ما بعد بولتون
"للوهلة الأولى ظننت أن ترامب قد عاد إلى رشده وقرر أن ينظف ادارته من المحافظين الجدد ...ولكن كان تفاؤلا مفرطا !!!"
هذه كلمات الكاتب الأمريكي كورت نيمو، يعلق بها على اقالة جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي المحسوب على تيار اليمني المحافظ الأمريكي، ثم يشير إلى الشخصية التي جاء بها ترامب ليخلف جون بولتون مؤقتا وهو نائب بولتون تشارلز كوبرمان. وهو رابع مستشار للأمن القومي يأتي به ترامب في خلال سنتين ونصف.
لقد واجه تعيين كوبرمان رفض من قبل مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية، وهي مجموعة تعمل في مجال الحقوق المدنية، التي دعت على الفور إلى استقالة كوبرمان، مشيرة إلى فترة عمله لقرابة عقد من الزمن مع مركز السياسة الأمنية.
ويتهم مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية مركز السياسات الأمنية بأنه يروّج لنظرية المؤامرة ضد المسلمين، وأنه يشكل تهديداً على أميركا والديمقراطية في البلاد.
أما تشارلز كوبرمان فعند البحث عن مؤهلاته نجد أنه حاصل على الماجستير والدكتوراه عن كيفية صنع العقائد الاستراتيجية للولايات المتحدة ...فالرجل متخصص بقوة في هذا المجال أي صناعة الاستراتيجيات المرتبطة بمجال الأفكار وليست الاستراتيجيات البراجماتية المجردة من الفكر أي أنه استمرارا لتواجد التيار المتشدد في السياسة الأمريكية.
ولكن كيف شكل بولتون وكيف سيشكل من سيخلفه تهديدا لأمريكا وللمسلمين كما يقول مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية؟
ينتمي جون بولتون ونائبه الذي سيخلفه إلى تيار المحافظين الجدد وهم مجموعة من المثقفين (المسيحيين واليهود) الليبراليين السابقين الذين تركوا الحزب الديمقراطي في عهد ريجان وانضموا إلى الحزب الجمهوري، حيث اجتذبتهم السياسة المتشددة التي انتهجها ريجان آنذاك، والنزعة المحافظة التي اتسمت بها سياسته الداخلية والخارجية.
وقد انخرط العديد منهم في إدارة ريجان ومن بعده بوش الأب؛ بعضهم بصفة مسؤولين مباشرين، وبعضهم الآخر بصفة مستشارين رسموا عمليًّا توجهات إدارته وسياسته على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ومنهم - من أبرز ممثلي هذا التيار - من أصبح يمارس دورًا محوريًّا في إدارة بوش الابن، أولئك الذين يطلق عليهم اسم حزب الحرب من أمثال ريتشارد بيرل، ودوغلاس فيت، وبول وولفوفيتز، وبالطبع ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، وكونداليزا رايس... وآخرون.
ومن بينهم أيضا جون بولتون، بينما ترجع صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية: إن فكر المحافظين الجدد قد بدأ يتشكل في سبعينيات القرن الماضي على مبدأين أساسيين:
- رفض انعزالية الديمقراطيين (التي يئست من نشر الديمقراطية والقيم الأمريكية على المستوى الدولي)، ورفض واقعية الجمهوريين (التي تنظر إلى العلاقات الدولية بالأساس كصراع قوى ومصالح، ولا تهتم كثيرًا بالرؤى الأخلاقية مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم).
- البحث عن سياسة خارجية أمريكية تضمن هيمنة الولايات المتحدة عالميًّا، وتنشر قيمها الأساسية، كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، وبناء المجتمع المدني، والمؤسسات السياسية من خلال سياستها الخارجية. وأن تقرن مساعداتها وضغوطها على دول العالم المختلفة بتبني هذه الدول للقيم الأمريكية وتنفيذها داخل مجتمعاتها ونظمها السياسية.. سياسة تنطلق من وضع الولايات المتحدة بوصفها قوة عظمى وحيدة في العالم، وتعمل للحفاظ على هذا الوضع والاستفادة منه لأكبر فترة ممكنة.
