• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
منطلق الأصالة الـمُعاصِرة وتجلياته القيمية والمعمارية والحضارية

منطلق الأصالة الـمُعاصِرة وتجلياته القيمية والمعمارية والحضارية


منطلق الأصالة الـمُعاصِرة وتجلياته القيمية والمعمارية والحضارية

بين النموذجين الإسلامي والغربي المادي

يعدّ مسلك الأصالة المـُعاصِرة أحد الجبهات الكبرى المميَّزة داخل النسق المعرفي التجديدي الإسلامي، وهي واجهة ترتكز على هوية أصيلة وتمدُّ جسور التواصل أخذا وعطاء من خلال انفتاحها على مختلف الأنساق الحضارية والثقافية، بموازين ومنهجيات مرنة تستند إلى أصول ومرجعيات ثابتة، ومن ثم تظهر مستويات تفاعل العقل والنص والواقع. فإذا كان النص (الوحي قرآنا وسنة) يشكل منبع الاستمداد، والواقع فضاء العمل والعطاء، فإن التركيبة الخلّاقة تكمن في تفاعل العقل والخبرة البشرية مع الواقع المتغير والمتجدد عبر تراكم التجارب التاريخية، واستنادا إلى القواعد القرآنية المؤطرة لحركة الاستخلاف. ذلك أن الانطلاق من مرجعية محدّدة وفق أهداف واضحة، في الفضاء الاستخلافي الموهوب، يعبّد طريق الاشتغال ويسهل عمليات التفكيك والتحليل والتركيب واقتراح سبل التنفيذ والتنزيل أثناء مواجهة إشكالية معينة، بعد رسم الأولويات والمنطلقات، في ضوء تحديات وإكراهات هذا الواقع، وما يوفّره من فرص متاحة وممكنة مرحليا، عاجلة كانت أم آجلة.

إن البحث في الإشكاليات التي يعاني منها الفكر الإسلامي أمر يكتسي نوعا من المخاطرة تتجلى في جانبين؛ الأول: أن تكون هذه الإشكالية إشكالية حقيقية كلية بارزة تشكل تحديا ينبغي مواجهته لإزالة كل الشوائب التي تحوم حوله أو بعضها، وليست إشكالية وهمية مرتبطة بجزئيات جانبية وفروع لا تمثل عبئا على منظومة الفكر الإسلامي، ولا تشكل قضية ذات بال. والثاني: أن تكون المقاربة المعتمدة في معالجة هذه الإشكالية مقاربة علمية واضحة، تبحث في الجذور والأسباب وترصد التجليات والإفرازات، وتقترح الحلول والبدائل، بمنهجية متجردة ومتعالية عن أنماط التفكير الضيّقة، ومقتربة ما أمكن من المرجعية المتعالية (الوحي) لتأسيس نتائج بنائية مستوعبة وليست نتائج مدرسية مذهبية لصيقة بتيار معين.

ومن ثم فإن تتبع إشكاليات الأصالة المـُعاصِرة بمختلف روافدها ومظاهرها وتجلياتها وتحدياتها، والعمل على إعادة صياغتها بمفاهيم ورؤى تسلط الضوء على زوايا نظر جديدة، يعد أمرا ضروريا وحيويا، مما يجعل تلك القضايا حية ومحيّنة وواعية بالتطورات والتشكلات الجديدة الخاضعة بالضرورة إلى عدد من المتغيرات والتي من أهمها: مراعاة السقف المعرفي الإقليمي والعالمي، ومدى الوعي بالتحديات المحيطة، والإمكانات المتاحة الروحية والمادية، وكيفية الرقي بتلك الإمكانات إلى مستوى التطلعات المنشودة، والبحث عن المداخل والمنهجيات السديدة والقمينة بنهوض حضاري حقيقي لا يوازي في قوته قوة النموذج الحضاري الغربي فحسب وإنما يتجاوزه بتجاوز الكثير من سلبياته التي أثرت على الإنسان والكون.

