• - الموافق2024/11/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الرياء الالكتروني

الرياء الالكتروني


إياك نعبد وإياك نستعين منهج حياة لا بد من استحضاره في مسيرة حياتنا التعبدية، وهذه المسيرة التعبدية يعتريها عوائق قد تعصف بالإنسان، بل إنها قد تحبط عمله، ومن أخطر تلك العوائق نفسه التي بين جنبيه، تلك النفس التي وصفها المولى بأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، واستعاذ من شرها -صلى الله عليه وسلم -في قوله:" ونعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا"، وأخطر شر في النفس البشرية هو الاستعلاء وحب الظهور، وذلك يتناقض مع الإخلاص ومتطلبات الآخرة، فإن من يرجو الله والدار الآخرة  يضع رضا الله وجهته، ولا يلتفت لحظ نفسه، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، قال تعالى: }فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{[الكهف:110]. قال الماوردي وجماعة من أهل  العلم : معنى قوله - تعالى - : }ولا يشرك بعبادة ربه أحدا إنه لا يرائي بعمله أحدا{.[1] .فالرياء خطره عظيم على الأعمال الصالحة ؛ لأنه يذهب بركتها، ويبطلها ،قال  تعالى:} أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ{ [البقرة:266]. روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أنه قال: هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها.[2].

إننا في العصر الحديث -في ظل الانتشار الالكتروني والثورة المعلوماتية- نعاني من ظاهرة خطيرة ابتلى بها كثير من الناس ألا وهي ظاهرة الرياء الالكتروني، هذا المرض  الذي أصبح  يدب بيننا كدبيب النمل ونحن لا نشعر به في غمرة الهوس  الالكتروني ،فقد  نقلنا حياتنا كلها حتى الأمور الشخصية، والتعبدية  بالصوت والصورة وبالتفاصيل الدقيقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، وأصبحنا لا نحمل هم  قبول العمل كحرصنا على إظهار ه ونشره بين الناس؛ لنيل (الليكات)،والوصول  إلى عدد كبير من المشاركات متناسيين الهدف الرئيس من نشر الخير وهو نفع الناس  ابتغاء مرضات الله غير منتظرين الجزاء والشكر من أحد: }إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا{[الإنسان:9].

بالصوت والصورة ينقل أحدنا قيامه بين ربه، وعمرته وحجه، وإنفاقه وتفاصيل عبادته وكل أعماله...

وهذا قد يخالف الإخلاص أو يقدح فيه؛ لأن المخلص يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، وقد تواترت الأخبار التي تحكي لنا حال سلفنا الصالح وكيف أنهم كانوا حريصين أشد الحرص على إخفاء أعمالهم الصالحة خوفا على أنفسهم من الرياء، يقول الحسن البصري: " إن كان الرجل جمع القرآن وما يشعر به الناس.. وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس.. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به.. ولقد أدركت أقواماً ما كانوا على عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً ".[3]. وكان علي بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام ليلاً على ظهره، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة، ولا يعلمون من وضعها، وكان لا يستعين بخادم ولا عبد أو غيره.. لئلا يطلع عليه أحد.. وبقي كذلك سنوات طويلة، وما كان الفقراء والأرامل يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام.. فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد، فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره، فما انقطعت صدقة السر في المدينة حتى مات زين العابدين.[4]. وصحب رجل محمد بن أسلم فقال: لا زمته أكثر من عشرين سنة لم أره يصلي - حيث أراه - ركعتين من التطوع في مكان يراه الناس إلا يوم الجمعة، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف ويقول: " لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء ".[5]. ويقول أيوب السخيتاني لأبي مسعود الجريري: " إني أخاف ألا تكون الشهرة قد أبقت لي عند الله حسنة.. إني لأمر بالمجلس.. فأسلم عليهم.. وما أرى أن فيهم أحداً يعرفني، فيردون علي السلام بقوة، ويسألونني مسألة كأن كلهم قد عرفني، فأي خيرٍ مع هذا ".[6] ... إلى غير ذلك من الأخبار التي تؤكد على حرص سلفنا الصالح على إخفاء عملهم وخوفهم من الرياء.

قد يقول قائل:" أنا متأكد من نفسي وإخلاصي ولا أخشى على نفسي من الرياء"، فنقول له: إن من شاهد في إخلاصه الإخلاص ، فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص .

إن حياتنا وطاعتنا-إلا ما رحم ربي- بدلا من أن تكون تجارة مع الخالق أصبحت تجارة مع الخلق طلبا للشهرة والظهور ومدح الناس، وهذا الأمر يتطلب منا  تعديل مسار ،تعديل مسار لحياتنا كلها؛ لتكون كما أرد الله منا لا كما نريد نحن، كما يتطلب منا أن نقف على خطر هذا المرض العضال مرض الرياء  الإلكتروني  وغيره من أمراض النفس البشرية، ونسارع في علاجها، وذلك عن طريق الالتجاء إلى الله وجعل حياتنا كلها له - سبحانه-والتحقق ب:إياك نعبد وإياك نستعين  بشروطها وضوابطها ومتطلباتها، يقول ابن القيم: "فلا يكون العبد متحققاً بـ :}إياك نعبد{ إلا بأصلين: أحدهما متابعة الرسول والثاني: الإخلاص للمعبود. ثم يبين  أهل إياك نعبد بقوله: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة ، وهم أهل } إياك نعبد { حقيقة ، فأعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ، ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم ، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور ، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ...وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ، ولما يحبه  ويرضاه ، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه ... [7].

 


 


[1] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 11/70.

[2] المرجع السابق 3/ 318.

[3] الزهد، لابن المبارك: 1 / 45.

[4] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم 3/135-136.

[5] سير أعلام النبلاء، للذهبي 12/200.

[6] التواضع والخمول، لابن أبي الدنيا ص 80.

[7] مدارج السالكين ،لابن قيم الجوزية 1/83.

 

أعلى