في ليلة وضحاها وجدت روسيا نفسها أمام تحولات جوهرية تحدث في البلدان التي تعتبرها
سوق إستراتيجياً لصناعاتها العسكرية، وهنا يجب عليها أن تحدد لها مسارا جديدا
للتعامل مع تبعات الثورة العربية في الشرق الأوسط، التي ستخلق أنظمة حكم عربية
جديدة تختلف أولوياتها عن الأنظمة السابقة..
كل ما تسعى إليه الدولة الأولى التي دعمت الاشتراكية في الوطن العربي منذ منتصف
القرن الماضي هزيمة غريمها الأقوى وهو أمريكا، ويبقى ملعبها الوحيد الشرق الأوسط
الذي حاولت فيه بناء مناطق نفوذ لها من خلال توفير الدعم العسكري والسياسي
والاستيلاء على سوق الاقتصاد العسكري في بعض بلدانه مثل ليبيا وسوريا و والعراق
سابقاً.
روسيا اليوم تبحث عن بدائل تساعدها على الاندماج مع الحالة العربية الجديدة،
للحفاظ على موطئ قدم في الشرق الأوسط. وهناك خيران في التوجهات الروسية الحالية
إما أن تواجه خطر فقدان الدور الإقليمي الحالي بكافة إنجازات المرحلة السابقة
وتحافظ على مناصرتها للأنظمة التي تعتبرها جزء من نفوذها، أو تحافظ على مكانة
إقليمية في الشرق الأوسط من خلال دعم الثورة العربية والحفاظ على علاقة جيدة مع
الشعوب العربية، وأهما دورها في دعم القضية الفلسطينية والكف عن سياسة الكيل
بمكيالين، لأن مرحلة النفاق السياسي الذي كانت تمارسه الكثير من الدول الغربية
لربما لن يجد له أذان عربية صاغية بعد أن فقد المنظرين للسلام من كان يدعم فكرتهم
..
ومع بداية الأحداث التي وقعت في الشرق الأوسط لم تبدي روسيا قلقها، خاصة وأنها كانت
تعتبر أن الدول العربية مستقرة ومن المستبعد أن تنهار, خاصة تلك الدول التي تقيم
علاقات اقتصادية كبيرة مع روسيا ( فمع ليبيا لوحدها وقعت روسيا اتفاقاً على بيع
أسلحة تبلغ قيمتها نحو 4 مليارات دولار, ومن غير الواضح ما الذي سيحدث الآن وماذا
سيكون مصيرها ) هذا إلى جانب التعاون في المجالات السياسية التي تم نسجها على مر
السنين بعد الجهود الكبيرة ( بما في ذلك التحالفات المعادية للغرب ).
الساسة الروس يعتقدون أن الثورات العربية ساهمت في إحداث تحولات جذرية لها تداعيات
قد تستمر لفترات طويلة وبنظرهم فإن جزء من هذه التداعيات سلبية بالنسبة إليهم، وهما
أمرين، الأول يتمثل بأن الديمقراطية الجديدة في العالم العربي وتولى الإسلاميين
قيادة الثورات العربية سيغير من أولويات الحكومات، وهذا سيؤثر على علاقة روسيا
بالدول الإسلامية المحيطة والتي قد يجد الإسلاميون فيها الثورة العربية نموذج يمكن
تطبيقه.
ويعتبر الروس أن الديمقراطية التي قد تنتج عن هذه الثورات قد تلغى إي تحالفات
أقامتها بعض البلدان العربية مع روسيا وهذا سوف يسمح بدخول بعض الدول الكبرى مثل
الصين في إطار المنافسة الاقتصادية .
نقاط في مصلحة روسيا:
-
باستطاعة روسيا أن تنقذ موقفها المرتبك وتقدم على خطوة جريئة بدعم الثورات العربية
في المحافل الدولية، وبذلك تستطيع أن تحصل على علاقة قوية مع الحكومات الجديدة
وكذلك مع الشعوب وتحافظ على مصالحها وربما تساهم في خسارة أمريكا دورها لأن
الإسلاميين وعامة الشعوب العربية في تلك البلدان لديهم ما يكفي من الكراهية لأمريكا
نظرا لممارساتها العدوانية في العراق وأفغانستان واليمن وكذلك تواطئها مع الكيان
الصهيوني في فلسطين.
