• - الموافق2025/07/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
انتهاء حرب الأيام الـ12: سلام تحقق بالقوة أم هدنة على فوهة بركان؟

لم تحقق "إسرائيل" نصرًا حاسمًا، ولم تخرج إيران من المواجهة سالمة. فالأولى تواجه أعباء سياسية داخلية وتحديات في إعادة ترميم صورتها الردعية، فيما تستعد الثانية لمعركة طويلة النفس، أقل علانية وأكثر حدة، ما يجعل كلا الطرفين في حالة تأهب دائم، ويدهما على الزنا


على أنقاض الدخان المتصاعد من سماء طهران وتحت أزيز الصواريخ الإيرانية في تل أبيب وحيفا، تم الإعلان فجأة عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران بعد اثني عشر يومًا من أكثر المواجهات المباشرة حدة في تاريخ العلاقة المتوترة بينهما، لكن هل توقف القتال يعني أن الحرب انتهت حقًا؟، وهل كان هذا السلام الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وليدًا لتفوق عسكري، أم ثمرة لتوازنات ردع هشة تنذر بجولة أعنف؟، هل خرجت إسرائيل بانتصار استراتيجي أم بعبء سياسي مكلف؟، وهل ستتحول إيران من موقع الدفاع إلى بناء سردية الصمود والمظلومية، كما فعلت في حرب الثمانينيات؟، وما موقع واشنطن من هذا المشهد الذي بدا وكأنه يعيد تدوير أخطائها القديمة، لكن هذه المرة في حروب تُخاض بالوكالة وتُدار بغرائز اللحظة لا بحسابات الدولة؟، وأين تقف العواصم الإقليمية من صدمة المواجهة، وهل تكتفي بمراقبة نتائج الجولة، أم تبدأ في إعادة رسم خطوط أمنها القومي تحسبًا للانفجار التالي؟، أسئلة تفرض نفسها على مشهدٍ جيوسياسي يبدو فيه الهدوء أقرب إلى الصمت ما قبل الانفجار، لا إلى تسوية طويلة الأمد.

عملية الأسد الصاعد

في 13 يونيو 2025م، أطلقت "إسرائيل" ما سُمي بـ "عملية الأسد الصاعد"، باستخدام أكثر من 200 طلعة جوية لطائرات "إف 35" و"إف 16"، استهدف بالأساس قدرات إيران الصاروخية والنووية. جاءت هذه الهجمات مدعومة بغطاء استخباراتي محكم من الموساد وأيضًا بتعاون أمريكي واسع، قيل إن الضربات شلت حوالي 70٪ من منظومات الدفاع الجوي الإيرانية، وهو ما منح ميزة سيطرة جوية مهمة، تعزيزًا لصاروخية القصف الدقيق اللاحق. ولم تقتصر العملية على القصف الجوي؛ بل تضمنت سلسلة اغتيالات ضد قادة بارزين في الحرس الثوري وعلماء نوويين، نفّذت بالتعاون بين الطائرات التقليدية وطائرات درون تم إطلاقها من داخل إيران، وقد أسفرت الضربات عن مقتل شخصيات محورية في البنية العسكرية الإيرانية، مثل اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، واللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، ما أدى إلى اضطراب نسبي في منظومة التنسيق العملياتي بين الوحدات العسكرية والأمنية، وخلق فراغًا مؤقتًا في اتخاذ القرار العسكري خلال الساعات الحرجة الأولى من الهجوم.

 

إن الحرب الأخيرة طرحت أسئلة وجودية أمام واشنطن: هل لا تزال تمتلك مفاتيح ضبط إيقاع الأمن الإقليمي؟ أم أن "لحظة ترامب" التي حرّكت القرار العسكري قد تصبح آخر نسخ الزعامة الأمريكية في الشرق الأوسط؟

الحرب التي استلهمت اسمها من مصطلح توراتي لم تكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل كانت مشبعة بالدلالات الرمزية التي سعت دولة الاحتلال من خلالها إلى تقديم المواجهة باعتبارها امتدادًا لصراع تاريخي وجودي. فـ "عملية الأسد الصاعد" لم تكن تسمية عشوائية، بل استندت إلى تصور توراتي حيث يُستحضر الأسد كرمز للهيبة والقوة القاطعة ضد أعداء "شعب الله المختار"، وهو الوصف الذي يطلقه اليهود على أنفسهم، ولطالما لجأت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مرارًا إلى هذه الرمزية في تسمية عملياتها في مسعى لإضفاء بُعد عقائدي على حروبها.

