حد المسجد النبوي الشريف
المسجد النبوي من المساجد التي أسست على التقوى من أول يوم، وقد أسسه رسول الله عليه وسلم مقدمه المدينة المنورة في العام الأول من الهجرة والرابع عشر من البعثة، وقد ورد في فضل الصلاة فيه ما يجعل النفوس تحرص على الصلاة فيه؛ إذ كان من المساجد التي تشد إليها الرحال وفيه الروضة التي هي من رياض الجنة؛ ما جعل من المهم معرفة حدود المسجد النبوي لمريد الصلاة فيه. ومما جاء فيه من الفضل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: "عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه، إلا المسجد الحرام»، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».
فعندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة كان من أول ما قام به تأسيس المسجد موضع عبادة المسلمين واشترى أرضه من غلامين في المدينة، لكن مساحة المسجد لم تكن كبيرة بالقدر الكافي لذا لما تكاثر المسلمون احتاجوا في عهد عمر رضي الله تعالى عنه إلى توسعة المسجد وزيادة مساحته، ثم احتاجوا إلى ذلك مرة أخرى زمن عثمان رضي الله تعالى، ثم في زمن الوليد ثم المهدي... وهكذا حتى وقتنا الحاضر؛ كلما احتاج المسلمون إلى زيادة مساحة المسجد قاموا بتوسعته، وهنا يثور سؤال هل الفضل الوارد في مضاعفة الصلاة في المسجد النبوي خاص بالبقعة التي كانت زمن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم أم أنه يمتد لتشمل التوسعات التي لحقت بالمسجد على مر الدهور؟ ويثور سؤال آخر: هل مضاعفة فضل الصلاة يمتد ليشمل المدينة كلها أم أنه قاصر على المسجد؟
بالنسبة للسؤال الأول: فالذي يظهر أن مضاعفة الصلاة تشمل كلَّ ما أطلق عليه اسم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقتصر على البقعة التي كانت في زمنه؛ فيدخل في ذلك المسجد الأول وتوسعاته التي لحقت به. يدل على ذلك مسلك المسلمين من لدن الصحابة وحتى يومنا هذا؛ فلقد كانوا يصلون في المسجد جميعاً ولا يتحاشون الصلاة في شيء منه ولو كان من التوسعة، يدل لذلك أن موقف الإمام والصف الأول كان في التوسعة القبلية وهي خارج المسجد القديم قطعاً، وهناك آثار رويت تدل على ذلك؛ فمن ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه "، وفي رواية: "لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه الله بعامر"، وقد روي مرفوعاً من حديث أبي هريرة ولفظه: "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي"، فكان أبو هريرة يقول: (والله لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما غدوت أن أصلي فيه) .
لكن المرفوع المروي في ذلك والأثر ضعيفان سنداً، وقال ابن تيمية: "وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد تضعف فيه الصلاة بألف صلاة... ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم؛ فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك"، وقال: "وهذا الذي جاءت به الآثار، وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل.
وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان؛ فإن كليهما زاد من قبلي المسجد فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا.
لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفاً من العلماء"، ولعل من هؤلاء الذين عناهم ابن تيمية النووي رحمه الله حيث يقول: "واعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته وقد نبهت على هذا في كتاب المناسك والله أعلم" وهناك آخرون غير النووي رأوا مثل ما رأى، وما ذكره ابن تيمية رحمه الله أقوى وأسدُّ.