-
يمكن لروسيا أن تستفيد من ذلك من خلال تشكيل كتلة سياسية داعمة لها من خلال إقامة
تحالفات دولية مع تلك الحكومات الناشئة.
تظهر الحكومة الروسية نوع من المرونة الضبابية وتتخلى بصورة سريعة عن الأنظمة
المنصهرة لكنها تبقى محافظة على موطئ قدم في رفض التدخل العسكري الأوروبي في ليبيا
ودعم الثوار، مخالفة بذلك الرأي العام الروسي الداخلي الذي يرفض دعم بلاده
للاستبداد في العالم العربي.
وهذا الأمر ظهر جلياً في الوضع الليبي. عندما قرر الرئيس الروسي ميدفيديف في نهاية
الأمر تأييد قرار الأمم المتحدة حول العقوبات ضد نظام القذافي, دون الاعتراض على
القرار رقم 1973.
وهذا القرار أدى إلى انتقادات عارمة وخاصة من جانب رئيس الحكومة فلاديمر بوتين (
والذي كشف بعد ذلك عن وجود اختلاف في وجهات النظر في القيادة الروسية ) ،هذا السلوك
المميز للتحرك, والذي يبعث برسائل مزدوجة يعكس نية الاستفادة الروسية من جميع
الأطراف.
بذلك حافظت الحكومة الروسية على قربها وعلاقتها بالغرب والولايات المتحدة قبل كل
شيء، وعدم المساس بعلاقتها بالنظام الليبي الذي يصارع البقاء، وكذلك هيئة الأجواء
لإمكانية إقامة علاقة جيدة بالقيادة الليبية القادمة وكسب نقاط دولية لصالحها.
تبقى الرؤية غير واضحة في الشرق الأوسط لكنها تقع بين احتمالين، الأول وهو سيطرة
تيارات فكرية إسلامية معادية للغرب، وبذلك يمكن للعلاقة بين تلك الدول والغرب أن
تكون قد وضعت في مسار جديد ومختلف عن الذي مضى، أما الاحتمال الثاني وهو المرجح
أكثر بأن تنظم حياة سياسية ديمقراطية يشارك فيها إسلاميون يساهمون من خلالها بإيجاد
علاقات متوازنة ومرتبطة بمصالح شعوبهم أكثر من الولاء للغرب و للإدارة الأمريكية
مثلما فعلت الحكومات السابقة ..
الأزمات التي تعصف بالإدارة الأمريكية وحالت الضعف التي تظهر جلية شكلت رأي عام
واضح لدى القيادات الدبلوماسية الروسية بأنه يجب انتهاز الفرصة واستغلال ذلك بتقوية
نفوذ روسيا وحصولها على فرص أكثر في الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة وهذا لن يتم
إلا بدعم الثورات العربية.
روسيا بعد انتعاشها السريع تحاول شق طريقها خلال الأحداث المعقدة. من خلال معرفة
الأضرار الواقعة عليها,ودراسة مسارات العمل في المستقبل للحفاظ على مكانتها في
الشرق الأوسط. ويشمل ذلك محاولة واضحة لبلورة بدائل لمنظومة العلاقات السابقة,
والتي انهارت مع سقوط الأنظمة القديمة، عن طريق استغلال الوضع الذي نشأ في
المنطقة.ويتضح ذلك في الجهود السياسية الروسية لمراجعة موقفها الدولي برمته.
ويمكن تلخيص هذه الصورة الناشئة باعتبارها بداية المنافسة مجدداً بين القوتين
العظيمتين على النفوذ في الشرق الأوسط الجديد.
في الفترة الحالية تترقب روسيا ما يحدث على مضض في ليبيا وسوريا، لأن النظام الذي
أنشئ على أسس اشتراكية يعتبر الحليف الأقوى للروس في المنطقة العربية وتُوقع سوريا
عقود سلاح بمليارات الدولارات مع روسيا، وكذلك النظام الليبي. إذا فقد الروس هاذين
المنفذين للعالم العربي سيخسرون كثيراً، وسيلزم الأمر جهدا كبيرا للبحث عن حلفاء
جدد في الشرق الأوسط الجديد..