لكن الحرب التي بدت كأنها نسخة محسَّنة من تكتيكات نفذت سابقًا في لبنان وسوريا، كانت هذه المرة مع دولة تمتلك برنامجًا نوويًا، والمثير أن إسرائيل استخدمت الذكاء الاصطناعي للتحكم في الأدوات الجوية، وعلى رأسها طائرات الدرون التي تم تهريبها سابقًا إلى الداخل الإيراني، مما وفر فرصًا للهجوم المباغت قبل أن تتسنى لطهران فرصة الرد.

من الناحية التقنية، وعلى خلاف أنماط العمليات التقليدية التي خاضتها إسرائيل في حروبها السابقة مع الدول العربية، اتسمت هذه الحرب باستخدام قنابل موجهة عالية الدقة مدعومة بأسلحة إلكترونية تشويشية متطورة، مما أتاح تنفيذ ضربة أولى أصابت أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية بالشلل المؤقت، وفتح المجال أمام صواريخ ذكية لضرب المنشآت النووية المحصّنة، وعلى رأسها "نطنز" و"فوردو"، كلّفت هذه الحرب إسرائيل أكثر من 725 مليون دولار يوميًا، مع تقديرات بأكثر من 12 مليار دولار تشمل عمليات الاعتراض وتكاليف المنشآت الدفاعية، وتوقف قطاعات مدنية واسعة، ما زاد أعباء الحكومة في التعويض وإعادة الإعمار.

موجات الوعد الصادق

ربما شكل صمود النظام الإيراني أكبر مفاجأة لمعظم المراقبين، فقد بدت الضربات وسطوة إسرائيل وكأنها ستطيح بالنظام، لكن الواقع انقلب على التوقعات. تعرّضت القيادة العليا لاغتيالات، وآلت عناصر استخباراتية وعسكرية كبرى إلى الفرار أو الإخفاء، ومع ذلك، لم ينهار النظام، بل استعاد توازنه بسرعة غير متوقعة. وفي أول ساعات الهجوم الإسرائيلي، خرج الحرس الثوري معلنًا خطة الرد عبر ما عرف بـ "عملية الوعد الصادق"، كان المقصود منها رسائل رد رادع في حال واصلت إسرائيل تصعيدها، وبالفعل نفذت إيران عدة موجات من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي اخترقت الدفاعات الإسرائيلية متعددة الطبقات، مثل القبة الحديدية، ومقلاع داوود، ومنظومة آرو، حيث وجدت هذه المنظومات نفسها أمام كثافة نيرانية غير مسبوقة تجاوزت قدراتها في بعض المواقع، ما أتاح للصواريخ الإيرانية التسلل وضرب أهداف استراتيجية، ولو جزئيًا، ورغم أن حصيلة الدمار في إسرائيل كانت أقل مقارنة بما تم تدميره في إيران، إلا أن الرسالة الاستراتيجية وصلت: إيران قادرة على ضرب العمق الجغرافي الإسرائيلي وتجاوز المنظومات الدفاعية.

