ميلتون فريدمان والبتكوين
في الفترة الماضية أنفقت وقتاً طويلاً في محاولة فهم أحد أبرز أسرار العالم الحديث الاقتصادية، وهو عملة "البتكوين" التي يعتبرها بعض الاقتصاديين أبرز حدث اقتصادي في القرن الحادي والعشرين، لم أتحفز في الكتابة عن تفاصيل تداولها ومن يقف خلفها كون هذا الأمر يخص الحكومات والمؤسسات المصرفية، لكن الصعود الكبير لهذه العملة بصورة سريعة واعتمادها من قبل بعض الدول مثل كندا وألمانيا واليابان وغيرها من عمالقة الاقتصاد العالمي رغم المحاذير الأمنية التي قد تنطوي عليها خصوصاً كونها صعبة التعقب ويمكن استخدامها بسهولة من قبل تجار الممنوعات أو الجماعات "الإرهابية" أو الأنشطة غير المشروعة، إلا أنها مندفعة إلى الأمام، ذلك الأمر دفعني لمحاولة البحث في سياق التعاطي الدولي مع الأزمات الاقتصادية الكبرى حتى وصلت لمقطع فيديو قصير لــ "ميلتون فريدمان"، يتنبأ فيه الرجل بعملة إلكترونية تستخدم على شبكة الإنترنت دون القدرة على تتبعها، فريدمان رحل عن العالم في عام 2006م عن عمر يناهز 94 عاماً، لكن مقطع الفيديو الذي صوره نشر في أواخر تسعينيات القرن الماضي. ما ذكره فريدمان أرجعني إلى فيلم أمريكي عرض خلال عام 2016م بعنوان (WAERS DOG).
الفيلم يتحدث عن فشل شاب يهودي في مقارعة صعوبات الحياة حتى أن جمعه القدر بصديق قديم يمتهن تجارة السلاح عبر الحصول على عقود من الجيش الأمريكي في بعض البلدان المحتلة مثل العراق وأفغانستان، وضمن التفاصيل التي يستعرضها الفيلم يشير إلى إغراق الجيش الأمريكي للساحة العراقية بالسلاح عبر أمثال هذا التاجر الذي تتركز مهمته حول البحث عن الأسلحة السوفيتية القديمة و الغير مسجلة في سجلات رسمية ليتم تهريبها عبر الحدود البرية إلى العراق، وفي مشهد مثير للبؤس الذي وصل إليه العراق وبعد أن ينتهي التاجر اليهودي الشاب من تسليم شحنة ذخيرة جلبها من دولة سوفيتية ما يذهب إلى مستودعات ضخمة وعلى بوابة أحدها يجلس ضابط برتبة متدنية على مكتب وخلفه أطنان من الدولارات والذهب والمجوهرات تمت مصادرتها من ممتلكات النظام العراقي السابق، يقوم الضابط الأمريكي بحمل كمية كبيرة من النقود ويلقيها ضاحكاً بين يدي التاجر.. إنها الطريقة الأمريكية في صناعة الحروب الرخيصة التي تشغل الشعوب عن حقوقها الأساسية، تلك الظاهرة مثلها اقتصاديا فريدمان الذي كان أحد أعمدة الاقتصاد الأمريكي ومنظري سياساته. ولد فريدمان في مدينة نيويورك عام 1912م لعائلة يهودية فقيرة هاجرت من النمسا والمجر. حصل على شهاد الاقتصاد من جامعة روتغرز عام 1932م، ثم أكمل دراسة الماجستير في جامعة شيكاغو وكان موضوع رسالته "العوامل المؤثرة في أسعار أسهم شركات السكة الحديد". تزامنت فترة دراسته الجامعية مع أزمة الكساد التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاثينيات القرن الماضي، لذلك اختار أن يكون له دور في محاولة إنهاء هذه الأزمة، وعمل في مركز الأبحاث الوطني في واشنطن من عام 1935 إلى 1937م، ثم في المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية في نيويورك من عام 1937 حتى 1945م، ثم حاز الدكتوراه من جامعة كولومبيا عام 1946م.
مارس فريدمان العمل الأكاديمي والبحثي لعقود في أبرز جامعات الولايات المتحدة وكان أحد مستشاري وزير الخزانة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ولعب دوراً بارزاً في الترويج لاقتصاديات السوق الحر من خلال البرامج التلفزيونية والكتب التي نشرها وأبرزها "حرية الاختيار" الذي هو في الحقيقة عبارة عن خلاصة لبرنامج تلفزيوني قدمه حمل نفس الاسم، و "الرأسمالية والاقتصاد".
بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وقف وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال يهنئ زعماء 16 دولة أوروبية بهذا النصر، وفي الوقت الذي كانت أوروبا تحتفل بالتخلص من أزمة "هتلر"، كانت أمريكا تحمل معها مشروع "مارشال" الشهير، الذي بموجبه وجهت 13 بليون دولار لإعادة عمارة أوروبا وهي في الحقيقة عبارة عن أموال ودائع لمواطنين أمريكيين تم إرسالها كقروض وديون لشركائهم الأوروبيين وفق شروط وقيود وفوائد سياسية ومادية كبيرة جداً سيجنيها الأمريكيون وحدهم. يقول ميلتون فريدمان في كتابه" الرأسمالية والحرية"، "لن يتحقق التغيير الحقيقي سوى بالأزمات- سواء كانت قائمة، أو أخذت بوادرها تلوح في الأفق". عام 1950م جلس فريدمان مع الوكالة الحكومية الأمريكية لمدة عام في العاصمة الفرنسية باريس يطمئن على تنفيذ خطة مرشال في أوروبا، فقد كانت أمريكا في تلك الفترة تمكن للشركات الأمريكية دوراً في القارة الأوروبية من خلال بناء اقتصاديات تلك البلدان وفق نظرية رأسمالي تسمح بإضعاف سلطة الدولة على حركة التجارة.
