تعددت اليوم نماذج سياسية من نظم وأحزاب تحاول أو تدعي أنها تستلهم من الإسلام مرجعيتها. وفي خضم ممارسات هذه النظم والأحزاب والجماعات السياسية تتضارب مواقفها وتختلط وتتورط في ممارسات تتناقض في أحيان كثيرة مع ما يعتقد البعض أنها مخالفات شرعية ويفسرها المحللون على انها مواقف برجماتية أو نفعية بينما يفسرها أصحابها أنها ممارسة في إطار المصلحة الشرعية ...فكيف نحل هذا التشابك؟
ينبغي في البداية تعريف البرجماتية كمصطلح فلسفي من وجهة نظر الموسوعات الفلسفية ثم ننتقل إلى تحرير المصلحة الشرعية عند علماء الشريعة ثم نتعرف على أوجه التشابه والتضارب بين المصطلحين ومعالمها الفكرية؟
أولا/ البرجماتية:
البرجماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني (Progma) أو برجما ومعناه العمل أو مسألة عملية وفي معجم المصطلحات الفلسفية[1] هو لفظ استعمله تشارلز بيرس في أخريات القرن التاسع عشر وأراد به أن معيار الحقيقة هو العمل المنتج لا مجرد التأمل النظري والبرجماتية بحسب هذا المعجم مذهب يرى أن معيار صدق الآراء والأفكار إنما هو في قيمة عواقبها عمل وأن المعرفة أداة لخدمة مطالب الحياة وأن صدق قضية ما هو كونها مفيدة.
وانتقل المفهوم البرجماتية إلى العمل السياسي فأصبح العمل بما يراه السياسي مصلحة للدولة ومنفعتها برجماتية. ومن أبرز رموز المذهب وأغلبهم من الأمريكان: تشارلز بيرس وهو بروفيسور في جامعة هارفارد الأمريكية وأول من استخدم هذا المصطلح عام 1878 عندما قام بكتابة مقال بعنوان (كيف نجعل أفكارنا واضحة) ثم وليم جيمس وهو عالم نفسي وفيلسوف أمريكي من أصل سويدي ثم جون ديوي وهو فيلسوف أمريكي.
كانت للفكرة البرجماتية مواقف من عدة عناصر رئيسة: غاية الانسان وتعارض الأفكار والعقل والدين والنشاط الإنساني والكون والأخلاق والزمن...فغاية الانسان هي حفظ بقائه أولاً ثم السير نحو السمو والكمال ثانياً وإذا تضاربت آراء الإنسان وأفكاره وتعارضت كان أحقها وأصدقها أنفعها وأجداها والنفع هو الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته أما العقل فهو أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها فليست مهمته تفسير عالم الغيب المجهول بل يجب أن يتوجه للحياة العملية الواقعية والدين وجوده بمقدار ما ينفع الانسان ويحقق غاياته في البقاء والسير نحو السمو والكمال وفي النهاية النشاط الإنساني له طريقان العقل والإرادة فبالعقل ينتج العلم والإرادة تتجه به نحو الدين فالصلة بين العلم والدين ترد إلى الصلة بين العقل والإرادة.
والكون في الفكر البراجماتي متغير باستمرار ويعد الوصول إلى حقيقة الكون وكيفية وجوده أمرًا بعيد المنال...أما الأخلاق فلا تؤمن البرجماتية بوجود قوانين أخلاقية مطلقة وما يصدر من أحكام يعتمد على نتيجة تطبيق هذا الشيء من ناحية والنفع أو الفائدة من ناحية أخرى.
والفكر البراجماتي ينطلق من المستقبل متجاهلاً الماضي وجاعلاً الحاضر لحظة إعداد لتحقيق برنامج نصنعه للمستقبل فهو يُحدِث قطيعة مع الماضي ويرفض البحث في المبادئ الأولية وفي كل أشكال المطلق.
المصلحة الشرعية:
تعددت تعريفات العلماء للمصلحة بمعناها الشرعي ولكن أشهر تعريف في القدماء ما قاله الغزالي بأنها: المحافظة على مقصود الشرع وبين مقصود الشرع من الخلق في خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة بينما من أشهر تعريفات المعاصرين ما عرفها البوطي بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها لكن ابن تيمية ينتقد من حصر المصلحة بحفظ الأمور الخمسة فيقول: لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان وليس كذلك بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين لذا يعرف ابن تيمية المصلحة بــأن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه.
وواضح أن هناك خلط وقع فيه الكثيرون بين المصلحة بشكل عام التي جاء الشرع لتحقيقها والمصلحة المرسلة التي وقع الخلاف بين أهل الأصول في حجيتها وبناء الأحكام الشرعية على أساسها.