وفي هذا الإطار، يعدّ مسلك الأصالة المعاصِرة أفضل المسالك الثقافية والحضارية للتخلص من الإشكاليات التي تطرحها ثنائية التراث والحداثة، خاصة فيما يرتبط بالمرجعية والهوية والقيم والصراع بين القديم والجديد. فهو مسلك يعبّر عن الانخراط في الواقع المعاصر مع التمسك بالأصول والاعتزاز بالهوية والحفاظ على الخصوصية. والتمسّك بالأصول هنا لا يعني الجمود على أوضاع السابقين وتجاربهم أو تقليدهم شبرا بشر وتفصيلة بتفصيلة، أو التنزيل الحرفي للنصوص الشرعية والتطبيق الحدّي للأحكام، ولكن لا بد من مراعاة شروط الواقع المتجدد، واعتبار المتغيّرات الحضارية، ولا بد من دراسات وصفية وتاريخية وتحليلية لاستخلاص الدواعي والأسباب التي وجّهت مساراتنا الحضارية خاصة خلال القرون الأخيرة، ومن ثم البحث عن السبل الكفيلة بعودة صحيحة لرسالة العالمية والشهود الحضاري. ولعل الواقع الحضاري اليوم يؤكد حاجة الإنسانية إلى حداثة بديلة تخفف من الأزمات والتأثيرات السلبية للحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة، فالحاجة ماسة إلى حداثة متصلة بالقيم والمرجعية يتخذ تحقيقها منهج التدافع الاستيعابي ليُسهِم بفعالية وينخرط بإيجابية في خضم الواقع المعاصر المتسم بالتعقيد والتركيب. ومن ثم فإن مسلك الأصالة المعاصِرة هو مسلك يبرز فيه التحدي الإنساني والنضال التراحمي والمساهمة الإيجابية، التي لا تقتصر على الوصف والتحليل النظري، وإنما الانخراط الفعلي لإبراز إمكانات النموذج على مستوى الفعل والوقع.

كما أن الأصالة المعاصِرة بالمفهوم الاستيعابي الإسلامي لا تعني تقابل الهويات وتصارعها، وإنما تحيل إلى تعايشها وتساكنها وتفاعلها ضمن شروط عصرها، ومراعية اختلافات جذورها ومساراتها التاريخية وتجلياتها الواقعية. فالحفاظ على التنوع والتعددية ضرورة نفسية واجتماعية وحضارية وكونية، ومن ثم فالأصالة هي حاضنة للهويات والمعاصرة هي تعايشها وتعاونها وتفاعلها على جميع المستويات الروحية والمادية. وبالتالي يستطيع مسلك الأصالة المعاصِرة أن يفنّد التوقّع الغربي من أنه يمكن للعالم أجمع أن يكون نسخة طبق الأصل لنموذجه المعرفي والحضاري، خاصة الرؤية الحداثية الامبريالية الداروينية "التي لا تنظر لنا باعتبارنا كيانا مستقلا لنا طموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، وإنما على أننا مادة استعمالية لا بد من تنميطها حتى ندخل في القفص الحديدي، قفص الإنتاج والاستهلاك، دون هدف أو غاية سوى المنفعة واللذة"[1]. فقبضة الغزو الثقافي وإغراءات النموذج الحضاري الغربي المادي، الذي أثبت فعاليته الاقتصادية والسياسية، وسعيه لفرض نماذجه ومضامينه، تمثل تحديات حقيقية أمام منظومتنا التحديثية التي ترفض التقليد المرجعي والهوياتي وترحب بما ينفع من مظاهر التقنية، ولكن اختلاط الأمرين يفرض خلق خطوط دفاع قوية تستند إلى جذور راسخة لغربلة الإحالات الوضعية والتضمينات الفلسفية الثاوية خلف المخرجات التحديثية والتقنية. ولا شك أن سلاح الأصالة الُمعاصِرة يعتبر أحد المناهج القادرة على مواجهة الحداثة «الجارفة». 