التجربة التالية كانت لفريدمان كانت عقب الانقلاب العسكري في تشيلي في سبتمبر 1973م، حيث دعمت وكالة المخابرات المركزية انقلابا من الجيش على حكومة الرئيس الاشتراكي سالفا، وسلم السلطة إلى الفاشي أوغستو بينوشيه. عقب تلك الخطوة بدأ فريق أمريكي يقوده ميلتون فريدمان بوضع سياسيات اقتصادية جديدة لتشيلي أبرزها إلغاء التأميم الحكومي للموارد الاقتصادية للدولة، ثم خصخصة قطاع كبير من مؤسسات الدولة وتسريح الآلاف من الموظفين الحكوميين حتى عرفت تلك التجربة بــ "علاج الصدمة". أثرت أفكار فريدمان في سياسات الرئيس الأمريكي رونالد ريغن ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مرغريت تاتشر، حتى تم منحه جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976م عن طروحاته في الاستهلاك والسياسة النقدية وتحرير الأسعار. دافع فريدمان عن حرية السوق في مواجهة تدخل الدولة في الاقتصاد ودعا الى تبني سياسة نقدية تتضمن نموا مطردا لمعروض النقود، وهي أفكار لعبت أدوارا محورية في فلسفات الحكم لتاتشر وريغن. من أشهر مقولات فريدمان "يمكنك اغفال بعض الناس كل الوقت وبعض الناس بعض الوقت لكن لا يمكن اغفال كل الناس كل الوقت". وكان جل ما يريده أن ترفع الحكومة يدها عن الاقتصاد. و هنا يجب القول إن كان حجم المخزون الإحتياطي من الذهب في أي بلد يمثل قوتها الاقتصادية و قدرتها على توفير العملة الصعبة لإستيراد حاجياتها، فما هو مصدر قوة البتكوين؟! وهل عملية النجيم التي تعتمد على الطاقة الكهربائية بدرجة كبيرة ستمنح هذه العملة القوة الكافية لتستمر بنفس القوة السوقية؟! و هل زيادة الاستثمار في هذه العملية سيفقد الذهب قيمته كمخزون مقابل للعملات الصعبة؟!
حينما سمعت تاتشر خبر وفات فريدمان، قالت "أعاد فريدمان إحياء اقتصادات عصور الحرية بعد أن طواها النسيان". أما الرئيس الأمريكي دبليو بوش فقال إن فريدمان "أظهر عمله أن الاسواق الحرة هي المحركات العظيمة لتطور الاقتصاد". بدوره قال عنه آلان غرينسبان الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الأمريكي " كان شيئا ثابتا في حياتي المهنية والشخصية لنصف قرن". لم يكن دور فريدمان منظراً للسياسات الرأسمالية فقط في مناطق النفوذ الامريكية بل عمل عملاً استخباريا مهماً في هذا المجال من خلال الدخول إلى أحد قلاع الاشتراكية في العالم وهي الصين، فقد حاضر وقدم العديد من البرامج برعاية دوائر ثقافية واقتصادية صينية ساهمت في إدخال الصين ضمن دائرة السوق الحرة، وقالت إحدى المقالات في الصحف الصينية: اذا هيمن جون كينز وكارل ماركس على الثلثين الاولين من القرن العشرين، فإن الثلث الاخير ينتمي إلى ميلتون فريدمان". وقال العالم الصيني لي هوا فانغ: "التاريخ اثبت ان فريدمان قد فاز، واذا نظرت إلى ما فعلته الصين منذ عام 1990م (اصلاح المشروعات المملوكة للدولة، وازالة التحكم في الاسعار) فسترى أن هذا بالفعل كان ما دعا اليه ميلتون".
التجارة الحرة أو الرأسمالية المطلقة أو رفع يد الدولة عن الحركة الاقتصادية للمجتمع هي أبرز النقاط التي أرادها فريدمان، وهي نقطة تغلب مصلحة الرأسماليين وتزيد من قوتهم ونفوذهم في المجتمع لكنها في المقابل تترك مساحة كبيرة للحركة سياسياً لهؤلاء، فبدون الرأسماليين لا يمكن أن تنجح المشاريع السياسية أو العسكرية لأنهم ذخيرتها دائماً، في الفترة الأخيرة لجأت بعض الشركات البريطانية لشراء مخزون كبيرة من العملة الرقمية لحماية نفسها من هجمات "الفيروسات" ولإيجاد بديل عن العملات النقدية لتسديد فدية للقراصنة في حال إحتاجت ذلك وقد يكون هذا الأمر من الباب الدفع في إنجاح هذه العملة أو الهرب من الملاحقة القانونية في حال تورطت مثل هذه الشركات في أنشطة غير مشروعة، فمؤخراً في باريس كشفت فضيحة لشركة لافارج الفرنسية للأسمنت أنها دفعت أموالاً لتنظيم "داعش" للسماح لها بالعمل في منطقة "الجلابية" شمال سوريا!!.