• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هل تقضى العولمة على الصوفية؟

هل تقضى العولمة على الصوفية؟

 

قد يكون التعريف الإجرائى الأكثر شيوعًا للعولمة هو أنها: "سرعة تدفق المعلومات والأخبار والسلع ورءوس الأموال والخدمات والبشر من مكان لمكان آخر فى العالم بغير حدود ولا قيود"[1].

ولكن بالرغم من الظاهر الحيادى لهذا التعريف فإنه يعنى أن العولمة تشتمل على عدة مضامين رئيسية بشكل حتمى، فتدفق المعلومات والخدمات والبشر من مكان لآخر يعنى ارتباط العولمة بالليبرالية السياسية التى تتمثل عمليًا فى الواقع السياسى المعاصر بالديمقراطية وإن لم يكن بينهما تطابقًا حقيقيًا على المستوى النظرى وترتبط  الديمقراطية بدورها بالعلمانية حيث لا يكون مسموحًا بوجود أى مرجعية مسبقة "دينية على وجه الخصوص" تقرر أى نوع من القواعد عند الممارسة العملية للديمقراطية التى لا تقوم إلا على إرادة الشعوب المطلقة على المستوى النظرى وعلى إرادة النخبة المسيطرة عمليًا، تلك العلمانية التى تجعل من العقل وخبراته المصدر الوحيد للتصور واستلهام قواعد السلوك، ومن ثم تنحية الدين والمقدس عن كل مناحى الحياة.

من ناحية أخرى فإن الرأسمالية ترتبط بالمادية المطلقة واستهداف الربح كغاية وحيدة للوجود أى أنها ترتبط فلسفيًا بالبراجمانية التى تجعل من المنفعة المقياس الوحيد للحقائق.

وعلى الأسس السابقة فإننا وأغلب الإسلاميين بوجه عام لا نخالف الحقيقة بقول أدق لا نخالف ذلك التعريف الشائع الذى أشرنا إليه إذا عرفنا العولمة بأنها تعميم النمط الحضارى الأمريكى على العالم أى جعله معولمًا.

ونستطيع الآن مما سبق أن نستخلص المقومات الفكرية الأساسية للعولمة: "المادية – العقلانية – النفعية – الديمقراطية – الشفافية" وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى فى أوائل تسعينات القرن الماضى استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية فرض مفهوم العولمة عمليًا على العالم باستثناء حصون قليلة تعمل على إخضاعها إما بالغواية أو القوة الأمر الذى كان له آثاره المدمرة على العالم الإسلامى بوجه عام والتي تمثلت فى فقدان الانتماء والهوية والتفكك الفكرى والاجتماعى والسيطرة على موارده الاقتصادية وثرواته النقدية من خلال الاتفاقيات التعسفية والصفقات المريبة وكوارث البورصات العالمية والمحلية ولكن استقطاب الصراع العالمى بين الولايات المتحدة والإسلام منذ الحادى عشر من سبتمبر وقبله حيث بدا الإسلام كأيديولوجية وحيدة غير قابلة للتفكك والهيمنة من قبل الأمريكية ومن ثم توجهت المخططات الاستراتيجة الأمريكية للعمل على مواجهة الإسلام وليس فقط التيارات الأصولية المنطلقة منه، وهو ما دعى إليه الموجهون الفكريون للسياسات الاستراتيجية الأمريكية من أمثال ليونارد لويس وهنتجتون وفوكوياما.

وقد كانت الصوفية بجانب ما يسمى بالإسلام المعتدل "الإسلام الليبرالى" من أهم ركائز هذه الحرب الموجهة ضد الإسلام ومن شواهد ذلك تقرير "عقول وقلوب ودولارات" الذى نشرته مجلة "يواس نيوز آند وورلذ ريبورت" الأمريكية عام "2005" والذى ذكرت فيه " أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها لديها مصلحة أمنية قومية لا فيما يحدث فى العالم الإسلامى فقط وإنما فيما يحدث داخل الإسلام نفسه" ومن ثم فإن التقرير يقول فى إحدى فقراته:"يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحد من أفضل الأسلحة، فالصوفية بطرقها الباطنية تمثل برأيهم توجهًا مناقضًا للطوائف الأصولية كالوهابية".

