أزمة تونس.. أم نداء تونس
الحرية التي تعد بها الليبرالية الشعوب المسلمة تشبه كثيراً تلك الجزرة التي يعلقها الفلاح أمام عيني دابته التي يحمل عليها الحصاد ليحفزها على الجد في السير مع المزيد من الحمل. في تونس اليوم يعيش المجتمع أزمة مرهقة في تفاصيل تتبعها سواء على صعيد الاقتصاد والخدمات العامة أم الإصطفاف الأيديولجي والسياسي الذي بدأ منذ توقيع مؤسس الجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة مجلة الأحوال الشخصية عام 1956م، والتي هاجم فيها الهوية الدينية للمجتمع التونسي بإلغاء ثوابت فقهية وعقدية أقرتها الشريعة واستبدلها بأحكام قضائية تجعل سلطة الدستور فوق سلطة الدين وهذا الأمر نفسه أعاده الرئيس التونسي الحالي الباجي القايد السبسي في خطابه الأخير الذي قال فيه " لا علاقة لنا بالقرآن"، محاولاً بذلك دعم التوصيات التي صدرت ضمن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة وهي لجنة كلفها السبسي بمراجهة قوانين الأحوال الشخصية في تونس.
ما أقدم عليه السبسي في الفترة الأخيرة لا يتعلق فقط بمهاجمة ثوابت الدين بقدر ما يتعلق بالقفز على الصراع السياسي الموجود منذ توقيع إتفاق قرطاج عام 2016 بين الكتل السياسية والمهنية التونسية لتشكيل حكومة وطنية يرأسها يوسف الشاهد. بموجب إتفاق قرطاج تم الاتفاق على الكثير من الملفات لكن أكثرها أهمية مواجهة الأزمة الاقتصادية ومحاربة الفساد والإرهاب. الشاهد الذي ينتمي إلى نداء تونس منحت حكومته الثقة من البرلمان التونسي بناء على توافق بين كتل الائتلاف الحاكم المكونة من حزب "نداء تونس" (ليبرالي/56 مقعدا نيابيا)، وحركة "النهضة" (إسلامية/68 مقعدا)، و"آفاق تونس" (ليبرالي/10 مقاعد)، وحزب "المسار".
لكن مع بداية تنفيذ الشاهد لبرنامج حكومته بدأ الصدام يحدث بين الأخير وحافظ السبسي نجل الرئيس والمدير التنفيذي لحركة نداء تونس، ذلك الصدام أفرز انقسامات عديدة داخل نداء تونس لا سيما عقب مطالبة جناح حافظ السبسي للشاهد بتقديم إستقالة حكومته أو تجديد الثقة لها في البرلمان لكن تلك الخطوة كانت مستحيلة لرفض حركة النهضة لتلك الخطوة فهي الحليف الأبرز لحكومة الشاهد في البرلمان، لأنها تعتقد أن إقالة الحكومة من شأنه إدخال تونس في أزمة سياسية جديدة.
يقول يوسف الشاهد إن الحرب على حكومته بدأت منذ بداية محاربته للفساد وملاحقة بعض أزلام النظام السابق، لكن تلك المواجهة بين مدرسة الباجي السبسي القديمة التي تنتمي إلى زمن الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي و بين تلميذ المدرسة المتمرد يوسف الشاهد كلفت نداء تونس ثمناً باهظاً وأسقطته شعبياً وسياسياً، ففي عام 2016 بدأت سلسلة انقسامات تشهدها حركة نداء تونس أبرزها انشقاق حركة "مشروع تونس"، بقيادة الأمين العام السابق للحزب، محسن مرزوق. كما أسس رضا بلحاج، مدير الديوان الرئاسي السابق حزب "تونس أولا"، في يوليو 2017، فيما أسس سعيد العايدي، وزير الصحة الأسبق حزب "تونس بيتنا" في ماي من العام ذاته، أما الطاهر بن حسين، فشكل حزب حركة مستقبل تونس في فبراير 2017.
