• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من الحلول المهمّشة: العمل التطوعي

من الحلول المهمّشة: العمل التطوعي

لم يزل العمل التطوعي سمة هذه الأمة، منذ انطلاقة نورها يشق ظلام الأرض، إلى يوم ألقت بظلال حضارتها سباقة بين الأمم.

ويرجع هذا الاهتمام بالعمل التطوعي ابتداء لتلك المفاهيم المستقاة من معين الكتاب والسنة، والتي تدعو المسلمين بآيات الذكر، " وتعاونوا على البر والتقوى "[1]  "ومن تطوع خيراً فهو خير له"[2] "وأوحينا إليهم فعل الخيرات"[3] "وافعلوا الخير لعلكم تفلحون"[4]، تحثهم على المسابقة للخير "فاستبقوا الخيرات". كل هذا في سبيل الله وابتغاء مرضاته،  لسان حالهم يردد "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً "[5] .

وعلى ذات الهدي حثت السنة النبوية المسلمين على العمل الخيري وتواترت الأحاديث المحرضة على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة "[6] وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"على كل مسلم صدقة"، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال:" يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق" قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف "،  قيل : أرأيت إن لم يستطع ؟  قال:" يأمر بالمعروف أو الخير . قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال:" يمسك عن الشر فإنها صدقة ".[7] 

وانعكست أنوار هذا الهدي في سير الصالحين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من بعد ذلك في العصور المتوالية، فكان التطوع لبنة أساسية في تماسك المجتمع الإسلامي وحفظه بنيانه ورقيه. ويطول ذكر الأمثلة من سير الخلفاء الراشدين والصحابة والمسابقين في تاريخ الأمة المسلمة – رجالا ونساء- من الذين خطوا صفحات مجد يتشرف كل مسلم بقراءتها والانتماء لأمة يجمعها القرآن والهدف والهمة.

ولم يحدد الإسلام نوع العمل الخيري وأجره، لأنه مقرون بنية العبد وإخلاصه، بل قرن العطاء فيه – ولو قلّ- بالإيمان لأهميته، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان "[8] وقال صلى الله عليه وسلم : "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار".[9]

ومن ينظر اليوم كيف يسوّق الغرب لمفهوم العمل التطوعي عليه ألا ينبهر بهم، ذلك أن المسلمين كانوا الأسبق في حضارتهم لهذا التميز والخير. يستمدونه من شريعة ربانية لا تعرف النقص، ولكنهم قوم أدركوا أسرار قوتنا، فأخذوا منها ما ينفعهم ليبنوا عليه بنيان مجد أمتهم.

وفي وقت استُضعفت فيه الأمة المسلمة، تصبح الحاجة للعمل التطوعي ملحة والسعي له ضرورة وواجب. فالعمل الخيري يوظف طاقات المسلمين فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم وينمي الشعور بالمسئولية والتكافل الاجتماعي، ويربي الإرادة على عقلية العطاء والبذل،  ويكسب صاحبه مهارات كثيرة وعلم، فيقوى نسيج المجتمع وتصمد وحدته أمام كل خطر.

قال صلى الله عليه وسلم: " مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ".[10]

وانتشار بركات التعاون بين الناس يولد المحبة والمودة، ويغرس الفضيلة والقيم النبيلة، ويسد الثغرات التي قد يتطفل من خلالها المتربصون، كما يقصر من المسافات بين أفراد المجتمع الواحد، ويقوي شعور الإحساس بالغير، وهو ما يمثل مبدأ الأمة الواحدة.

لا يسعى صاحبه للمال، ولا للشهرة والجاه، يقدمه من طيب نفس وسعة صدر في سبيل أن يعم الخير بلاد المسلمين تحدوه الرغبة في الأجر والقرب من الله .

 ومن أراد أن يطرق أبواب هذا الخير، فعليه أن يختار لنفسه المجال الذي يوائم عطاءاته ولا يستصغر العطاء مهما قلّ، فقد ذكر الحديث إماطة الأذى وعليها نقس كم من عمل صغير إن استمر، قد يحقق التغيير في سير مجتمعاتنا المكلومة.

قد تتفجر طاقات المرء في تقديم المساعدة في مجال التعليم أو تحسس حاجات الفقراء والمعوزين أو نشر العلم والدعوة بين العامة أو الإصلاح بين الناس وكل ما يدخل في فلك تفريج الكربات.

وقد يأخذ العمل التطوعي شكلا أكثر تنظيما وإدارة، كإقامة مؤسسات وجمعيات تحتضن طاقات المسلمين وتوظفها فيما يكون أثره أكبر، بحجم العطاء الجماعي وبركاته.

وفي وقت تمر به الكثير من بلاد المسلمين بنكبات حروب وفقر وحاجة وقحط، فعلى المسلمين أن يؤسسوا مؤسسات إغاثية كأولوية قصوى، تتولى نجدة المستضعفين والمهجرين وتغنيهم عن استجداء رحمة الغرب.

