منذ تأسيسه، لم يكن معهد وايزمان مجرد مؤسسة أكاديمية، بل تحوّل إلى الذراع العلمي والتقني الرئيسي لإسرائيل. فقد شكّل بيئة خصبة لإنتاج التكنولوجيا والمعرفة التي توجّه بشكل مباشر نحو دعم البنية الأمنية والعسكرية للكيان
في ضربة قوية وجّهت إيران
منذ أيام صواريخها نحو واحد من أهم رموز التفوق العلمي والعسكري في إسرائيل؛ معهد
وايزمان للعلوم في رحوفوت، والذي يُلقّب بـ "العقل النووي لإسرائيل" نظرًا لدوره
المركزي في الأبحاث النووية، والتقنيات المتقدمة، والدعم المباشر للمؤسسة العسكرية
الإسرائيلية. هذا الاستهداف لم يكن ضربة عسكرية عابرة، بل إشارة رمزية إلى قلب
المنظومة البحثية التي شكّلت على مدى عقود ركيزة من ركائز القوة التكنولوجية
الإسرائيلية، ما يطرح تساؤلات حول حجم الخسائر العلمية، وأبعاد هذا الهجوم في سياق
الصراع المتصاعد.
النشأة والبدايات
تعود جذور معهد وايزمان
إلى عام 1934م، حين بادر الكيميائي الصهيوني حاييم وايزمان ـ الذي سيصبح لاحقًا أول
رئيس لدولة الاحتلال الإسرائيلي ـ بتأسيس نواة لمركز علمي متقدم في مدينة رحوفوت
جنوب تل أبيب، تحت اسم معهد دانيال سيف للأبحاث، كان الهدف آنذاك إنشاء بنية تحتية
علمية تدعم المشروع الصهيوني في فلسطين، لا سيما في مجالات الزراعة والكيمياء
والفيزياء، بما يخدم خطط الاستيطان والتوسع اليهودي.
جاءت التسمية تكريمًا
لذكرى دانيال سيف، نجل تاجر يهودي بريطاني بارز ساهم في تمويل المعهد، وقد شكّل هذا
المركز آنذاك ثالث مؤسسة تعليمية بحثية يؤسسها اليهود في فلسطين بعد معهد التخنيون
في حيفا والجامعة العبرية في القدس، لكنه سرعان ما تطور بشكل أسرع وأوسع، وبدأ
يستقطب كبار العلماء الأوروبيين الذين نزحوا إلى فلسطين قبل وأثناء الحرب العالمية
الثانية، وفي عام 1949م بعد إعلان قيام الكيان الصهيوني، أعيد إطلاق اسم المركز
رسميًا ليصبح معهد وايزمان للعلوم نسبةً إلى مؤسسه، في إشارة رمزية إلى العلاقة
الوثيقة بين المعرفة العلمية وتشكيل الكيان الإسرائيلي ذاته.
الذراع العلمي للكيان
منذ تأسيسه، لم يكن معهد
وايزمان مجرد مؤسسة أكاديمية، بل تحوّل إلى الذراع العلمي والتقني الرئيسي لإسرائيل.
فقد شكّل بيئة خصبة
لإنتاج التكنولوجيا والمعرفة التي توجّه بشكل مباشر نحو دعم البنية الأمنية
والعسكرية للكيان، وقد ساهم المعهد في تطوير العديد من مشاريع الأمن السيبراني،
وأبحاث الفيزياء النووية، والتقنيات المتقدمة في الرصد والمراقبة والتشويش والاتصال
المشفر، وحتى توجيه الطائرات بدون طيار، كما أنشأ المعهد شركة تابعة له تُدعى ييدا
مهمتها تسويق ابتكاراته ونقلها إلى المؤسسات الأمنية والصناعية.
|
يفتخر الكيان الصهيوني بكون معهد وايزمان أحد أبرز عشر مؤسسات بحثية في
العالم من حيث جودة الأبحاث، ويستعرض أسماء العلماء الذين تخرجوا من أروقته
وفازوا بجوائز نوبل |
هذه العلاقة العضوية بين
المعهد ووزارات الأمن والدفاع جعلته أحد أكثر المؤسسات حساسية واستراتيجية في
البنية التحتية للكيان المحتل، ووفقًا لبعض التقارير؛ يعمل في المعهد أكثر من 2500
موظف، من ضمنهم علماء وباحثون في مجالات متنوعة كالكيمياء، والفيزياء، وعلوم
الحاسوب، والأحياء، والكيمياء الحيوية، والذكاء الاصطناعي. ويضم المعهد خمس كليات،
و30 مختبرًا، ومكتبة علمية ضخمة، ومراكز لتدريب المعلمين، ومساكن مخصصة للباحثين.
