقيا الوسطى عام 2018م لدعمه في مواجهة مجموعات السيليكا الإسلامية
المسلحة بإرسال 400 من مرتزقة فاغنر، مقابل ذلك حصلت موسكو على حصص من مناجم الذهب
والماس في شمال البلاد.
ورغم أن الجيش الأمريكي يدرب جيوش أكثر من 20 دولة في إفريقيا إلا أن استقبال
المجلس العسكري المالي للسفير الروسي (إيغور جروميكو) عقب الانقلاب بساعات فُسِّر
على أنه تمهيد لدورٍ روسيٍّ في تشكيل المشهد السياسي في مالي؛ ولا سيما أن القادة
العسكريين الذين نفَّذوا الانقلاب كانوا قد أمضوا عاماً في التدريب بموسكو. رغم عدم
وضوح طبيعة الدور الروسي في مالي إلا أن مكاسب الكرملين ستكون كبيرة في حال نجحت
موسكو بالإطاحة بالنفوذ الفرنسي في مالي، وأبرزها توسيع صفقات التنقيب عن احتياطات
الذهب التي تسعى شركة (نوردجولد) الروسية لتوسيع خريطة عملها فيها والتي تشمل غينيا
وبوركينا فاسو.
يقول مركز الأبحاث الأمريكي (CSIS):
«ربما
تسعى موسكو إلى إنشاء طرق تجارية جديدة بعد العقوبات الغربية التي فُعِّلَت بعد
احتلالها جزيرة القرم منذ عام 2014م، لذلك قامت برفع حجم تجارتها مع إفريقيا لتصل
إلى 9 مليار دولار في عام 2018م، فبالإضافة إلى الأسلحة لجأت موسكو للاستثمار في
النفط والغاز والطاقة النووية».
ويرى تقدير موقف نشره معهد كارنيجي الأمريكي محاولات موسكو تعزيز وجودها بإبرام
صفقات ضخمة مع بلدانٍ إفريقية مثل جنوب إفريقيا ومصر، لا تعدو كونها حملات علاقات
عامة لتضخيم قوة الدب الروسي الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ويستشهد المعهد
بعقد تزويد جنوب إفريقيا بـ 8 مفاعلات نووية حتى عام 2023م بقيمة إجمالية تصل إلى
50 مليار دولار، لكن المشروع الروسي فشل بسبب تهم فساد أطاحت بالرئيس جاكوب زوما
الذي أُجبر على الاستقالة في عام 2018م. كذلك أشار المعهد إلى تباطؤ العمل في موقع
الضبعة النووي في مصر الذي بموجبه ستقوم شركة (روساتوم) بإنشاء 4 مفاعلات لإنتاج
الطاقة لكنها لم تحصل على تصاريح وإذونات للبدء بالعمل. لذلك يمكن قراءة التوجه
الروسي لتعزيز حضور فاغنر في إفريقيا على أنه مسعى روسي جديد يهدف إلى الحفاظ على
حضور موسكو وتوسيع نفوذها بوسائل أقل تكلفة وأكثر فاعلية وتأتي استجابة لحاضنة
كبيرة من الزعامات الإفريقية الدكتاتورية التي تَعُدُّ العنف هو العصا الغليظة التي
تحصن بقاءها في السلطة.