كَشف المُخبَّأ
ماغاب عن سمع الإنسان وبصره فإنه دائم التطلع إليه، والترقب له، والبحث عنه، وهذه طبيعة جبلت عليها النفوس، ولذا ترى في خبر أبينا آدم _عليه السلام_ حين منع من أكل الشجرة كان من مدخل الشيطان عليه في تزيينه للأكل منها محاولة إظهار السر في المنع والكشف عن سببه، وكان لهذا المدخل أثره في مواقعة المحظور كما هو معلوم، ولذا كان من تربية الله لعباده المؤمنين إجراء الأمور على ظواهرها وترك البحث والتنقير عما وراء ذلك، وفي هذا راحة للقلب لا توصف، وطمأنينة للنفس لا تتصور، وتوظيف للإبداع والطاقة فيما ينفع، فكم يؤذي نفسه ويضيع وقته ويخسر صفاء قلبه لغيره من انشغل بما يقال عنه ويتكلم فيه، أو جعل يفتش عن دواخل غيره وخفاياه مما قد يسوؤه الاطلاع عليه، فيكون للشيطان مسرح لإساءة الظن وفساد العشرة، وفي قول الباري سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)، تصوير قبح هذا المسلك وسوء أثره، قال ابن كثير رحمه الله: (وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها.
وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يبلِّغني أحد عن أحد شيئا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر")[2]، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)، إشارة إلى منابذة مسلك تتبع المخفي لسلامة الصدر، وغرس الوحشة فيه والحزن وسوء الظن، قال ابن المَلَك: والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبه راض عن أصحابه من غير سخط على أحد منهم، وهذا تعليم للأمة أو من مقتضيات البشرية[3].
ومن تتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعده وإعراضه عن تصيد خفايا أصحابه وأزواجه، وأدل شيء على ذلك وصاياه وتوجيهاته، ففي وصيته عليه الصلاة والسلام لمعاوية رضي الله عنه: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)[4]، قال أبو الدرداء رضي الله عنه معقباً: (كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله تعالى بها)، ويؤكد عليه الصلاة والسلام هذا المعنى لأصحابه بقوله: (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)[5].
والإغضاء والتغافل مع عدم البحث عن الخفي ينبغي أن يكون منهاجاً في كل شؤون المرء، في بيت الزوجية في ارتباط الزوجين ببعضهما، وفي الوظيفة والعمل، والمربي والمعلم مع طلابهم وتلامذتهم، "فقد يترتب على التفتيش من المفاسد ما يربو على تلك المفسدة التي يراد إزالتها"[6]، وما زال التغافل من فعل الكرام كما قال الثوري[7]، وقال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل[8]. ولما قيل للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، قال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل[9].
فقد يعيش المرء في حلم جميل، وصفاء نفس، وتصور هانئ عن محبة شخص له وتقديمه على غيره، ورضا عن أهل بيته وتلاميذه وأصحابه، فإذا أعمل التفتيش وكشف المخبوء ضيع ذلك الحلم والتصور والصفاء، واستبدل في قلبه الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولعمرو بن العاص رضي الله عنه خبر معبر وتجربة نافعة، يخبر بها عن نفسه فيقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها» قلت: ثم من؟ قال: «عمر» فعد رجالا، فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم، ثم يقول رضي الله عنه بعدما انتفع من هذه التجربة: قلت في نفسي: "لا أعود أسأل عن هذا"[10].
وقد يجر تتبع الخفي إلى أن يكون طبيعة وسجية لا يستطيع الانفكاك منه، وملازمته تجر إلى تتبع العورات واصطيادها والتنبيش عنها، ويكفي واعظاً ليربأ المرء عنه: حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته)[11].
وليس هذا الخلق من الذكاء والفطنة، ومن مداخل الشيطان للإنسان أن يزين له هذا الفعل ويوهمه أنه نبوغ وحذق، ومن لفتات ابن حزم قوله: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك"[12].
ومن جميل وصفات الوقاية من هذا الداء ما جاء عن عبد الملك بن مروان أن رجلاً قال له: إني أريد أن أسر إليك شيئاً، فقال عبد الملك لأصحابه: إذا شئتم، فنهضوا، فأراد الرجل الكلام، فقال له عبد الملك: قف، لا تمدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني، فإنه لا رأي لمكذوبٍ? ولا تغتب عندي أحداً. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في الانصراف? قال له: إذا شئت[13].
وقال عالم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه: إذا كان لك أخ في الله تعالى فلا تماره ولا تسمع فيه من أحد، فربما قال لك ما ليس فيه فحال بينك وبينه[14].
فالدفع أيسر من الرفع، والوقاية خير من العلاج، وراحة النفس بالصد أسهل من مجاهدتها ومعالجتها بعد ورود الخواطر وإساءة الظن والوقوع في وحل الشكوك.
وما ذكرت لا يعني إغفال النصيحة إذا ظهر ما يستدعي ذلك بالأسلوب الأمثل، فهذا باب وذاك آخر.
[1] أخرجه أحمد (6 / 302)، وأبو داود (4860)، والترمذي (3896)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
[2] تفسير ابن كثير (3 / 206)، وينظر: زاد المسير لابن الجوزي (1 / 591).
[3] مرقاة المفاتيح (7 / 3046).
[4] أخرجه أبو داود (4/272)، وابن حبان (13/72)، وصححه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1 / 660).
[5] أخرجه البخاري (5 / 164)، ومسلم (2 / 742).
[6] ينظر: فيض القدير (1 / 559).
[7] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4 / 565).
[8] أدب الدنيا والدين (1 / 180).
[9] الآداب الشرعية والمنح المرعية (2 / 17).
[10] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (4 / 401)، وأصله في صحيحي البخاري ومسلم، وينظر: السيرة النبوية لابن كثير (3 / 520)، فتح الباري لابن حجر (8 / 75).
[11] أخرجه أحمد (33 / 40)، من حديث أبي برزة. وروي من حديث ابن عمر عند الترمذي ومن حديث البراء ابن عازب، وصحح الزيلعي حديث ابن عمر، وقال العراقي عن حديث أبي برزة: إسناده جيد. تخريج أحاديث الإحياء (1 / 661)، تخريج أحاديث الكشاف (3 / 344).
[12] الأخلاق والسير (ص26)
[13] الكامل في اللغة والأدب (1 / 65)
[14] الآداب الشرعية (1 / 241)، غذاء الألباب (1 / 270).