وللأسف رغم سخاء المسلمين لم تصل بعد منظومة الإغاثة لدينا لمستوى الغرب بماديته. مع أن النظر في مؤسسات الغرب الخيرية يحتاج لوقفة ونظر، إذ أنها مؤسسات كان لها أدوارا خفية لم تنبر لتقديم المعونة بدون أهداف سياسية ترجو من خلالها توسيع نفوذ حكوماتها وفرض هيمنتها وتصوراتها في مجتمعات مستضعفة. ويكفي أن نشاهد حجم الفضائح التي اقترنت بأسماء كبيرة ولامعة لمؤسسات حملت لافتة حقوق الإنسان والإغاثة بينما كانت الأولى في الاتجار بالبشر والتعدي على حقوقهم.

نعم يمكننا نصرة الشعوب المسلمة اليوم وتقديم المعونة والإغاثة لهم من خلال أبواب التطوع، من خلال التقرب لله بالعبادة والدعاء، والذي هو أضعف الإيمان أن يرفع الله الظلم عن كاهل المسلمين ولكن أيضا بالمسارعة لسد الثغور وتغطية المساحات الفارغة في الخطوط الأمامية ، كخط الدعوة والإعلام وخط الطب والإغاثة وخط الصدقات والكفالات. وغيرها.

ويدخل في هذا، العمل على نشر العلم وتحفيظ القرآن ودعم المؤسسات الراعية لكل ما يُبقي مصادر التلقي محفوظة من البدع والانحرافات .

وما يعكس روعة العمل التطوعي ذلك التنوع والبساطة في الطرح الذي يمكن أن يتحقق بأفكار عملية وفعالة، وقد يبدأ من مجرد إعارة كتاب إلى إنشاء مكتبات ومراكز بحث ودراسات.

ومن بين المجالات التي قد يبرع فيها المسلم، مجال الإعلام الذي أصبح بحد ذاته ساحة معركة تدور رحاها في كل لحظة وحين، ولا يخفى تأثيرها على كل لبيب، فليتخذ له ثغرا يدافع فيه عن الإسلام ويدعو فيه لوحدة الأمة والعودة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يهدي الله به عبدا فهو خير له من حمر النعم.

فضلا عن رد الأباطيل وتفنيد الشبهات والتصدي للمتسلقين والمتربصين كي يعلم المتجرأ أن للدين أولياء ولكي ننتشل المغفلين من الانزلاق.

ومن الصعب تلخيص جميع أهداف العمل التطوعي في حياة المسلم ولكن يمكن للمقبل عليه حصر خطط العطاء لديه بحسب حاجة المجتمع الذي يعيش فيه، فكثرة الفقراء، تعني توسيع سبل جمع المال والصدقات لسد حاجاتهم. والتحريض على أداء فريضة الزكاة والتنبيه على أهميتها كفرض من فروض الإسلام وحق لمستحقيها.

وكثرة الجهل تعني الاعتناء أكثر بنشر العلم والمعرفة والدعوة بينهم.

وكثرة التهجير والقتل، يعني مساعدة المسلمين في الاستقرار وتلبية نقائصهم وسد حاجاتهم.

وكثرة المرض والموت، يعني أن نبحث أسباب تحسين الظروف الصحية لإخواننا وتوفير الأدوية والمعونة الطبية لهم.

وكثرة العقوق والهموم والغم والكرب، يعني إحياء القرآن في النفوس والسعي ببين الناس بالذكر.

وكثرة البدع والانحرافات والتشويه لهذا الدين والحق، تحتاج لمن ينبري في عالم الشبكات وميادين المواجهة ويبلي بلاء الفارس الحسن.

وعلى هذه يمضي يوم المسلم كالمرابط يتحسس الثغرات في مجتمعه فيسدها غير مبال بإحسان الناس الظن فيه ولا بمردود شهرة أو مال يأتيه، بل كل همه أن يتقبل الله سعيه ويعلي ذكره ويبارك في زرعه وجهده.

بمثل هذه المفاهيم السامقة لن يبقى في المجتمع الإسلامي إلا التعاضد والتآلف غالبا ونحقق ولو جزئا يسيرا مما يضمنه الاقتداء بنهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عند المسابقة بالخيرات.

فإلى أن نشاهد ثمار هذا الحل المهمّش في واقع حياتنا، نرجو أن يكون لكل فرد منا عملا تطوعيا في حياته، وكلما تم التنسيق وإدارة الجهود بشكل جماعي هادف. كلما كانت النتائج أكثر تأثيرا وفعالية، ولن تلبث أن تظهر بركاتها على ملامح أمة أثقل كاهلها طول الانتظار والغفلة.

 

 


[1] المائدة : 2

[2] البقرة : 158

[3]  الأنبياء: 73

[4]  الحج 77.

[5] الإنسان:9

[6] رواه أحمد عن ابن عمر ( صححه الألباني) في صحيح الجامع /6707

[7] رواه البخاري ومسلم

[8] متفق عليه

[9]  نتفق عليه

[10] رواه أحمد ومسلم

أعلى