• - الموافق2025/08/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حين تخضع حياة المسلمين في الهند لبراثن القضايا الملفقة

توريط المسلمين في الهند في قضايا الإرهاب الملفقة، صار نهجا للحكومة الهندية، حيث تتحول الاستخبارات وأجهزة مكافحة الإرهاب إلى أداة سياسية وأمنية لإيجاد "متهم جاهز"، بينما تُدفن الحقيقة في ملفات غامضة.

في 21 يوليو 2025، دوّى خبرٌ قضائي من بومباي، قلب المشهد السياسي والقانوني في الهند: محكمة بومباي العالية برّأت جميع المتهمين في قضية تفجيرات قطارات مومباي عام 2006. هؤلاء الرجال، وجميعهم مسلمون، قضوا ثمانية عشر عاماً خلف القضبان بين أحكام إعدام وسجن مؤبد، قبل أن يأتي الحكم ليعلن أنهم كانوا ضحايا قضية ملفقة، وأن الادعاء فشل تماماً في إثبات التهم.

القرار لم يكن مجرد حكم قضائي؛ بل كان صدمة للعدالة، ولأسر الضحايا، وللمجتمع الهندي الذي تابع هذه القضية بوصفها من أعنف الهجمات الإرهابية في تاريخه الحديث.

فصول من المأساة: مومباي 2006

في ليلة صيفية من يوليو 2006، دوّت سلسلة من الانفجارات في قطارات الضواحي بمومباي، خلّفت وراءها أكثر من 180 قتيلاً ومئات الجرحى. لم تمضِ ساعات حتى سارعت أجهزة التحقيق والإعلام إلى تقديم "السيناريو الجاهز": مجموعة من الشباب المسلمين، ينتمون إلى تنظيمات إسلامية محظورة، دبّروا وخططوا ونفّذوا. قُدمت الرواية كما لو كانت حقيقة لا يرقى إليها الشك. لكن بعد نحو عقدين من السجن، والتعذيب، والإجراءات القضائية المرهقة، جاء حكم محكمة بومباي العليا في يوليو 2025 ليكشف زيف هذه الرواية، ويعلن براءة 12 رجلاً لطالما وُصفوا بأنهم "إرهابيون خطرون".

هذه القضية ليست استثناءً، بل تكشف عن نمط طويل الأمد: توريط المسلمين في قضايا الإرهاب الملفقة، حيث تتحول الاستخبارات وأجهزة مكافحة الإرهاب إلى أداة سياسية وأمنية لإيجاد "متهم جاهز"، بينما تُدفن الحقيقة في ملفات غامضة.

حين وقعت التفجيرات، سارعت السلطات إلى توجيه أصابع الاتهام لمجموعة من الشباب، معظمهم من أحياء فقيرة أو متوسطة الحال. اتُّهموا بأنهم تلقوا تدريباً في باكستان، وأنهم اشتروا "طناجر ضغط" من الأسواق المحلية وحولوها إلى قنابل موقوتة.

في عام 2015، أصدرت محكمة خاصة أحكاماً بالإعدام على خمسة منهم، وبالسجن المؤبد على سبعة آخرين. فبدأ أن الملف قد أُغلق، وأن العدالة تحققت. لكن الحقيقة أن هذه العدالة كانت عدالة مزيفة، قائمة على اعترافات انتُزعت تحت التعذيب، وشهادات ملفقة، وتحقيقات مليئة بالثغرات.

ماذا قالت المحكمة؟

محكمة بومباي العليا، برئاسة القاضيين أنيل إس. كلور وشيام سي. چندك، وصفت القضية بأنها مبنية على أسس ضعيفة، واعتبرت أن الاعترافات التي استندت إليها الشرطة مشكوك فيها، وأن الإجراءات شابها خلل جوهري.

القرار جاء واضحاً:

"الادعاء فشل كلياً في إثبات الاتهامات. لا يمكن للقضاء أن يصدق أن المتهمين ارتكبوا هذا الفعل."

وأشارت المحكمة إلى أن "إغلاق القضية عبر تقديم متهمين أبرياء لا يحقق العدالة، بل يمنح شعوراً زائفاً بأن العدالة أُنجزت".