بالنسبة للسؤال الثاني: فالفضل مختص بالمسجد النبوي دون المدينة كلها، إذ لفظ الحديث الوارد في الفضل دال على اختصاص المسجد به حيث جاء فيه "مسجدي هذا" وهذا اسم إشارة يشير به إلى مسجده المعروف وهو ما ينفي اشتراك المدينة كلها في الفضل الثابت له، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة أنه قال: إن المقصود بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما كان داخل حدود المدينة المنورة ما بين لابتيها شرقاً وغرباً، وما بين عَيْر وثور شمالاً وجنوباً، غير أن هناك من أهل العلم المعاصرين من يرى هذا الرأي وقد دعم رأيه بما تأمله في بعض الأمور التي تؤدي إلى ذلك في ما يرى، وعند التدقيق في ما أورده من الأدلة لا أجد أنها تؤدي لما ذهب إليه، فمن ذلك:
1- صلاته - صلى الله عليه وسلم - النافلة في بيته، وبيته خارج مسجده في زمنه فلا يتصور من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك الصلاة في مسجد الصلاة فيه بألف صلاة في ما سواه ويصلي في ما سواه، وهو ما يعني أن الصلاة في مسجده وما كان داخل حدود المدينة في الفضل سواء. ولو سلمنا بهذا الاحتجاج فإن هذه الحجة ليس فيها إلا التسوية بين مسجده وبيوته صلى الله عليه وسلم في الفضل، وبيوته ملاصقة لمسجده، فالحجة قاصرة عن إفادة التعميم الوارد في المدلول عليه؛ فالدليل لو دل على المطلوب لا يزيد عن التسوية في الفضل بين المسجد وبين بيوته صلى الله عليه وسلم؛ لكن من أين جاء التعميم حتى يشمل حدود المدينة كلها هذا ما لا وجود له في الدليل.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله بيوت الله وبيوتهن خير لهن"، وهذا يدخل فيه نساء المدينة؛ فكيف تكون الخيرية والأفضلية لبيوتهن دون مسجد رسول الله، والحال أن الصلاة فيه بألف صلاة في ما سواه، إلا أن يكون مسجد رسول الله ما أحاط بحدود المدينة فتدخل بيوت نساء أهل المدينة في مسجدها العام؟ ويقال في الجواب: هذا الحكم يبين أن صلاة النساء في بيوتهن خير لهن من الصلاة في المسجد وليس له علاقة ببيان حدود المسجد النبوي ولا بالتفضيل بين المساجد، وخيرية صلاة المرأة في بيتها لأن في خروجها من بيتها تعرض لأن تُفتن أو يفتتن بها، وهذا يبين حرص الشريعة على ابتعاد المرأة عن الرجل إلى أقصى حد ممكن حتى في مكان العبادة؛ فعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي، أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: " قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي "، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل" (أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقال ابن حجر: إسناده حسن) وعن عبد الله بن عباس: أن امرأة سألته عن الصلاة في المسجد يوم الجمعة، فقال: «صلاتك في مخدعك أفضل من صلاتك في بيتك، وصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في مسجد قومك». والحديث قد أثبت الخيرية لصلاة المرأة في البيوت والمستدل له التسوية في الفضل بين سائر أنحاء المدينة المنورة ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فافترقا، ولو قدر أن هذا الحديث دال على التسوية في الفضل بين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبقية المدينة المنورة فلا يكون دالاً إلا في حق النساء، على أن هذا القول لا يحل التساؤل الوارد في الاحتجاج: " فكيف تكون الخيرية والأفضلية لبيوتهن دون مسجد رسول الله؟"
3- لما أراد بنو سليم ترك بيوتهم والانتقال إلى قرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم طلباً لمضاعفة الصلاة فيه... وعلم رسول الله بذلك نهاهم وقال: "دياركم بني سليم تكتب آثاركم"؛ فهل يُتصور من هذا التوجيه النبوي حرمانُ بني سليم من أجر مضاعفة الصلوات في مسجد رسول الله إلا أن تكون منازل بني سليم ومساجدهم ضمن مسجد رسول الله بمفهومه العام؟ ويقال في الجواب عن هذا الاحتجاج: (ملحوظة أولية هم بنو سلمة وليس بنو سليم)، ليس في الحديث أنه نهاهم عن الصلاة في مسجده أو أنه قال لهم صلوا في مساجدكم بل قال لهم: الزموا دياركم كراهية أن تعرو المدينة كما جاء في الروايات، وحضهم على الصلاة في مسجده بقوله: تكتب آثاركم، أي خطاكم التي تخطونها للمسجد تكتب لكم عند الله، قال النووي: " قوله: بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، معناه الزموا دياركم فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم الكثيرة إلى المسجد" وقال ابن رجب: "وبنو سَلَمَة: قوم من الأنصار، كَانَتْ دورهم بعيدة من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فأمرهم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بملازمة دورهم، وأخبرهم أن خطاهم يكتب لهم أجرها فِي المشي إلى المسجد.
4- دعا صلى الله عليه وسلم ربه أن يكون للمدينة حرم كما لمكة حرم فاستجاب الله دعاءه، ومن خصائص حرم مكة مضاعفة الصلاة فيها إلى مائة ألف صلاة، ويمكن أن يكون من خصائص حرم المدينة مضاعفة الصلاة في جميعها داخل حرمها ألف صلاة... والله واسع الفضل والكرم والإحسان. ويقال في الجواب: كون المدينة لها حرم كما لمكة حرم لا يقتضي بأي نوع من أنواع الدلالة أن تكون خصائص المدينة مماثلة لخصائص مكة والمدينة حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: "أن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة"ـ ويتبين مما ذكرت أن كل ما ورد من أدلة لا يقوى على إفادة المطلوب لا سيما أن هذا القول لم يقل به أحد من أهل العلم السابقين. والله تعالى أعلم وأحكم.