يستمدّ هذا التيار قوته ونفوذه وقدرته على التأثير ليس من قوته العددية، فهو قليل العدد، ويتألف من نخبة من السياسيين والمثقفين والمحللين والباحثين والإعلاميين من كتاب الأعمدة الرئيسية في الصحف الكبرى، والذين لديهم القدرة على الوصول إلى منابر إعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة؛ مما منحهم إمكانية التأثير في الرأي العام، بل وصنعه، وكذلك القدرة على تبوؤ مناصب عالية في مراكز أبحاث ودراسات استراتيجية، حيث أنشأوا مراكز أدمغة مهمتها وضع الدراسات والاقتراحات النظرية والتوصيات والخطط المستمدة من رؤيتهم للعالم الراهن في عصر الأحادية القطبية، حيث الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة والآمرة، ذلك هو مصدر قوة ونفوذ هذا التيار.
وتتسم أفكار وخطط هؤلاء ونظرتهم إلى العالم وإلى العلاقات الدولية المعاصرة، بالتبسيطية وبروحية أبيض - أسود، ومن ليس معنا فهو ضدنا؛ أي أنها ترتكز إلى العقيدة المانوية التي تقول بالتقسيم القاطع لقوتي الخير والشر المتصارعتين، فمن ليس مع الخير (الذي تجسده الولايات المتحدة اليوم) هو مع الشر حتمًا، وينبغي محاربته ومعاقبته واستخدام كل الوسائل المتاحة للانتصار عليه! وهم يؤكدون أن الإمبراطورية الفتية لا يمكن أن تقوم بالأعباء التي ألقاها القدر والتطور العالمي المعاصر على عاتقها، إلا باختبار القوة العظمى لقدراتها الردعية باستمرار لكي تثبت فعاليتها وأحقية زعامتها، هؤلاء هم الآباء الروحيون لما صار بحق التدخل في كل أنحاء العالم، والقرارات والخطوات الانفرادية النابعة من مصالح الولايات المتحدة وحدها، والتي لا تأخذ في الاعتبار مصالح أي طرف أو بلد آخر وحقوقه، حتى لو كان من أقرب حلفاء واشنطن وأصدقائها.
لقد هيمن دعاة هذا التيار المتشدد من المحافظين الجدد على إدارة بوش الابن في الماضي، ثم كان هذا التيار سببا في فوز ترامب في معركة انتخابية صعبة، ولذلك تمكنوا من الاستحواذ على نسبة عالية من المناصب في ادارة ترامب.
ومن بين هؤلاء جون بولتون الذي عرف عنه منذ مدة طويلة كأبرز دعاة المحافظين الجدد، ويعتبر من صقور المحافظين الجدد وينزع إلى الحلول العسكرية في كل النزاعات، ولا يكترث لا بالقانون الدولي ولا بالمؤسسات الدولية. فالرجل على سبيل المثل شغل وظيفة معلق في قناة فوكس نيوز التي تروج للأفكار اليمينية المحافظة، علاوة على أنه عضو في عدد كبير من "مراكز الدراسات الإستراتيجية" المتطرفة، مثل المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي.
ورغم أن بولتون لم يقضِ إلا عامًا ونصف تقريبًا في منصبه، فإن تأثيره على إدارة ترامب وعلى سياسات الأمن القومي الأميركية لم يكن ضئيلًا بحال، ولطالما أعرب بولتون عن دعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان أيضا معاديا لمعاهدة لشبونة وضد أي نوع من السياسات الليبرالية. في الوقت ذاته يرى بولتون أن الاتحاد الأوروبي يمثل مصدر الشرور في الكوكب بأسره.
