البيان/خاص: بعد مرور عام على اللحظة التي انهار فيها نظام بشار الأسد ودخلت قوات "ردع العدوان" إلى دمشق في مشهد حسم أكثر من 13 عامًا من الحرب، تبدو سوريا اليوم كدولة في طور إعادة التشكّل، تقف بين إرثٍ هائل من الدمار ونافذة سياسية نادرة لإعادة بناء نفسها. وفي مركز هذا التحوّل يقف أحمد الشرع، الرجل الذي قفز من قيادة تنظيم مسلح مثير للجدل إلى رئاسة بلد منهك، متقدمًا بسرعة لافتة نحو تثبيت شرعية داخلية وخارجية تجعل منه اللاعب الأقوى في سوريا الجديدة.
نهج الشرع خلال السنة الأولى لم يكن داخليًا بقدر ما كان خارجيًا؛ فقد أدرك منذ اللحظة الأولى أن الشرعية الدولية هي المفتاح الحقيقي لترسيخ الحكم، وأن الدولة لا يمكن أن تقف على قدميها من دون أن تتخلص من عزلتها التي امتدت لأكثر من عقد. من هنا جاءت سلسلة التحركات الدبلوماسية التي شكّلت أبرز إنجازات هذا العام، زيارة البيت الأبيض، ولقاءات مع قادة أوروبا، وخطابه التاريخي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورفع جزء كبير من العقوبات المفروضة على البلاد. هذه الخطوات أعادت سوريا إلى النظام الدولي بطريقة غير مسبوقة منذ السبعينيات، ومنحت الشرع شبكة دعم لم ينلها أي طرف سوري منذ اندلاع الحرب.
لكن هذا الانفتاح الخارجي لم ينعكس بالزخم ذاته على الداخل، إذ يعيش السوريون في ظل اقتصاد متآكل، وبنية تحتية مدمرة، وخزينة دولة فارغة. ورغم نجاح الحكومة في تثبيت سعر الليرة ومنع الانهيار الكامل، فإن المشهد الاقتصادي لا يزال يعكس هشاشة عميقة. الطاقة الكهربائية شبه معدومة، والقطاع المصرفي ما زال مشلولًا، والاستثمارات الأجنبية تنتظر حسم ملف العقوبات المرهون لمواقف لسياسية أمنية ومعقدة مثل العلاقات مع الدولة العبرية وملف الأقليات التي يستخدم أداة ضغط على الدبلوماسية السورية. ومع هذا، يرى مراقبون أن الشرع ورث اقتصادًا منهارًا بالكامل، وأن تقييم أدائه الاقتصادي لا يمكن عزله عن إرث النظام السابق.
أمنيًا، كان الرجل أكثر وضوحًا وحسمًا. فبنية السلطة الجديدة قامت على فرض الاستقرار قبل أي انفتاح سياسي، وهو نهج براغماتي يتقاطع مع تجارب دول خرجت من صراعات داخلية طويلة. الشرع أعاد تشكيل الأجهزة الأمنية والعسكرية، ودمجَ جزءًا من التشكيلات المسلحة السابقة، وأعلن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم"داعش". هذا التحوّل لم يكن مجرد خطوة أمنية، بل ورقة سياسية ثمينة ضمن معادلة الشرعية الدولية التي يراهن عليها.
في الوقت نفسه، بدأ الشرع حملة لإنهاء وجود الجماعات المسلحة المنافسة، خصوصًا في إدلب وشمال غرب البلاد، محاولًا احتكار القوة المسلحة ضمن مؤسسات الدولة. هذا النهج يعكس سعيًا إلى تأسيس دولة مركزية قوية، لكنه يفتح الباب أمام صدام محتمل مع مكوّنات عدة، أبرزها الأكراد والدروز. فالتوترات مع مليشيات سوريا الديمقراطية، وانسحاب مظلوم عبدي من اتفاق الاندماج مع الدولة الجديدة، يكشفان فجوة سياسية عميقة تتعاظم مع غياب حلول واضحة لمسألة الحكم الذاتي. الأمر ذاته ينطبق على الدروز الذين طوّروا خلال سنوات الحرب نموذجًا من الإدارة الذاتية يصعب التراجع عنه دون ضمانات سياسية.
في مقابل هذه التحديات، يحاول الشرع أن ينسج سردية وطنية جديدة تُعيد تشكيل الهوية السورية بعد عقد من التشظّي. ظهوره في المسجد الأموي، ووضع قطعة من كسوة الكعبة في الجامع، وحضوره العسكري في ذكرى "التحرير"، ليست مجرد مشاهد رمزية؛ إنها محاولة لصياغة لحظة تأسيسية تُعيد تعريف "شرعية الدولة" بعيدًا عن سردية النظام السابق.
ورغم هذا الحراك، تبقى معضلة الشرع الكبرى هي أن مشروعه السياسي يتحرك في فضاء هشّ بين تطلعات السوريين نحو دولة أكثر تمثيلًا، ورغبة قيادته في تثبيت دولة قوية حتى لو بقيت بعيدة عن المعايير الديمقراطية التي طالبت بها الثورة في بداياتها. فبينما شهدت البلاد انتخابات تشريعية غير مباشرة وعودة محدودة للحياة العامة، لا تزال مسألة التعددية الحزبية والانتقال السياسي الحقيقي مؤجلة إلى أجل غير معلوم، فيما تصرّ السلطة الجديدة على أولوية الأمن وإدارة الدولة قبل أي تحول ديمقراطي أعمق.
وبعد عام من الحكم، يمكن القول إن الشرع نجح في إعادة سوريا إلى الساحة الدولية، وثبّت موقعه كرئيس قادر على التفاوض مع القوى الكبرى، وفرض درجة من الاستقرار الأمني.