أصوات من خلف القضبان: ماذا يقول المفرج عنهم؟

واحد شيخ، الذي أفرج عنه في وقت سابق عام 2015، قال بصوت متهدج وهو يستعيد لحظة البراءة:

"كنا نقول منذ اليوم الأول إننا أبرياء. لقد عشنا سنوات من الجحيم، تعرضنا للتعذيب، أُجبرنا على التوقيع على اعترافات لم نقلها. اليوم فقط، وبعد أن تحطمنا من الداخل، تعترف المحكمة بالحقيقة."

 

 تكشف قضية مومباي 2006 عن جانب مظلم في علاقة الدولة بالمسلمين في الهند: علاقة تقوم أحياناً على الشك والتهميش والفبركة. إن براءة 12 رجلاً بعد 18 عاماً ليست انتصاراً كاملاً، بل تذكير مؤلم بأن العدالة قد تُسرق لسنوات طويلة قبل أن تُستعاد.

سهيل محمود شيخ، الذي قضى 18 عاماً خلف القضبان، وصف اللحظة التي علم فيها بقرار المحكمة:

"لم أصدق أذني حين قال المحامي إننا أحرار. فكرت في أمي التي رحلت وأنا في السجن، ولم أتمكن حتى من وداعها. أي براءة يمكن أن تعيد لي تلك اللحظات؟"

أبناء وأقارب المفرج عنهم يعيشون لحظة مختلطة بين الفرح والمرارة. ابن علي شيخ، أحد المحكومين ظلماً، قال: "نشأنا ونحن نزور السجون أكثر مما نزور المتنزهات. والدي غاب عن أهم لحظات حياتنا. الآن يعود، لكن من يعوض طفولتنا المسروقة؟"

السيناريو المتكرر المسلمين كبش فداء

لم تكن قضية مومباي استثناءً. فقبلها وبعدها، برزت قضايا مشابهة، مثل تفجيرات ماليغاؤں 2006، حيث اعتُقل عشرات المسلمين، ليُكتشف لاحقاً أن المنفذين الحقيقيين ينتمون إلى جماعات هندوسية متطرفة.

النمط واحد:

·                     اعتقالات عشوائية تستهدف شباباً مسلمين.

·                     اتهامات جاهزة بالارتباط بـ"لشكر طيبة" أو "طالبان".

·                     تعذيب وحشي لانتزاع اعترافات.

·                     محاكمات مطولة تنتهي غالباً بأحكام قاسية.

·                     سنوات من السجن قبل أن تتدخل محكمة عالية أو عليا لتقول: "لا أدلة."

ردود الفعل السياسية

·                     أسد الدين أويسي، رئيس مجلس اتحاد المسلمين، عبّر عن ارتياحه للقرار، لكنه أكد أن حياة هؤلاء الشبان قد تحطمت، إذ "ضاعت 18 سنة من عمرهم ظلماً". وأكد أن عائلات الضحايا لم تحصل بدورها على العدالة الحقيقية.

·                     في المقابل، اعتبر سياسيون من الحزب الحاكم وشيف سينا أن القرار صادم، وطالبوا بالاستئناف أمام المحكمة العليا.

·                     المدعي العام السابق أجول نكم شدد على أن الدولة ستطعن في الحكم أمام المحكمة العليا، واصفاً البراءة بأنها تثير "مخاطر جسيمة".

 لماذا يتكرر هذا السيناريو؟ يرى خبراء أن هناك عدة أسباب:

1.                 الضغط السياسي والإعلامي: حين يقع هجوم، تحتاج السلطات إلى "متهم سريع" لطمأنة الرأي العام.

2.                 التحيز الطائفي: الصورة النمطية للمسلم كـ"إرهابي محتمل" تجعل من السهل استهدافه.

3.                 القوانين القمعية: مثل قانون مكافحة الأنشطة غير المشروعة (UAPA) وقانون مكوكا (MCOCA)، التي تسمح بالاعتقال الطويل دون محاكمة.

4.                 غياب الرقابة القضائية: حيث تُمنح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة دون محاسبة حقيقية.

جراح لا تلتئم

ما لا تقوله أوراق المحاكم هو حجم المأساة الإنسانية.

·                     أمهات رحلن وهن ينتظرن عودة أبنائهن.

·                     أطفال كبروا بلا آباء، محرومين من العاطفة والأمان.

·                     أسر أُفقرت بسبب مصاريف المحاكم والتنقل لزيارة السجون.

أحد أقارب المفرج عنهم عبّر بمرارة:

"العدالة المتأخرة ظلم مضاعف. لقد فقدنا أعواماً من حياتنا، ولا أحد يعوضنا."

