بوتفليقة وميراث العسكر في الجزائر
لا يمكن ذكر إسم الجزائر إلا ونبدأ بالترحم على أكثر من مليون شهيد ضحوا بأنفسهم في سبيل طرد الإستعمار الفرنسي من بلادهم، فالصورة الذهنية للجزائر إرتبطت بشخصيات مثل الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي والشاعر مفدي زكريا وجميلة بوحيرد إحدى الصفحات الأكثر إشراقاً في تاريخ الثورة الجزائرية. كانت تلك الأسماء تعكس ميراث الجزائر الثقافي والفكري الذي يظهر لنا قوة هذا الشعب ومدى حفاظه على هويته الوطنية والدينية. اليوم أضحى استقرار الهوية الوطنية في الجزائر مرتبط بمحوران مهمان أولهما الصمود في معركة الحرب على "الإرهاب" بأجندتها الدولية و ثانيهما الإستمرار في حالة الإندماج مع الفرنكفونية الفرنسية. في اليومين الماضيين أصدرت نخب ثقافية وسياسية جزائرية عريضة نشرتها وسائل الإعلام طالبت فيها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد الترشح لولاية خامسة بسبب سوء حالته الصحية وجاء في العريضة التي كان أبرز موقعيها رئيس الوزراء السابق أحمد بن بيتور أن "ولاية رئاسية جديدة للرئيس بوتفيلقة ستكون محنة أخرى في للبلاد، بسبب تقدمه في السن وتدهور حالته الصحية".
بوتفليقة في نظر الكثير من المحللين السياسيين هو محلل شرعي لإستقرار الحكم للدولة العسكرية التي تدير البلاد في الجزائر منذ استولى الرئيس الأسبق هواري بومدين على السلطة العام 1965، فالنظام العسكري منذ تلك الفترة يضمن استمرارية بقاءه من خلال وجود حزبين سياسيين رئيسين (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي) بكونهما القوة الأساسية في السياسات الانتخابية الجزائرية، ويسيطران على الأغلبية في البرلمان، ويصونا ولاء ودعم الشخصيات السياسية المحلية بهدف تعزيز الوضع السياسي القائم. فحزب جبهة التحرير الوطني بدأ يلعب دوراً سياسياً متوازياً مع ما تريده المؤسسة العسكرية منذ مؤتمره الذي عقد 1979 بهدف تعيين خلف لبومدين بعد وفاته، وقد أظهرت الحقائق أن خليفة بومدين، الشاذلي بن جديد، لم يُنتخب في هذا المؤتمر بل في جمعية تكوّنت من كبار القادة العسكريين بقيادة رئيس جهاز المخابرات آنذاك قاصدي مرباح.
لضمان ولاء الطبقة الوسطى من السياسيين في البلاد، تقوم الدولة بإرضاءهم بعدة طرق، أبرزها حينما صدر مرسوم جمهوري عام 2008 لرفع الراتب الشهري للبرلمانيين من 1500دولار إلى 2400 دولار. وهذا الراتب أعلى 14 مرة من الحد الأدنى للأجور في الجزائر (نحو 170 دولارا)، بالإضافة إلى مزايا أخرى مثل الفروض بدون فوائد و العطايا التي تقدم في المناسبات الوطنية وتجنيب تعريضهم للمساءلة القانونية. فبحسب تقرير مجموعة الأزمات الدولية في عام 2001 فإن حوالى 600000 إلى 800000 شخص استفادوا من قربهم من النظام السياسي الحاكم في البلاد، وعلى الأرجح فإن الأغلبية الكبرى من هؤلاء جزء من الحكومة الجزائرية.
تقول الباحثة في معهد كارنيجي دالية يزبك، إن نجل اللواء أحمد بوسطيلة، القائد السابق للدرك الوطني، يملك شركات عدة من ضمنها شركة مُتخصّصة باستيراد بطاريات للسيارات. وبالمثل، يملك نجل اللواء خالد نزّار، أحد أبرز الجنرالات الجزائريين في التسعينيات، شركة اتصالات خاصة تُدعى Smart Link Communication (SLC).65 ومن المرجّح أن المناصب الرفيعة التي تبوّأها والداهما ونفوذهما السياسي ساعداهما في أن يخوضا بنجاح غمار العملية الشاقّة والمملّة المتمثّلة في الحصول على رخص الاستيراد والقروض اللازمة لإنشاء شركتيهما.
يُشكّل قطاع الأدوية مثالاً آخر لسطوة دولة العسكر في الجزائر، فحتى العام 1995، كان هذا القطاع خاضعاً بشكلٍ كبير إلى سيطرة شركات عامة. أما اليوم، فتهيمن شركات خاصة مملوكة من حوالى عشرة أفراد مقرّببن من النخبة السياسية- العسكرية في البلاد على 85 في المئة من السوق. فعلى سبيل المثال، يتولّى مصطفى أيت دجدجو إدارة المختبر الجزائري لتصنيع الأدوية، وهو مقاول بارز في القطاع العسكري، معروفٌ بالعلاقة التي تربطه بمحمد العماري، قائد الأركان السابق في الجيش الجزائري. وبالمثل، يملك أفراد من عائلة الجنرال محمد غنيم، الأمين العام السابق لوزارة الدفاع، شركة "أبوتكس" للأدوية، فيما تملك ابنة الرئيس السابق لقسم مكافحة التجسّس والأمن الداخلي، إسماعيل العماري، شركة "فارماليانس".
ويُعتبر علي حداد من أشهر هذه الشخصيات، وهو صاحب مؤسسة متخصصة بأشغال الطرقات والهيدروليك والبناء، تُعدّ من أكبر الشركات الخاصة في الجزائر، وهي منخرطة في مروحة متنوعة من القطاعات، من ضمنها البناء والأشغال العمومية والنقل والسياحة. ويترأس حداد مؤسسة اقتصادية بارزة، هي منتدى رؤساء المؤسسات (FCE) الذي يُعتبر طرفاً مهماً على الساحة السياسية. ولم يكن مفاجئاً قيامه بتنظيم حملة مكثّفة في العام 2014 لحشد أعضاء في منتدى رؤساء المؤسسات من أجل دعم إعادة انتخاب بوتفليقة سياسياً ومادياً لولاية رابعة، حيث ورد أنه حصد أكثر من 1.7 مليون دولار. ويتمتّع المنتدى - الذي يضمّ 7000 شركة، و300 ألف موظف، إضافةً إلى جملة إيرادات وصلت إلى نحو 35 مليون دولار حتى مارس 2018 - بموقف قوي يخوّله لعب مثل هذا الدور.
يؤكد مؤشر مدركات الفساد الصادر عن مؤسسة الشفافية الدولية للعام 2017، أن الجزائر احتلت المرتبة 112 من أصل 180 دولة. ففي العام 2017 مثلاً، تمّت محاكمة أكثر من 1400 مسؤول محلي مُنتخب بتهم شملت سوء الإدارة والاختلاس وهدر المال العام وغيرها من حالات سوء السلوك المهني، وفي العام 2017، تمّ توجيه تُهم بالفساد إلى 250 رئيس بلدية. لذلك سيبقى ملف استقرار النظام السياسي في الجزائر رهينة لمدى استجابة العسكر لشرطين هامين ذكرناهما في البداية أولهما الإستجابة للأجندة الدولية في ملف الحرب على "الإرهاب" وديمومة عجلة التطبيع مع الفرنكفونية الفرنسية.