الضربة الثانية التي تلقتها حركة نداء تونس وأظهرت حجم الإنقسامات التي تعتري صفوفها كانت في الانتخابات البلدية التي ظهرت نتائجها في مايو الماضي وحلت الحركة فيها في الترتيب الثاني بعد حركة النهضة. وفقدت ثلثي خزانها الإنتخابي دفعة واحدة مقارنة بإنتخابات 2014.
إن أبرز أسباب الانهيار المتواصل في التركيبة الحزبية لحركة نداء تونس صعود حافظ السبسي إلى زعامة الحركة عقب تسلم والده منصب رئاسة الجمهورية الذي يحجم الدستور مشاركته في الحياة الحزبية. في ظل أزمتها الراهنة تستعد حركة نداء تونس إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة التي ستكون بعد نحو عام ونصف العام. لذلك لجأ السبسي إلى إعلان تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في الوقت الرهان في محاولة لصنع إصطفاف أيديولوجي للتغطية على الأزمة الداخلية لنداء تونس.
قد لا يتعلق الأمر بمحاولة الباجي السبسي كتابة اسمه بخط عريض في التاريخ التونسي مقتدياً بأستاذه الأكبر الحبيب بورقيبة الذي منع تعدد الزوجات وفرض قوانين أحوال شخصية متوافقة مع الفرانكفونية التي أفرزتها فرنسا عقب رحيلها عن تونس. بل الأمر يتعلق بجمع شتات نداء تونس وجماهيريته من خلال تقسيم التونسيين إلى إسلاميين وليبراليين، فقد نصت التوصيات التي لن يعمل بها قبل منحها الثقة من البرلمان، على المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وكذلك منح الناس الحق في حرية الإعتقاد وإلغاء هوية الدولة الدينية ويشمل ذلك منح المثليين الحق في التعبير عن ميولهم الجنسية.
وألغت التوصيات نفقة المرأة بإعتبارها كائن مستقل يستطيع إعالة نفسه، وطالبت بمنح "أبناء الزنا" كافة الحقوق في الميراث و الإنتماء لآبائهم وهو مدخل خبيث لإيجاد مساحة قانونية لنشر الزنا في المجتمع وتشجيه إهمال الزواج كمنظومة تحمي المجتمع من الانحراف.
و أوصى التقرير كذلك بأهمية إسقاط ولاية الأب لعائلته وجعل الأمر بالتشارك بين الأب والأم، ومنح الأم الحق بتقرير مصير أبنائها كذلك إلغاء عدة المرأة بعد الطلاق أو وفاة زوجها على إعتبار أن الطب أصبح يستطيع تحديد نسب المولود بشكل دقيق. ما جاء في التوصيات هدفه كما وصفته صحيفة هأرتس عبرية إحداث ثورة حقيقية من شأنها إلغاء الهوية الدينية للمجتمع التونسي وهو متوارث عن مجلة الأحوال الشخصية التي أقرها بورقيبة و التي منعت تعدد الزوجات وجردت الرجل من أي قوامة أقرها القرآن على المرأة.
بقدر ما يظهر تقرير لجنة الحريات الفردية و المساواة و الذي جاء في أكثر من 250 صفحة على أنه لغايات أيديولوجية تتعلق بالهوية الدينية للمجتمع التونسي إلا أن الغاية منه محاولة فاشلة لجمع شتات الليبرالية خلف نداء تونس قبل انعقاد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة في 2019.
تلخيصاً لما سبق يقول المحلل السياسي كمال الشارني، "النداء متفكك ومتعدد الرؤوس وغير قادر حتى على قيادة كتلة برلمانية أصلا". وتابع: "أصبحت هناك اليَوم خشية على هذا الحزب من الاندثار، فالوحيد القادر على إعادة ترميم الحزب هو الرئيس السبسي، لكنه دستوريا ممنوع من ذلك (الدستور يمنع رئيس البلاد أن يكون متحزبا".