وبالنسبة لأهم قضايا المنطقة والمتعلقة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فإن بولتون اتخذ موقفاً متشدداً من الفلسطينيين ومسانداً لإسرائيل، ويرفض حل الدولتين، بل إنه اقترح حل ثلاث دول. ويقصد فيه أن ما يسميهم المجموعات المتفرقة في الضفة الغربية تلحق بالأردن وقطاع غزة تعطى إلى مصر، وبالطبع تستولي إسرائيل على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
كذلك لم يمض شهر واحد على تعيينه إلا ووضع بصمته بدفع ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي المشترك بين إيران وأميركا، وهو انسحاب كان لبولتون أبلغ الأثر فيه، حيث هندس مستشار الأمن القومي السابق في فترته تلك مع صقور الإدارة الأمريكية الآخرين -وعلى رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو محاولة الانقلاب الناعم غير الناجحة في فنزويلا على النظام الحالي بقيادة نيكولاس مادورو.
ورأى مركز الابحاث "دبلوماسي ووركس" ان السفير بولتون يمثل أسوأ أوجه المغامرة في السياسة الخارجية الأميركية، منتقداً ميله إلى التدخل العسكري.
ولكن بالرغم من هذه المؤهلات فقد أقاله ترامب من منصبه فما الدافع الذي جعله يفعل ذلك؟
تبرر فرانسيس براون العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي أن مستشار الأمن القومي المقال جون بولتون لم يكتف بالعمل المحدد للمنصب الخاص به، بل كان يتحدث مباشرة لوسائل الإعلام؛ وهذا أحد أهم الأسباب في خلافه مع الرئيس دونالد ترامب. وأوضحت أن مواقف بولتون كانت معروفة منذ وقت طويل، وكان الرئيس معجبا بكلامه القاسي بشأن استخدام القنابل لتدمير إيران، ولكن فيما بعد تعيينه لبولتون بدأ ترامب يميل للمواقف العقلانية من الملف الإيراني، وفضل المفاوضات بدل الحرب، وفي النهاية يظل القرار للرئيس وليس لمستشار الأمن القومي.
ويؤكد على هذا المعنى مراسل الشؤون القومية في مجلة "ناشونال ريفيو" جون فند الذي يقول إن بولتون كان معارضا لرأي الرئيس ترامب، وما يبحث عنه الرئيس اليوم هو مستشار قوي يخلف بولتون لكن لا يعارض رأيه0
بينما يرى المدير السابق للتواصل الدولي بالبيت الأبيض بريت بروين أن هناك رسالتين واضحتين تتضمنهما إقالة بولتون، الأولى توحي بعدم الاستقرار داخل إدارة ترامب وهذا عامل يزعزع الاستقرار، والثانية تدل على تصرف عشوائي لدى ترامب في اتخاذ القرارات وهو أمر غير اعتيادي داخل البيت الأبيض، إذ يجب تعيين مستشار ثابت للأمن القومي وليس مستشارا مؤقتا.
وأكد أن التصرفات المتناقضة للرئيس تؤدي للإضرار بأعمال مستشار الأمن القومي، وهذا ما واجه بولتون مع ترامب في العديد من الملفات؛ أهمها الملف الكوري الشمالي وصعوبة إيجاد حلول من وجهة نظر بولتون.
ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، عندما قام بولتون بـحملة اللحظات الأخيرة من أجل ردع ترامب عن توقيع اتفاق سلام في كامب ديفيد مع قادة حركة طالبان.
ونجح بولتون بالفعل في دفع ترامب إلى إلغاء الاجتماع وتعليق التفاوض، إلا أنه خسر الحرب الكبرى. فقد ألقى مساعدو ترامب، الذين دعموا المفاوضات، باللوم على بولتون فيما يتعلق بـالتسريبات عن معارضته للاتفاق، فيما نشر خصومه معلومات عن أنه استُبعِد من الاجتماعات، حتى إن جون هادسون قال في صحيفة واشنطن بوست إن المفاوض الأميركي، زلماي خليل زاد، منع بولتون من الحصول على نسخة من الاتفاق مع طالبان، مشترطاً عليه الاطّلاع عليها بحضوره.
وهكذا انتهى دور بولتون في الإدارة الأمريكية، وربما في السياسة الأمريكية ولكن تياره لا يزال فاعلا، وستكون الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة هي المقياس لذلك.