الإعلام والمحاكم الموازية

منذ لحظة الاعتقال، لعب الإعلام الهندي دوراً بارزاً في شيطنة المتهمين. عناوين مثل "القبض على العقل المدبر" أو "تصفية الإرهابيين" رسخت صورة مجرمين في وعي الجماهير، حتى قبل أن تبدأ المحاكمات. هذه التغطية غذّت مشاعر الخوف والعداء، وأسهمت في تبرير سنوات الاعتقال الطويلة.

انعكاسات الحكم الأخير

قرار بومباي العليا لا يبرئ المتهمين فقط، بل يدين بشكل غير مباشر أداء أجهزة التحقيق. فهو يفتح الباب لطرح أسئلة محرجة:

·                     من هم المنفذون الحقيقيون إذاً؟

·                     لماذا أُهدر عقدان من حياة أبرياء؟

·                     هل سيحاسَب الضباط الذين مارسوا التعذيب وزوروا التحقيقات؟

حتى الآن، لم تصدر أي إشارة إلى محاسبة المتورطين، مما يعزز الشكوك بأن الأمر سيُطوى كما طُويت قضايا سابقة.

تكشف قضية مومباي 2006 عن جانب مظلم في علاقة الدولة بالمسلمين في الهند: علاقة تقوم أحياناً على الشك والتهميش والفبركة. إن براءة 12 رجلاً بعد 18 عاماً ليست انتصاراً كاملاً، بل تذكير مؤلم بأن العدالة قد تُسرق لسنوات طويلة قبل أن تُستعاد.

لكن الأهم هو أن هذه القصة تطرح سؤالاً أكبر: هل ستظل الأجهزة الأمنية تبحث عن "متهم جاهز" لتغلق الملفات بسرعة، أم سيأتي يوم تُجرى فيه تحقيقات نزيهة لا يذهب ضحيتها الأبرياء؟ حتى ذلك الحين، سيظل صوت واحد شيخ وزملائه يدوّي: "لقد ضاعت حياتنا، لكننا لم نفقد الحقيقة."

وخلاصة القول بعد ما يقارب عقدين من السجن والمعاناة، خرج أولئك الأبرياء المسلمون من وراء القضبان، يحملون وجوهاً أنهكها الزمن وقلوباً مثقلة بالجراح، لكنهم خرجوا مرفوعي الرأس ببراءتهم التي طال انتظارها. لم تكن سنوات السجن مجرد حجزٍ للحرية، بل كانت حياةً مسروقة، وأحلاماً مهدورة، وأطفالاً كبروا بعيداً عن أحضان آبائهم، وزوجاتٍ ناضلن بين دموع الفقد وقسوة المجتمع، وأمهاتٍ قضين أعمارهن يزرعن الأمل في أن ترى أعينهن أبناءهن أحراراً قبل أن تغمضها المنايا.

إنّ لحظة الإفراج لم تكن نصراً قانونياً فحسب، بل كانت صرخة مدوية في وجه الظلم، وصفعة على وجوه أولئك الذين استسهلوا تلفيق التهم وزرع الأدلة، وجعلوا من الاستخبارات فخاً محكماً لتوريط مسلمي الهند في قضايا الإرهاب. براءة هؤلاء لم تعُد فقط انتصاراً فردياً، بل شهادة للتاريخ على أنّ الحقيقة وإن تأخرت لا بد أن تُشرق، وأن المظلوم قد يُثقل بالقيود، لكنه لا يُهزم أمام صبره وإيمانه.

لقد خرجوا من السجون، لكن جراحهم لم تندمل، وما سُلب من أعمارهم لا يُعوَّض، ومع ذلك فإنّ كلماتهم الأولى بعد الحرية كانت مزيجاً من الدموع والشكر لله، ودعوةً إلى أن يتوقف مسلسل الظلم الذي يلتهم أرواح الأبرياء.

إنها لحظة مؤلمة ومشرقة في آنٍ معاً: مؤلمة لما تكشفه من عمق المأساة، ومشرقة لأنها تذكّرنا أن الأمل لا يموت، وأن العدالة قد تتأخر لكنها لن تغيب. ولعلّ براءة هؤلاء تكون بداية صحوة تُلزم المجتمع والدولة بأن يعيدا النظر في أساليب التحقيق وأدوات الاستخبارات، وأن يدرك الجميع أنّ الظلم لا يصنع أمناً، وأن الحقيقة مهما حوصرت ستظل أقوى من كل فخٍّ وكل زيف.

أعلى