الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
لا يماري عاقل في أهمية الاقتباس من الآخرين، والإفادة من تجاربهم ومعارفهم، وقد درجت كثير من الحضارات على النقل من غيرها؛ سواء عن حضارة معادية أو مهادنة، وأياً كانت تلك الحضارة بائدة أم حاضرة.
وليس من بأس في ذلك؛ بل تكاد أن تكون كل حضارة مكملة لما بعدها، وإنما البأس والخلل الكبير حين تذوب شخصية الحضارة الناقلة، وتختفي كلياً، ضمن المنقول بقضه وقضيضه.
ولما تعانيه أمة الإسلام من تأخر وقصور، باتت منتظرة في المقعد الخلفي القصي، تنظر إلى ما عند الآخرين، ثم تتلقف ما يقذفون به إليها، أو يأذنون بنقله، وقد يكون مضراً، أو مصادماً لحضارتها، أو أنه أصبح في عداد القديم المستغنى عنه.
ومن المآخذ الكبرى على هذا التلقي السلبي أن الأمة لا تختار ما تريده، بل تتطلع إلى ما يأتيها سواء عن طريق المنظمات الدولية، أو الخبراء من الشركات والأفراد، أو ما يفرض عليها بقوة القروض أو الجيوش، وبالتالي قد تأخذ ما يشينها، وفي أحسن الأحوال ربما تجري عليه بعض التحسينات التي لا تتخلص من مرجعيته الأجنبية، والأصول الباطلة التي بني عليها.
ولا يعني هذا أن نرفض مخرجات حضارات الغرب والشرق من مكتشفات علمية، وصناعة، وتقنية، بل المطلوب الإفادة منها ومن غيرها؛ على ألا نظل عالة على الأمم، وأن يكون لنا إسهام في هذه الجوانب ولو بعد حين.
ولكن أيعقل أن نظل أسرى للعالم في أشكال الدولة، ونماذج الاقتصاد، ونظريات الاجتماع، وتفاعلات الثقافة، وأنماط المؤسسات، وكأننا بلا تاريخ علمي حافل، ومنتج حضاري فخم، ساهمت فيه عقول علماء أفذاذ كابن سلام والماوردي وابن خلدون وغيرهم؟! ولسنا ننكر فضل أعمال «أسلمة» المجالات الإنسانية، فهو جهد مشكور، ويصدر في غالبه عن غيرة حميدة، وحرص على إفادة الأمة؛ دون خدش تعاليم دينها وموروثها الحضاري. وإنما المأمول أن تنطلق أمتنا في جميع المجالات الإنسانية، من نظريات إسلامية أصيلة؛ مستمدة دون تعسف من النصوص المقدسة، والسيرة الشريفة والراشدية، وتطبيقات الحضارة الإسلامية إبان قوتها، وبعد ذلك يمكن الإفادة مما لدى الآخرين كفرع تابع لأصل، وإضافة منقادة لما تقتضيه النظرية الإسلامية.
فمن المعيب أن نستقبل المنتج الغريب في هذه المجالات؛ ثم نكتفي بتهذيبه، والصواب أن نستجلي ما قدمته حضارتنا في عهودها الزاهرة؛ ثم نضيف له المناسب مما توصلت إليه عقول البشر؛ لأن أمتنا التي أنجبت فطاحل العلماء، وأنتجت تراثاً إنسانياً وعلمياً كبيراً ليست بعاجزة عن تكرار مشاركاتها السامية.