من جانب آخر يتيح مسلك الأصالة المعاصِرة إمكانيات إدماج الجوانب الإنسانية والأخلاقية والقيمية في مفهوم الحداثة، أي ضرورة تأسيس قنوات اتصال دائمة بين "استخدام العقل والعلم والتقنية في التعامل مع الواقع" والأبعاد القيمية والأخلاقية المؤطرة لكينونة الإنسان والموجّهة للاستخلاف والعمران. ومن شأن هذا المنهج أن يشكّل "خط الدفاع الأول ضد عمليات التشيؤ وإعادة تشكيل الإنسان والثقافات والحضارات"[2] أي أنه مسلك يمكّننا من التخلص من أن نصبح مادة استعمالية إنتاجية ضمن النظام الاستهلاكي العالمي الذي يستوعب كل أحلامنا وغاياتنا وسلوكياتنا حتى وإن أدّينا شعائرنا الدينية وحافظنا عليها بالمعنى الأداتي الوظيفي. فالأصالة المعاصِرة نابعة من رؤية توحيدية تعبّدية، ومرتكزة على أسس قرآنية حضارية، ومن ثم فهي تجعل الشعائر التعبدية أحد أركان الرؤية الحضارية التي تعتبر التوحيد ناظم كوني للوجود تجسّده سمفونية ومهرجان التسبيح الكبير الذي انخرط فيه الوجود قهرا، وهو الآلية التي تمكّن الإنسان من الانخراط في هذا المهرجان اختيارا، ومن أبى فكأنما يشكل صوتا نشازا وأحيانا صوتا مزعجا لمهرجان التسبيح الكبير. وقد ظل الكون منذ لحظة خلقه مستمرا في سمفونية التسبيح بينما تباينت مساحات انخراط الإنسان فيه من فترة لأخرى، وغدت في مراحله الأخيرة مرجوحة لصالح قبضة التشييء والمادية، حين ازداد التعلق بالدنيا والمادة والأشياء، فتشكّلت بذلك رؤى مادية موجّهة للفعل والحركة ومغرية للوجدان والأشواق. وفي ذلك أشار عبد الوهاب المسيري بقوله: "فالدين ليس مجرد شعائر وعقائد وإنما هو مكون أساسي للرؤية الكونية والسياسية"[3]. ومن مظاهر ذلك الإزعاج كذلك سعي الحداثة الداروينية إلى اختزال الإنسان ومحاصرته في قفص حديدي مادي استهلاكي، وتحكّمها بصيغ مباشرة وغير مباشرة في صياغة الأحلام والأشواق والمتمنيات والرغبات والإرادات، وقد تحققت تجليات ذلك على مستوى الفعل والواقع، ومن مظاهرها أن أصبح أداء الشعائر التعبّدية مفرغا من محتواه، وتعبيرا عن أداء واجب اجتماعي أو فعل تقليداني أو مألوف عادي، فانقطع بذلك حبل الودّ بينها وبين تأثيرها ومقصدها على واقع الحياة الفكرية والعملية.

إن مسلك الأصالة المعاصِرة المرتكز على العبودية لله هو المدخل الحقيقي لصناعة الإرادات وتقوية الهمم والحس النقدي، وهو صمام أمان يضمن الحرية والمقدرة على الاختيار والتجاوز في إطار منظومات قيمية ومعرفية إنسانية مستقلة تضمن للإنسان خصائصه الإنسانية وتحفظ له كرامته الآدمية، كما أنه مسلك يخلّص من قبضة التشيؤ والتسلّع ونزع القداسة عن العالم. فرؤية الإنسان للكون ولذاته ولعلاقاته مع الآخر والمجتمع لا ترتكز على تبادل السلع في مسرح سوق كبير، كما أن العلاقات بين البشر لا تشبه بحال من الأحوال العلاقات بين الأشياء، ومن ثم يصبح للثنائيات الوجودية الكبرى (الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة) لها مراتبها وحرماتها وقداستها التي لا يحق نزعها أو تسويتها أو حوسلتها (تحويل الشيء إلى وسيلة).