عبر عملية "الوعد الصادق"، أعلن النظام الإيراني تحوّلًا استراتيجيًا من مرحلة الصبر الاستراتيجي إلى الردع المباشر في محاولة لإعادة صياغة موقعه الإقليمي، وعلى وقع الضربات الجوية والاغتيالات التي طالت قادة بارزين في الحرس الثوري والمؤسسة النووية، شهدت المدن الإيرانية تظاهرات ومسيرات داعمة للنظام، وارتفعت شعارات الصمود المقدّس في المساجد وميادين المحافظات، في مشهد جمع بين التعبئة الرمزية والرسائل السياسية للداخل والخارج. وبغض النظر عن دوافع تلك المسيرات ـ أكانت تلقائية أم مرتبة من قِبَل النظام ـ فقد أظهرت قدرة النظام الإيراني على ضبط الشارع ومنع تحوله إلى كتلة ناقمة، بل وتحويله إلى قوة معنوية في سياق المواجهة. وكما فعلت إيران خلال حربها الطويلة مع العراق في الثمانينيات، حين حوّلت سنوات الدم والحصار إلى سردية الدفاع المقدس، فقد أعادت اليوم، عبر الإعلام والخطاب الديني والسياسي، إنتاج موقعها كضحية صامدة أمام اعتداءات قوى تفوقها تسليحًا وتكنولوجيًا. القيادات التي تم اغتيالها صُوّرت بوصفها شهداء معركة غير متكافئة، والضربة العسكرية تحولت إلى فرصة لإحياء سرديات سياسية يكررها الشيعة باستمرار، ما أعاد إنتاج الشعور بالتماسك الوطني حتى في أوساط بعض المعارضين. وهكذا، بدت إيران وكأنها تعيد رسم ملامح سرديتها الكبرى: ليست مجرد سلطة في موقع الدفاع، بل كيان مقاوم يُضرب ويقوم، ينهار جزئيًا ثم يعيد إنتاج نفسه، وينخرط من جديد في مشهد إقليمي بالغ التعقيد.

 

أظهرت الحرب هشاشة الردع الجوي الإسرائيلي أمام صواريخ إيران الدقيقة، وفشل منظومات الدفاع باهظة الثمن في توفير مظلة دفاع كاملة، ما ولّد قلقًا نفسيًا لدى الداخل الإسرائيلي

ارتباك القرار الأمريكي

لم يكن الدور الأمريكي في حرب الأيام الاثني عشر أكثر من صورة معكوسة لتاريخ طويل من التردد، والانخراط غير المحسوب، والتورط في صراعات بالوكالة تبدأ بشعارات الردع وتنتهي بخسائر استراتيجية. في البداية، ظهرت إدارة الرئيس دونالد ترامب وكأنها تراقب من بعيد، تحاول كبح جماح إسرائيل دون أن تُغضبها، ثم ما لبثت أن انزلقت إلى الداخل، حين شاركت بالفعل عبر قاذفات "بي-2" وقنابل خارقة للتحصينات استهدفت المنشآت الإيرانية. هذا التدخل، رغم محدوديته، أعاد التذكير بمأزق التحالف المشروط، حيث تجد واشنطن نفسها مرة تلو أخرى مضطرة لمجاراة حلفائها، لا وفق استراتيجيتها، بل وفق إيقاع قراراتهم التكتيكية. الفجوة داخل الإدارة الأمريكية بين صقور المؤسسات وأجنحة "أمريكا أولًا" كانت واضحة، وزادها تعقيدًا غياب استراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع إيران، وافتقار ترامب إلى رؤية مؤسسية تترجم نفوذه الشخصي إلى فعل مستقر لحاكم دولة كبرى.

الارتباك الأمريكي لم يكن مجرد خطأ في التقدير، بل انعكاس لأزمة أعمق: واشنطن اليوم لم تعد قادرة على حسم خياراتها في الشرق الأوسط دون أن تُصيب حلفاءها بالتوتر، أو تخسر رصيدها الداخلي المنهك من حروب الخارج. كما أن انقسام الرأي العام الأمريكي، خاصة في أوساط الشباب الجمهوري والديمقراطي على السواء، يعكس تحوّلاً ثقافيًا بات يرفض انجرار أمريكا خلف حروب الآخرين مهما بدت ضرورية من منظور جيوسياسي تقليدي. إن الحرب الأخيرة طرحت أسئلة وجودية أمام واشنطن: هل لا تزال تمتلك مفاتيح ضبط إيقاع الأمن الإقليمي؟ أم أن "لحظة ترامب" التي حرّكت القرار العسكري قد تصبح آخر نسخ الزعامة الأمريكية في الشرق الأوسط؟ وفي حال انسحابها الفعلي أو الرمزي، ما البديل الذي سيملأ هذا الفراغ؟ الجواب لم يتضح بعد، لكن المؤشرات لا توحي بمشروع أمريكي متماسك يُلبي حجم التحدي.