ولأننا كتبنا دراسة كاملة عن هذا الموضوع "التوظيف السياسى للصوفية" بالتقرير السنوى للبيان عدد "2010 – 2011" نكتفى هنا بهذا الاستدلال لنطرح الآن هذا التساؤل الهام:

هل من الممكن أن تتفق هذه الصوفية مع المنظومة العولمية التى تمثل المقومات الأساسية للهيمنة الأمريكية على العالم؟

لكن نجيب على هذا السؤال لابد أن نشرح فى إيجاز أهم المقومات الأساسية للمنظومة الصوفية.. أول ما نراه فى هذه المقومات هو الغيبية المتطرفة القائمة على الخرافة والإدعاء.

فسواء فى الإسلام أو الأديان السماوية الأخرى فإن مسألة الغيب تقف عند حدود ما يتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من وحى أما فى الصوفية فإن مسألة الغيب مفتوحة على مصراعيها لكل أقطابها فهم يعلمون بدء الكون ونهاية الكون وكل أحداثه وكما يقول ابن عربى فى رسالته الشهيرة لفخر الدين الرازى:"والفارق كبير بين من يقول حدثنى فلان عن فلان ومن يقول حدثنى قلبى عن ربى". بل ويطلع على الغيب أيضًا الكثير من مريديهم بحسب قدرة كل منهم على الزعم والتخيل، بل إن أقطاب الأقطاب منهم لا يقفون عند حدود العلم بالغيب فقط ولكنهم يدعون تصرفهم فيه أيضًا وكما يقول ابن عربى: "إعلم أن بالقطب تحفظ دائرة الوجود كله من عالم السكون والفساد"[2].

أما المقوم الثانى فهو نظرية وحدة الوجود والتي تعنى أن الله "تنزه عما يقولون" يتمثل فى كل الموجودات الكائنة فى الوجود. فكائنات الوجود ما هي إلا مرآة الوجود الإلهى بحسب تعبير ابن العربى فى "فصوص الحكم" أو ظلال الوجود الإلهى بحسب تعبير فريد الدين العطار فى "منطق الطير".

ولابد من التأكيد هنا على أن حكاية وحدة الوجود هذه ليست مجرد اتهام من الإسلاميين للصوفية المتطرفة ولكنه من المسلمات التى يذهب إليها الباحثون العلمانيون والغريبون منهم على وجه الخصوص فى تعاملهم مع الصوفية.

والمقوم الثالث هو التآله والاستبعاد فشيخ الطريقة الذى عادة ما يصف نفسه بالقطب والقطب الأعظم هو بمثابة إله يعلم الغيب وتسخر له جميع الكائنات فيمشى على الماء ويطير فى الهواء ويفتح له الطريق إلى مكة فى سياحة فضائية لم يصل ولن يصل لها رجال العلم فى كل العصور فهو فى لمح البصر يذهب إلى هناك ويأتى أيضًا والأدهى من ذلك أنه من الممكن أن يذهب إلى هناك بل وأى مكان آخر وهو يترك هنا بين الناس صورته البشرية يستضاؤون بها وهى فكرة كانت موجودة لدى الحكيم الترمذى نفسه فى القرن الثالث الهجرى وما زالت تتردد كثيرًا من بعده إلى الآن.

ومن الطبيعى من تكون هذه منزلته أن تنعكس هذه المنزلة على علاقته بمريديه ومن ثم فإن علاقة المريدين بالقطب شيخ الطريقة هي علاقة عبودية كاملة ويصور ذلك تصويرًا دقيقًا أخذ تلاميذ قطب من أقطاب الصوفية أنفسهم يقول على حرازم بن العربى فى كتابه "جواهر المعانى من فيض ابى العباسى التجانى": "ومتى عثر المريد على من هذه صفته فاللازم فى حقه أن يلقى نفسه بين يديه كالميت بين يدى غاسله لا اختيار له ولا إرادة، ولا عطاء له ولا إفادة وليجعل همته تخليصه من البلية التى أُغرق فيها إلى كمال الصفاء بمطالعة الحضرة الإلهية بالإعراض عن كل ما سواها، ولينزه  نفسه عن جميع الاختيارات والمرادات مما سوى هذا ومتى أشار عليه بفعل أو بأمر فليحذر من جميع الاختيارات والمرادات مما سوى هذا ومتى أشار عليه بفعل أو بأمر فليحذر من سؤاله بلمَ؟ وكيف؟ وعلامَ؟ ولأى شىء؟ فإنه باب المقت والطرد وليعتقد أن الشيخ أعرف بمصالحه منه وأى مدرجة يدرجة فيها فإنه يجرى به فى ذلك كله على ما هو لله بالله بإخراجه من ظلمة نفسه وهواها"[3].