كما أنه مسلك يحفظ قيم التراحم والتعاون ويقوّي العلاقات الاجتماعية ويجعل الترابطات العائلية أكثر قوة وتماسكا. وقد كانت هذه القيم سائدة عبر التاريخ الإسلامي، وكانت هي النّفَس العام المهيمن في المجتمع، ولكنها تأثرت بنسب معيّنة مع زحف النموذج الغربي واستيلائه على عقول فئات عريضة من أبناء المجتمع المسلم ومنهم شرائح من النخب الفكرية منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا. فالمعاصرة في النموذج الغربي انبتّت جذورها عن أصالته، يؤكد ذلك الظواهر الاجتماعية السلبية التي برزت بوضوح واتّضحت بجلاء بموازاة مع تقدمه المادي الاستهلاكي، مثل: تآكل الأسرة، وإهمال المسنين، وقلة الوقت الذي يقضيه الإنسان مع أطفاله وزوجته، وتراجع التواصل بين الناس بسبب الإفراط في استخدام التقنية، والأمراض النفسية (الاكتئاب وعدم الاتزان)، وانتشار الفلسفات العدمية وفلسفات العنف والقوة والصراع (الداروينية الاجتماعية والنيتشوية) وتزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة، والإباحية، والمخدرات، والتسليح وأدوات الفتك... وغيرها[4]. وكلها أمثلة تبرز بجلاء أن ما كان أصيلا لآلاف السنين، قد انجرف مع مظاهر المعاصرة الغربية المنفصلة عن القيم التراحمية الإنسانية، وبالتالي أصبحنا نشكّل لحظة تاريخية فارقة ضمن الزمن الإنساني، وقدَرُنا أن نكون أول الشهود على اندثار (أو ركود) تلك القيم الإنسانية الأصيلة واستبدالها بقيم تعاقدية مادية جافة. فالأصالة المعاصِرة تجد دفئها ونشاطها وحيويتها في أحضان العلاقات الإنسانية والاجتماعية المبنية على التراحم والتعاون والقيم النبيلة، ولا تقبل بحال من الأحوال أن يُضحى بتلك العلاقات ليستوعبها نموذج مادي أفرزه تقدم علمي صناعي دلت كل المؤشرات أنه نموذج النهم والشره الاستهلاكي الذي سيأتي على الأخضر واليابس مما تبقى من مكونات الطبيعة ومدّخراتها ومن إنسانية الإنسان إن استمر بنفس مؤشراته ومعدلاته.

ومن الجوانب الأخرى التي يبرز فيها مسلك الأصالة المعاصِرة مجال الفن والمعمار الذي يُشبع النزعة الجمالية والحضارية في الإنسان، وهو مجال يرتبط بشكل كبير بالهوية والخصوصية الثقافية والشخصية المكانية، ويعكس الرؤى المعرفية والقيم الحاكمة للنظام المعرفي السائد، كما أنه معبّر عن الذوق والأدب والعادات. ولكن العمارة العربية الإسلامية لم تسلم بدورها من تحيّزها للخصائص الغربية التي أفرتها عمارة الحداثة الغربية، بل و"تدريس مناهجها ونظرياتها في الفن المعماري في المدارس والمعاهد العربية"[5]، ومن ثم استيراد ما يناسب ذلك من قوانين منظمة وبرامج هندسية معمارية والتي ستقود إلى حتمية استيراد المواد المستعملة.