عقل إسرائيل الصناعي والعسكري
يمثل معهد وايزمان أحد
أبرز العقول المحركة للآلة العسكرية الإسرائيلية، إذ لم يقتصر دوره على الابتكار
الأكاديمي، بل تجاوز ذلك ليصبح مركزًا لتطوير أدوات الحرب الحديثة وصياغة التفوق
التكنولوجي الميداني. فقد انخرط علماؤه في مشاريع ترتبط جوهريًا بالبنية الدفاعية
والهجومية لجيش الاحتلال، مساهمين في بناء ما يمكن وصفه بـ "عقل إسرائيل العسكري".
ومن أبرز مجالات هذا التداخل:
1- دعم مشاريع الذكاء
الاصطناعي الخاصة بجيش الاحتلال الإسرائيلي.
2- تطوير أنظمة توجيه وتحكّم ذاتية للأسلحة والطائرات المسيّرة.
3- تقديم خدمات في تحليل البيانات الاستخباراتية الضخمة.
4- تحسين أجهزة التعقّب والتشويش والحماية الإلكترونية.
5- إجراء بحوث ترتبط بالتقنيات النووية والطاقة الموجهة.
6- دعم أنظمة الملاحة العسكرية البديلة عن نظام الملاحة العالمي (GPS).
7- توفير الاتصال المشفر
في البيئات المعادية.
المكانة الرمزية
لم يكن معهد وايزمان مجرد
مؤسسة علمية متقدمة تقف على أطراف المشهد الأكاديمي، بل تحوّل إلى أيقونة داخل
الوعي الصهيوني، ورمز لما يُروَّج له تحت مسمى "تفوق العقل اليهودي"، فقد جرى
تحميله أبعادًا ثقافية وتاريخية تفوق كونه مركزًا بحثيًا، حتى غدا أشبه بـ "ضريح
علمي" تُبنى حوله أساطير التقدم والمعرفة، ويُقدَّم للعالم كبرهان حي على عبقرية
المشروع الصهيوني وتميّزه عن محيطه العربي. داخل إسرائيل، يُنظر إلى المعهد بوصفه
العقل المفكر للجيش، والعمود الفقري لابتكارات الدولة في المجالات الاستراتيجية،
ولهذا نال لقبًا لافتًا في الإعلام العبري والدولي: "العقل النووي لإسرائيل".
|
مجرد استهداف المعهد كان كافيًا لإحداث صدمة رمزية وأمنية داخل إسرائيل.
فالضربة الإيرانية لم تكن موجهة إلى منشأة هامشية، بل إلى أحد الأعمدة
المعرفية والتكنولوجية التي يرتكز عليها المشروع الصهيوني |
يفتخر الكيان الصهيوني بكون معهد وايزمان أحد أبرز عشر مؤسسات بحثية في العالم من
حيث جودة الأبحاث، ويستعرض أسماء العلماء الذين تخرجوا من أروقته وفازوا بجوائز
نوبل،
مثل آدا يوناث التي حصلت
على الجائزة في الكيمياء عام 2009م، وآرييه وارشيل الذي حاز الجائزة عام 2013م، في
محاولة لترسيخ صورة إسرائيل كدولة متفوقة علميًا وتقنيًا وسط محيط عربي غالبًا ما
يُوصم بالتخلف والاضطراب. بهذه الصورة حوّل اليهود هذا المعهد إلى جزء من روايتهم
السياسية والثقافية الأوسع، والتي تروّج لفكرة الدولة الحضارية المتقدمة في قلب
منطقة متأزمة.
ومن زاوية أخرى، يمثّل
معهد وايزمان حلقة وصل قوية بين إسرائيل والشتات اليهودي العالمي، لا سيما في
الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. إذ يتلقى المعهد تمويلًا سخيًا ومستدامًا من
منظمات صهيونية دولية، ومن أثرياء يهود يرون في دعم المعهد مساهمة رمزية وعملية في
مشروع بناء الوطن اليهودي. وقد رسّخ المعهد هذا الارتباط عبر إطلاق أسماء المتبرعين
على أبنيته ومختبراته وقاعاته، ليغدو المكان بمثابة سجلّ محفور للتحالف بين العلم
والمال والهوية الصهيونية، وهذه الرمزية المركّبة ـ العلمية والعسكرية والهووية ـ
جعلت من استهداف إيران لهذا المعهد ضربةً لا تمسّ البنية التحتية البحثية فحسب، بل
تمسّ سردية كاملة بنت إسرائيل مشروعها على أعمدتها.