والمقوم الرابع هو وحدة الأديان جميعًا السماوية منها والوثنية أيضًا وهذا الأمر يلخصه بيت واحد ذكره ابن عربى فى فتوحاته المكية حيث يقول:

عقد البرية فى الإله عقائدًا
 

 

وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

 

والمقوم الخامس هو الزيف والاستغلال والضحك على الذقون ومثال ذلك ما يذكره الشعرانى فى طبقاته عن إبراهيم الدسوقى "أنه لم يكن يتكلم بالعجمى والسريانى والعبرانى والزنجى فحسب بل زاد من علمه التكلم بسائر لغات الطيور والوحوش"[4].

وبذكر الشعرانى عن علم الصوفية بالكيمياء وأفعالهم فيها فيقول:

"وممن ذكر تعامله مع الكيمياء:

- أحمد بن سليمان وقد صنع مرة بالكيمياء نحو خمسة قناطير ذهبًا ثم نظر إليها وقال: أفٍ للدنيا، ثم أمر بطرحها فى سرداب جامعه فاشتهر بالزاهد.

- ومنهم حسين أبو على كان يقبض من الأرض ويناول الناس الذهب والفضة وكان من لا يعرف أحوال الفقراء يقول: هذا كيماوى سيماوى، وعرف بالكيمياء.

- ومنهم على الشربينى يقول للعصا التى معه كونى إنسانًا فتكون.

- ومنهم على المحلى يحول الرصاص ذهبًا ويغرف من البحر الجواهر[5]

والآن علينا أن نتسائل ما الذى يمكن أن يتفق فى هذه المقومات الصوفية مع العولمة الأمريكية. ونستطيع أن نقول أن هناك ركيزة اتفاق مبدئية لا يخطأها أى باحث جاد مبتدئ فى شئون المذاهب والعقائد وهى أن مذهب وحدة الوجود يكاد يتطابق مع المفهوم المادى للعولمة القائمة وذلك لأن مذهب وحدة الوجود ما هو إلا مقلوب شكلى لمادية الكون أما ركيزة الاتفاق الأخرى فهى ما يتعلق بمفهوم التسامح بين الأديان الذى تدعيه أمريكا (التى لا تتسامح أدنى تسامح مع الإسلام) فهذا المفهوم يتوافق معه إلى حد كبير مبدأ وحده الأديان جميعًا السماوية والوثنية لدى الصوفية فها هو برنارد لويس نفسه يؤكد ما ذهبنا إليه حيث يقول:"إذا رجعنا إلى الصوفية فنجد أن الصوفية تقدم شيئًا أفضل من السماحة فالمنهج الصوفى يقدم للناس الذين لهم ديانات أخرى غربية ما ليس له نظير فى التوافق والانسجام فمثلاً: نجد قصائد رومية عن ابن عربى باللغة التركية تشير إلى أن كل الأديان متشابهة ولها نفس الغرض ونفس الرسالة ونفس الاتصال وكلهم يعبدون الله ولكن هناك اختلاف بسيط، فالله فى الكنيسة هو الله فى المسجد"[6]