ردع ناقص وكلفة باهظة

رغم أن إسرائيل والولايات المتحدة قدّمتا ضرباتهما الجوية على أنها نصر خاطف ضد البنية التحتية النووية الإيرانية، إلا أن الوقائع على الأرض تكشف أن الانتصار لم يكن استراتيجيًا بقدر ما كان تكتيكيًا محدود الأثر، ومفتوح العواقب. فالهجوم الذي استهدف مواقع مثل فوردو ونطنز باستخدام قنابل خارقة عبر قاذفات أمريكية، لم يُدمّر كامل البرنامج النووي الإيراني، بل عطّله مؤقتًا، كما أشارت تسريبات وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية بأن التأثير لا يتجاوز عدة أشهر، والأسوأ بالنسبة لتل أبيب أن الضربة دفعت إيران إلى تعميق التمسك ببرنامجها، وتكريس سردية قومية حول الحق في التخصيب، وهو ما قد يصعّب أي رقابة مستقبلية ويضع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أمام حالة غموض نووي أكثر تعقيدًا من ذي قبل.

في المقابل، تجد إسرائيل نفسها وقد كسبت مكاسب عملياتية، لكنها خسرت على المدى المتوسط دعمًا سياسيًا كان حاسمًا في العقود الماضية. فقد أظهرت الحرب هشاشة الردع الجوي الإسرائيلي أمام صواريخ إيران الدقيقة، وفشل منظومات الدفاع باهظة الثمن في توفير مظلة دفاع كاملة، ما ولّد قلقًا نفسيًا لدى الداخل الإسرائيلي وأعاد إلى الأذهان مشاهد الحرب النفسية التي سادت زمن صواريخ صدام حسين.

إيران، من جانبها، استثمرت "عملية الوعد الصادق" لتحويل نقطة ضعفها إلى منصة تعبئة سياسية داخلية، لكنها تواجه واقعًا لا يقل تعقيدًا، فالمخزون النووي قد تم تهريبه أو المنشآت قد تم تدميرها جزئيًا، والخسائر في كوادر البحث العلمي والعسكري تركت فراغات يصعب سدّها سريعًا. ومع ذلك، فإن احتمالية تطوير برنامجها النووي في بيئة أكثر سرية وانغلاقًا باتت أعلى، ما يُنذر بأننا أمام مشهد نووي غير قابل للضبط، تزداد فيه الحسابات خطورة، ويغيب عنه الإطار التفاوضي الآمن.

في المحصلة، لا "إسرائيل" حققت نصرًا نهائيًا، ولا إيران خرجت سالمة. الأولى تواجه أعباء سياسية داخلية وتحديات في إعادة ترميم صورتها الردعية، والثانية تستعد لمعركة طويلة النفس، أقل علانيةً، وأكثر حدة، تجعل من الصعب العودة إلى مفاوضات نووية تقليدية كتلك التي عرفناها في فيينا أو لوزان،

أما السلام الذي أُعلن عنه ترامب، فلم يكن ثمرة انتصار حاسم، بل نتيجة توازن ردع مؤقت فُرض بالقوة العسكرية وبضغط الخوف من انفجار إقليمي واسع النطاق. هدنةٌ لا تُبنى على تسويات، بل على بقاء الأصابع قريبة من الزناد. هكذا، لم يكن ما حدث نهاية حرب، بل تدشينًا لمرحلة أشد تعقيدًا، تسودها حسابات الردع، وتُدار من خلف الستار، حيث كل طرف يحصي خسائره، ويُجهّز لصراعه المقبل. الصراع إذًا لم ينتهِ، بل دخل مرحلة جديدة من الردع المتبادل، حيث لا غالب، بل خسائر تتراكم ببطء، في انتظار الشرارة التالية.

 

أعلى