• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
السلفية... رحابة وسعة فهم

السلفية... رحابة وسعة فهم

مذهب السلف الصالح هو الإسلام المحض الخالص، وكما قال ربعي بن عامر - رضي الله عنه - لرستم فارس: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها...»[1].

والسلف الصالح يعلمون الحق ويرحمون الخلق، وهذه الرحمة والإشفاق توجب انشراح الصدر، كما في حال الرحمة بالصدقة وسائر الإحسان. يقول ابن القيم: «المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره... فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره»[2].

وإيمان أهل السُّنة بجميع النصوص الشرعية، ورسوخهم في العلم أورثهم رحابة وسعة في الفهم؛ إذ يقبلون الحق من كل أحد؛ فهم أسعد الطوائف باتباع الدليل، فيأخذون بنصوص التنزيه والإثبات معاً في صفات الله - تعالى - وكما يثبتون القضاء والقدر، فإنهم يثبتون أن العباد فاعلون حقيقة، ويقررون أن مطلق الذنوب تُنْقص الإيمان لكنها لا تُخرِج من الملة، ويفرِّقون بين موارد الإجماع ومسائل الاجتهاد، ويراعون عوارض الأهلية كالجهل والتأوُّل ونحوهما.

وكما تُلحَظ هذه السعة والشمول في المسائل، فإنها تُلحَظ في الدلائل أيضاً؛ فإن السلف يستدلُّون بالوحي ويعتصمون به، ويُعنَون بفقه نصوص الكتاب والسُّنة، كما يحتجون بالبراهين العقلية، ويستدلون بالأمور الفطرية الضرورية.

وسعة الفهم ورحابة الأفق كالوسطية التي تميَّز بها أهل السُّنة عن سائر الطوائف؛ فليست الوسطية تعني التذبذب والتلون، أو الترخُّص والتفلُّت؛ وإنما هي الوسطية التي اعتبرها الشرع المنزَّل؛ وهي الإيمان بجميع النصوص الشرعية، وأخذ الدين كلِّه وبقوة، مع مجانبة الترخص الجافي، والتشدد الغالي. وأيضاً: فإن سعة الفهم وشموله لا يكون إلا بالاعتصام بدين الله - تعالى - في الدلائل والمسائل، والقيام بالحنيفية السمحة (علماً وعملاً)، ومفارقة الإفراط، ومجانبة التفريط وتتبُّع الرخص؛ إذ اتباع الرخص هو من أهواء النفوس، وقد نهى الشارع عن اتباع الهوى وأمر بلزوم الهدى. قال - تعالى -: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [القصص: 50]، وقال - تعالى -: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40].

وقد بيَّن الشاطبي عواقب تتبُّع الرخص؛ وأنها تفضي إلى «الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيّالاً لا ينضبط...»[3].

وصدق - رحمه الله - فهذا واقع مشاهَد، إذا صار الدين في غاية الرقة والهشاشة، وأضحى الدين يشفُّ عما تحته فهو أرقُّ من ثوب السابريِّ[4].

والحاصل أن سلفنا الصالح أظهروا هذه الرحابة وسعة المفهوم كما هو مبيَّن في المسائل التالية:

فذِكْر الله - تعالى - هو من أفضل الأعمال في حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب الورِق، ومن أن تَلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله»[5].

لكنَّ ذكر الله - تعالى - ليس محصوراً في الأوراد المأثورة كأذكار الصباح والمساء ونحوها، بل إن ذكر الله - تعالى - يشمل كل ما يقرِّب إلى الله - تعالى -: من علم نافع وعمل صالح وتواصٍ بالحق؛ كما حرره ابن تيمية بقوله: «كل ما تكلم به اللسان وتصوَّره القلب مما يقرِّب إلى الله: من تعلُّم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو ذكر الله؛ ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يُفقِّه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله»[6].

وذِكْرُ الله - تعالى - يعدُّ دعاءً، كما في دعاء الكرب «لا إله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السموات وربُّ الأرض ربُّ العرش الكريم»[7].

كما أن ذكر الله - تعالى - يعدُّ صلاة كما ورد عن ابن مسعود – رضي الله عنه - أنه قال: (ما دُمتَ تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق، وقال معاذ: مدارسة العلم تسبيح)[8].

ونظير ذلك العبادات فلا تقتصر على العبادات المعهودة، بل تشمل كلَّ ما يحبه الله ويرضاه، فيدخل في ذلك صلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم وابن السبيل والبهائم[9].

ومسـألة أخرى: أن من التوسل المشروع: التوسل إلى الله - تعالى - بالعمل الصالح، وقد يَقْصِر بعضُهم هذا التوسلَ بأن يقول الداعي: اللهم! إني أتوسل إليك بعملي الصالح... وليس الأمر كذلك، بل التوسل أعم وأوسع من ذلك كلِّه، كما بيَّنه ابن تيمية بقوله: «التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وطاعته فرض على كل أحد في كل حال (باطناً وظاهراً) في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال»[10].

ومسألة ثالثة، وهي: مفهوم الجهاد في سبيل الله - تعالى -: فإنه مفهوم واسع يستوعب الجهاد باليد والسنان، والجهاد بالحجَّة والبرهان، والجهاد بالأموال، ثم إن جهاد النفس هو أصل ذلك جميعاً. وكل ذلك داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذا قال الشاطبي: «والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مقرَّر بمكة، لقوله - تعالى -: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].

وساق ابن تيمية - رحمه الله - أوجهاً متعددة تكشف عن سعة مفهوم الجهاد في سبيل الله، فقال: «وأما مجاهد الكفار باللسان فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره؛ فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أُوْلى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم...» ومعلوم أنه يُحتاج كلَّ وقت إلى السيف، فكذلك هو محتاج إلى العلم والبيان، وإظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف»[11].

وقال ابن القيم: «إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفَّار فليس بدونه. قال رجل للحسن البصري - رحمه الله تعالى -: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك، وسمعت شيخنا (ابن تيمية) يقول: جهاد النفس أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم»[12].

والحاصل أن في نصوص القرآن والسُّنة من الحِكَم والمعاني ما لا ينقضي؛ فآيات القرآن قواعد كلية عامة، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم هي جوامع الكلم؛ ولذا فإن الاعتصام بالكتاب والسنة يحقق سعة في الفهوم، وثراء في العلوم، وانتفاعاً بالعقول، وزكاة للقلوب. وتراث السلف الصالح شاهد على ذلك في القديم والحديث.

هذا وبالله التوفيق.

 

 


 


[1]البداية لابن كثير: 7/39.

[2] الوابل الصيب، ص31.

[3] الموافقات: 4/147.

[4] الثوب السابريُّ: الرقيق الشفاف.

[5] أخرجه أبو داود.

[6] مجموع الفتاوى: 10/661.

[7] أخرجه البخاري ومسلم.

[8] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 1/94، ومنهاج السنة النبوية: 8/210، ومجموع الفتاوى: 14/215، والإيمان، ص40 - 41.

[9] انظر: مجموع الفتاوى: 10/149. (العبودية).

[10] قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص3.

[11] الجواب الصحيح: 1/74 - 75.

[12] روضة المحبين، ص 478.

 

 

 

أعلى