لكن هذين الاتفاقين لا يكادان يعنيان شيئًا بالنسبة لأوجه الخلاف والتناقض بين الصوفية والعولمة فالمسألة الصوفية برمتها تبدو من منظور الثقافة العولمية مجرد نسج خيال من مخلفات العصور القديمة فالمختبر العولمى العقلانى الذى يكاد يضع العلم فى المكانة البديلة للمقدس الدينى لا يكاد يطيق التعامل مع أى عنصر ولو ضئيل للغاية من عناصر الصوفية إلا من باب استقصاء الانتاج البشرى للخرافات أو للإشارة إلى ما أسداه التقدم العلمى من الانعتاق من أسر الأوهام فبالمنظور النفعى للعولمة يتم الترحيب فقط بالمفاهيم الصوفية على أنها مادة هزلية لإثارة الضحك بل ومن نفس المنظور النفعى أيضًا تعد المزاعم الصوفية على قدرتها على تسخير الطبيعة كمهدد للتقدم العلمى ذاته وفى ظل واقع الشفافية الذى يعد أحد مظاهر العولمة والمتمثل فى التقدم المطرد لوسائل الاتصال والفضائيات والانترنت فلن تستطيع الصوفية التستر وراء الكتب المحجوبة عن الجماهير "وهو تقليد ثابت لدى أئمة الصوفية أو التخفى وراء الأحجبة والمبالغة فى الرموز المصطنعة والمبالغة فى التأويلات اللاعقلانية.

كما أن التناقض واضح أشد الوضوح بين الديمقراطية العولمية والسلطة المتألهة الاستبدادية لشيوخ الطرق الصوفية على مريديهم، وبين قواعد المجتمع المدنى العولمية القائمة على الحرية والمساواة وبين طقوس وتقاليد العلاقات الصوفية المجتمعية المستمدة  من قواعد العلاقات القبلية فى المجتمعات البدائية. هذا فضلاً عن أن الكثير من التيارت المادية داخل المنظومة العولمية ترفض اسباغ أى نوع من القداسة على الطبيعة من أى نوع وتعد ذلك تهديدًا لماديتها كما أن الواقع العملى للممارسات الصوفية أبعد ما تكون عما تدعيه من تسامح فشيوخ كل طريقة يبالغون فى وضع المحاذير على مريديهم من الاقتراب من الطرق الأخرى وكما علمنا المثل المصرى العامى القديم "كل شيخ وليه طريقة".

كل ما سبق يظهر لنا أن التأكيد الأمريكى على اللعب بورقة الصوفية فى مواجهة الإسلام بتسليط الضوء عليها وانفتاحها المتواصل عبر المنظومة العولمية سيسقطها من تلقاء نفسها لأن جرثومة المنظومة العولمية المتمثلة فى البراجماتية ستقضى على هذه الصوفية بسهولة بالغة مثلما قضت على مذاهب وفلسفات أصعب منها كثيرًا مثل الماركسية والاشتراكية والنازية والوجودية والكونفشيوسية.

وما قلته سابقًا لا يعنى على الإطلاق التعامل مع تلك الورقة الأمريكية بأى قدر من الاستهتار فالتوعية الدائمة من الصوفية المتطرفة الداعية إلى مذهب وحدة الوجود أو الاستعانة بغير الله هو أمر واجب لا هوادة فيه ولكن غاية ما أبغيه هنا أن أوضح لجماهير المسلمين عامة وللقائمين على الدعوة الإسلامية بوجه خاص أنه إذا كان جناحى الهجوم الأمريكى فى الحرب الفكرية على الإسلام يتمثلان كما تذكر التقارير الأمريكية نفسها فى الصوفية والإسلام الليبرالى، فإن الخطر الأكبر الذى يجب أن تشحذ الجهود فى مواجهته هو الإسلام الليبرالى ففيه يختلط الحق بالباطل والتأويل بالتعطيل والاجتهاد بالإبطال!! أما التطرف الصوفى فتسهل مواجهته.

 

 


 

 

(1) السيد ياسين –  تحولات الأمم المستقبل العالمى: ص 215.
(2) اليواقيث والجواهر: ج 2: ص 83.
(3) نقلاً عن الإمام محمد بن تقى الدين المغربى – الهدية الهادية إلى الطريقة اتيجانية: ص 152 طبعة دار الهدى المحمدى.
(4) ص 286.
(5) طبقات الصوفية: ص"496 –  503 – 539 – 583" على الترتيب المذكور.
(6) مؤتمر فهم الصوفية نقلاً عن التصوف بين التمكين والمواجهة: ص 18.
 

أعلى