القصف الإيراني .. تبعات وتداعيات
في 14 يونيو 2025م، تغيّر
كل شيء، فقد وثّقت مقاطع مصوّرة استهداف صاروخ إيراني مباشر لمبنى داخل معهد
وايزمان، ضمن تصعيد عسكري كبير عقب الضربات الإسرائيلية لمنشآت نووية وعسكرية في
طهران. سقط الصاروخ قرب مبنى زجاجي، وتصاعدت أعمدة الدخان، وأظهرت الصور دمارًا
واسعًا وحرائق طالت المختبرات والبنية التحتية، هذا الهجوم مثّل ضربة غير مسبوقة
على المستوى الرمزي والاستراتيجي لإسرائيل، إذ لم يكن استهدافًا لموقع عسكري
تقليدي، بل لقلب التفوق المعرفي والصناعي الإسرائيلي. ومن هنا، يُفهم القصف
الإيراني ليس فقط كرسالة ردع، بل كرسالة نفسية تفيد بإمكانية ضرب المخّ الإسرائيلي
إذا استمرت الاعتداءات.
رغم أن الأضرار المادية
التي لحقت بمعهد وايزمان لم تُكشف بتفاصيل دقيقة، إلا أن
مجرد استهداف المعهد كان كافيًا لإحداث صدمة رمزية وأمنية داخل إسرائيل. فالضربة
الإيرانية لم تكن موجهة إلى منشأة هامشية، بل إلى أحد الأعمدة المعرفية
والتكنولوجية التي يرتكز عليها المشروع الصهيوني، ما أعطى للهجوم بُعدًا
يتجاوز العمل العسكري التقليدي نحو ما يشبه الحرب على الذاكرة والابتكار، ولا شك أن
لهذا القصف أبعاد متعددة:
* نفسية:
فقد بعث الهجوم
برسالة قوية للرأي العام الإسرائيلي مفادها أن العمق العلمي الإسرائيلي لم يعد
بمنأى عن الخطر، وأن الحرب لم تعد على الأطراف فحسب.
* علمية وتكنولوجية:
خسائر المعهد ستؤدي إلى تعطيل عدد من الأبحاث الجارية، لا سيما
تلك المرتبطة بالأمن السيبراني والدفاع التكنولوجي. حتى وإن كانت هناك نسخ احتياطية
من البيانات، فإن تدمير البنية التحتية سيعني تأخّر الإنجاز العلمي، وربما خسارة
خبرات بشرية ثمينة.
* سياسية:
عزّز الهجوم من مأزق الحكومة الإسرائيلية التي أصبحت تواجه
تصعيدًا إقليميًا واسعًا، لا يشمل الجبهات العسكرية التقليدية فقط، بل يمتد إلى
البنية المعرفية، ما قد يفرض مراجعات في استراتيجيات الحماية والتوزيع الجغرافي
لمراكز الأبحاث.
* دبلوماسية:
يشكّل هذا الحدث نقطة تحوّل في طبيعة الردع الإيراني، ويدل على
دخول الصراع مرحلة جديدة يكون فيها كل ما يتصل بالقوة الإسرائيلية، بما في ذلك
مراكز الأبحاث، أهدافًا مشروعة في حال استمرار العدوان.
يختزل معهد وايزمان للعلوم
قصة المشروع الصهيوني بأكمله: تأسيس على أرض مغتصبة، علم موجه لخدمة التفوق
العسكري، وتغطية دعائية تزعم المدنية والتقدم. واستهداف هذا المعهد اليوم، في قلب
إسرائيل، ليس مجرد ضربة صاروخية، بل إشارة إلى بداية تفكك الصورة التي لطالما سعت
إسرائيل لتسويقها: أنها محصنة، متفوقة، وعصية على المسّ. وربما يكون لهذا الهجوم ما
بعده، إذ أصبحت منظومة العقل الصهيوني نفسها في مرمى النيران.