وعلى العموم فقد قسم العلماء المصالح باعتبارات شتى:
فباعتبار الزمن: هناك مصالح دنيوية وأخروية ومن حيث قوتها في ذاتها فتنقسم إلى: ضرورات وحاجيات وتحسينات ومن حيث ثبوتها فتنقسم إلى: قطعية وظنية ووهمية ومن حيث شمولها: عامة وخاصة وما يخص أغلب الناس وأما الاعتبار الرابع فمن حيث اعتبار الشرع لها: معتبرة شرعا ومصلحة ملغاة ومصلحة مرسلة.
وقد حدد العلماء ضوابط للمصلحة ومنها: ألا تعارض نصا خاصا قطعيا ومنها الملائمة لمقاصد الشرع ومنها أن لا تدخل مجال العبادات وما جرى مجراها من الأمور الشرعية ومنها أيضا أن تكون مصلحة متحققة وأخيرا أن من يقرر المصلحة هم علماء الشرع المتخصصين في ذلك.
ولعل مسائل السياسة والحكم من أكثر المجالات التي يتم فيها تطبيق المصالح المرسلة لعدة أسباب: ندرة النصوص الشرعية الخاصة والصريحة التي تختص في هذا الباب كما أن هذه النصوص كلية عامة على شكل قواعد ومبادئ دون ذكر للجزئيات والتفاصيل. ومنها أيضا كثرة المستجدات في الوقائع والنوازل في هذا المجال.
وينقل ابن القيم كلاما دقيقا في هذا الباب خاصة في مسائل السياسة فينقل عن أبي الوفاء ابن عقيل قوله: (فإن أردت بقولك "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة)
فالمصلحة المعتبرة يمكن أن تأتي بما لم يجيء في الشرع ولكن لا يخالفه.
اذن عند مجيء مصلحة يجب النظر إليها أي ينظر إليها بالترتيب الآتي:
الخطوة الأولى:
أولا إلى اعتبار الشارع لها. وثانيا إلى قوتها في ذاتها. وثالثا إلى عمومها وخصوصها. ثم رابعا إلى مدى تحقق نتائجها في الخارج.
الخطوة الثانية:
إذا كانت مصلحة مرسلة فينظر في أمرين: الأول أن تكون معقولة المعنى في ذاتها إذا عرضت على أهل العقول السليمة تلقتها بالقبول والثاني أن تكون ملائمة لمقصود الشارع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا تعارض دليلا من أدلته القطعية.
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: "فلا يمكن أن تكون هناك مصلحة مؤكدة أو غالبة والنص القاطع يعارضها إنما هي ضلال الفكر أو نزعة الهوى أو غلبة الشهوة أو التأثر بحال عارضة غير دائمة أو منفعة عاجلة سريعة الزوال أو على التحقيق منفعة مشكوك في وجودها وهي لا تقف أمام النص الذي جاء عن الشارع الحكيم وثبت ثبوتا قطعيا لا مجال للنظر فيه ولا في دلالته".
ويبقى الخلاف إذا عارضت المصلحة القطعية وليست الظنية نصا ظنيا من ناحية الدلالة ليشمل عمومات القرآن أو من ناحية الثبوت ليشمل خبر الآحاد فإن هذه المعارضة هي محل اختلاف الأصوليين.
المذهب الأول: منع تخصيص النص بالمصلحة مطلقا: ولو كان النص ظنيا والمصلحة قطعية. وبه قال أكثر الحنابلة وبعض الشافعية وقليل من المعاصرين منهم: الخضري والكوثري والبوطي وحسين حامد حسان ومحمد اديب الصالح.
والمذهب الثاني: جواز تخصيص النـص الظني في دلالته أو ثبوتـه أو فيهما معا بالمصـلحة القطعية. وبهذا قال المالكية وبعض الشافعية والحنفية على التحقيق. ومن المعاصرين: محمد أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف ومصطفى الزرقا والقرضاوي ومصطفى شلبي ومعروف الدواليبي وغيرهم.
بين البرجماتية والمصلحة الشرعية والسياسة
يتفق المصطلحان باعتبار المصلحة هي أصل السياسة ولكن يختلفان في الركائز والمنطلقات فالبرجماتية ترى المصلحة مطلقة من دون قيد دين أو نصوص شرع أو عقيدة وحتى لو كانت مصلحة متوهمة أو جزئية أو خاصة فيجب اعتبارها أما في الشرع فالنص هو الأصل واتباعه هو المصلحة في حد ذاته أما ما لم يرد به نص بمصلحته أو مفسدته فهي المصلحة المرسلة التي يمكن اعتبارها بشروط أهمها أنها لا تخالف أصلا أو نصا قطعيا مع وجود خلاف بين العلماء في جواز الأخذ بها إذا تعارضت المصلحة القطعية مع نص شرعي ظني الدلالة أو الثبوت.