مسؤولية الأسرة 1
من المعلوم أن هذه الشريعة المباركة
إنما جاءت لإسعاد البشر إن اقتفوا نصوصها وجسدوها في حياتهم.
وبما أن الأسرة هي اللبنة الأولى
لتأسيس المجتمعات والمعدن الأساس لإنتاج الأفراد وتزويدهم بالمعارف وإعطائهم
المهارات الضرورية فإن الإسلام قد أولاها عناية خاصة ومنحها أهمية كبيرة وحملها
بالمقابل مسؤوليات جسيمة واسترعاها أمانة عظيمة؛ يتمثل جانبها الأهم في تربية
أولئك الأفراد، ولم يكل إليها الأمر في ذلك بشكل مطلق، بل رسم لها معالم المنهج
الذي ينبغي أن تقوم عليه رعايتهم والوفاء بالأمانة في شأنهم؛ وحدد لها أن معالم
ذلك تتم من خلال صياغتهم وفق هذا القرآن الكريم، الذي شرّف الله تعالى به هذه
الأمة الخاتمة، وأعلى به شأنها ورفع به درجاتها؛ حين تجسده في حيتها وتتلوه في
بيوتها وتتدارسه في مدارسها وتحفظه في حلقاتها؛ ليكون لها المحضن المكين، والملاذ
الآمن، ولتستقي منه التربية المتكاملة، والمقوم الأول للحياة الكريمة.
ذلك أنه كلام من خلق البشر وجعلهم
ذكوراً وإناثاً وشعوباً وقبائل مختلفة الأجناس والألوان والألسنة؛ فجاء القرآن
ليعالجهم من كل انحراف، وينقذهم من كل إسفاف، فناداهم بنداء واحد يراعي الخصوصية،
وينمي فيهم ارتباطهم بخالقهم، الذي ذرأهم رغم ذلك التفاوت من أصل واحد؛ قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً...}[النساء:1].
وبهذا نبههم الله تعالى أن أصل خلقهم
واحد، وأنهم مخلوقون جميعاً من أرومة واحدة، وأن مرجعهم إلى وحدة اجتماعية واحدة،
وأن مردهم جميعاً إلى خالق واحد، أبدعهم ابتداء نفساً واحدة وجعل منها زوجها
ليتكون أساس الأسرة التي يقوم عليها نظام المجتمع البشري الذي تطبق فطرته على
توحيد إله واحد؛ هو الخالق الرازق المبدئ المعيد.
إن تلك اللبنة الأولى للمجتمع تكتنف
طفلاً يترعرع في أحضانها وتنمو مداركه في جوها وتتبلور أحاسيسه في حناياها وتتأسس
قيمه في أرجائها وتترسخ مبادئه بين حجرها، فلا بد أن تكون واعية بمسؤوليتها تجاهه.
لقد حبي الطفل في الأسرة المسلمة
بعناية منعدمة النظير؛ وذلك بما جعل الله له من حقوق أناطها بأسرته الكريمة التي
أنزلها المنزلة الرفيعة وبوأها المكانة العالية وأحاطها بالرعاية الكاملة؛ لتكون
عراها وثيقة وبنيانها راسياً وحصنها منيعاً، حتى تتمكن من أداء مسؤوليتها عن طفلها
بكفاءة.
إنّ الطفل بوصفه مخلوقاً ضعيفاً
حل ضيفاً جديداً على الحياة بشكل كلي يحتاج إلى قدر كبير من الإعداد وتهيئة أرضية
الحياة. ولذلك كان أول شيء في ذلك السبيل حباه الله تعالى به أن شحن قلبي والديه
اللذين هما ركنا الأسرة رحمة له وإشفاقاً فطرياً عليه، فسهل ذلك مسؤوليتهما نحوه
ويسر قيامهما عليه. إضافة إلى ما أوجب الله عليهما من احتضانه ورعايته، وما
ألزمهما به من بذل أقصى ما يسعهما من جهد وتقديم أعلى ما يمكنهما من تضحية لتحقيق
تربيته وفق ضوابط هذه الشريعة المباركة. فقد جعلهما الله تعالى مسؤولين عنه
مسؤولية كاملة، ومحاسبين على كل تقصير قد يصدر منهما تجاهه، وحملهما أمانة تهذيبه.
هكذا أوجب الله تعالى على
الأسرة المسلمة أمانة أطفالها، وجعلها مسؤولة عن تربيتهم وتعليمهم وتوجيههم
ورعايتهم, كما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول
عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده
وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم
مسئول عن رعيته» [1]. قال ابن حجر تعليقا على هذا الحديث:
(واستدل به على أن المكلف يؤاخذ بالتقصير في أمر من هو في حكمه) [2].
وذلك متسق مع قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا...}[التحريم:2].
فالبداية في تربية النشء بالنفس التي بصلاحها يصلح الأولاد؛ إذ الحسن عندهم ما فعل
الأبوان, والقبيح ما استهجنا، والمؤمن مكلف بهداية نفسه وإصلاح قلبه قبل العمل على
إصلاح وهداية غيره.
لقد وضع الإسلام أُسساً لتربية الطفل
المسلم تربية سليمة، وأوجب على والديه متابعته ونصحه والسعي إلى هدايته؛ وذلك
بتعزيز مبادئ الإيمان والتقوى والصلاح لديه، حتى يجعلا منه قرة عين ويبلورا به
بهجة عمر ويجسدا من خلاله أنيساً به تحلو الحياة...وينسجان منه طموحاً عليه تعلق
أجمل الآمال...فإن هما قاما عليه بأحسن التربية وأصلح التنشئة صاغا منه مصدر سعادة
وجعلا منه عنصر خيرية وأوجدا منه عامل بناء..
مسؤولية الأسرة 1
مسؤولية الأسرة 2
مسؤولية الأسرة 3
[1]
البخاري (2554)، ومسلم (1829).
[2]
فتح الباري (13|113).