ولكن الجديد في هذا المجال لم يصل إلى الكفاءة المطلوبة لإلغاء القديم، فليس كل جديد يفضل القديم، والنهوض الحقيقي لا يتم بالإعراض الكلي عن التراث والماضي، كما لا يتم بالارتماء في تراث الغير، ولعل الجوانب العمرانية أحد الأمثلة التي توضح المعاني السابقة، ف"العمران جزء لا يتجزأ من تاريخ الفكر، فالجديد فيه لا يلغي القديم، بل إن كل جديد فيه إنما هو في الحقيقة إعادة بناء أو إعادة قراءة للقديم، والتطور هنا يتم من خلال التعامل مع القديم ومن خلال توظيفه أنواعا أخرى من التوظيف وليس من خلال إلغائه تماما"[6]. والتحيز الغربي في الفن المعماري له هويته وخصوصيته، كما أن له معاييره الجمالية الخاصة به، وإن كانت تهيمن عليه الوظائف المادية، ويمتاز بهندسته الفردانية التي تضرب قيم التواصل والاتصال، ليتوافق مع أنماط الاستهلاك الأخرى التي أسست لها الحداثة، ولذلك وجدنا الاكتظاظ أحد أبرز مظاهرها، مما أدى إلى اختلاط التجمعات السكنية في غالبيتها مع مصادر التلوث الهوائي والمائي والصوتي، بالإضافة إلى التكلّف والإسراف في الإنفاق لدرجة الهوس لإنشاء مساكن "الفردوس الأرضي"، التي تشير إلى توجيه الملكات العقلية لإنشاء فضاءات تتسم بالغلو والمبالغة لتحصيل أقصى درجات المتعة واللذة الفردانية.  وهو التحقّق الذي يرافقه إخلاق بحقوق الإنسان أو الطبيعة، وإن "التبني الموضوعي للثقافة الإسلامية هو السبيل الوحيد الذي يجنبنا الوقوع في التبني السلبي المقلد سواء لأعمال الحضارة الإسلامية أو لأعمال من الحضارة الغربية مما يؤدي بمن يقتبسونها إلى الوقوع في الانحياز المنهجي الذي يجهض مشروع النهوض بالأمة ويحول دون أن تكون العمارة إحدى اللغات التعبيرية التي تبشر بولادة ثقافة جديدة يلعب الإسلام دورا فاعلا فيها"[7].

وقد وصلت عدوى المظاهر السابقة إلى مجتمعات تتّسم بالتناقض والتناحر والتناطح وتحتاج لبناء توازنات عوض تكريس الطبقية والفوارق، حيث تأثر جانب كبير من الفن المعماري العربي الإسلامي بالمظاهر السابقة بل بالغ أحيانا في تنزيلها، ملغيا بذلك روحه وامتداده الحضاري الذي تراكم من خلاله تصورات فنية وآراء جمالية وأساليب عمرانية فريدة في التشييد والابتكار، ومخالفا ميزات الذوق العربي الإسلامي المتسمة بالإبداع في إطار البساطة والتلقائية والسعة والانفتاح ومراعاة الخصوصيات في إطار الجماعة، وترشيد التكاليف والاقتصاد في الإنفاق، ومراعاة قيم التواصل والترابط الاجتماعي، والحرص على التضامن والحماية المشتركة، والتربية التعاونية. وهي القيم التي أفرزت أشكالا مختلفة من المعمار، مراعية للسقف المعرفي، ومعطيات البيئة المحلية فكرا ومادة، في مختلف عصور التاريخ الإسلامي. فمن تعاليم الإسلام الحثّ على البساطة والنهي عن المغالاة في الزخارف والمبالغة في التماثيل والتصاوير، لذلك "برع المسلمون في التحرير والتجريد من الأشكال النباتية والهندسية وفنون الخط"[8].

إن الجوانب القيمية الأخلاقية والمعمارية الفنية والحضارية التقنية تشكل مجالات خصبة لإبراز أبعاد الأصالة المعاصِرة، وهو المنطلق الذي يشكّل بمختلف جوانبه أحد الأسس الموجّهة لنظرة الإنسان الرسالي إلى الحياة في معركة البناء والتحرر المعرفي والثقافي والحضاري، وفي طريق البحث عن الصيغ المتوازنة في التعامل مع الآخر. وفي توضيحه لتلك الأصالة المتجددة يرى طارق البشري أن "المهم، إدراك أن المسألة مسألة حضارية في الأساس، نظلم ماضينا ومستقبلنا لو تركناها تمتص في عراك سياسي وقتي. نظلم ماضينا إذا تصورنا أن الأصالة مستوعبة في التخلف. ونظلم مستقبلنا إذا تصورنا أن الحداثة مستوعبة في الإلحاد. وهذه المسألة بالذات ليست صراعا بين الكفر والإيمان، ولا بين الرجعية والتقدم. ولكنها حوار بين الأصالة والتجدد، وصولا لتجديد يحمي الأصالة ويقوم عليها. وليس لواحد فينا عصمة، فما زلنا على الطريق نجدد ونكشف أصالتنا. أي نكشف الماضي والمستقبل معا"[9].

  ومنطلق الأصالة المعاصِرة لا يشتغل منفردا عن منطلقات أخرى تتكامل معه، من مثل: منطلق العقيدة ومنطلق الاستخلاف ومنطلق مركزية البعد الإنساني العالمي ومنطلق نقض المادية وتجلياتها الحداثية، وكلها منطلقات مستقرأة من الإطار الناظم للمنهجية المعرفية القرآنية وخيوطها الناظمة للكون والحياة، ويمكن أن يُستقرأ غيرها من المنطلقات الموجّهة للفعل العمراني. والملاحظ أنها مترابطة متكاملة ولا يمكن الفصل فيما بينها على المستوى النظري التجريدي وكذلك على المستوى الواقعي العملي، فلا استخلاف بدون توحيد، ولا يمكن تحقيق الأبعاد الإنسانية العالمية دون نقض المركزية الغربية التي تستند إلى الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة، لأن التوحيد والاستخلاف مبني على القيم ونظم أخلاقية عليا تشكل عناصر أصيلة لا بد من مراعاتها واحترامها لتحقيق معاصرة قوامها كرامة الإنسان في فضاء أُعدّ له ولجميع أجيال التاريخ البشري.

 

 

 

لائحة المراجع:

·       البشري، طارق "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي" دار الشروق، ط1، 1417هـ/1992م.

·       "إشكالية التحيز، رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" كتاب جماعي إشراف وتحرير: المسيري، عبد الوهاب، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1417هـ/1996م.

·       المسيري، عبد الوهاب "الهوية والحركية الإسلامية" تحرير سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1430هـ/2009م.

·       المسيري، عبد الوهاب "دراسات معرفية في الحداثة الغربية"، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2008م.

 


 

 


[1] المسيري، عبد الوهاب "الهوية والحركية الإسلامية" تحرير سوزان حرفي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1430هـ/2009م. ص: 27.

[2] المرجع السابق، ص: 30.

[3] المرجع نفسه، ص: 32.

[4] انظر:  المسيري، عبد الوهاب "دراسات معرفية في الحداثة الغربية"، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 2008م، ص 95 .

[5] انظر: "فقه التحيز، في إشكالية التحيز، رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" كتاب جماعي إشراف وتحرير: المسيري، عبد الوهاب، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1417هـ/1996م ، 1/423.

[6] بدران، راسم "العمارة والتحيّز" ضمن "فقه التحيز، في إشكالية التحيز، رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" 1/465.

[7] المرجع نفسه، 1/467.

[8] حجاجي، م. سهير "دراسة التحيّز في التصميم المعماري" ضمن "إشكالية التحيز، رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" م.س. 1/442.

 

 

أعلى