البدوي الحافي في مجلس الوزراء!
أصدر المهندس علي النعيمي سيرته الذاتية في كتاب متزامن مع إعفائه من منصبه الوزاري، ويقع الكتاب الذي نشرت الدار العربية للعلوم طبعته الأولى عام (1438=2016 م)، في (293) صفحة، ويتكون من إهداء ومقدمة، ثم تسعة عشر عنواناً؛ فخاتمة يعقبها شهادات بعض معاصريه.
وأهدى النعيمي كتابه إلى زوجته ظبية في بادرة وفاء غير مستغربة منه، وإلى أبنائه الأربعة ريم ورامي وندى ومحمد ومن كالوالد في حب بنيه؟ ثم ختم الإهداء لأحفاده الذين يمنحونه الأمل، فهو رجل مستقبلي النظرة، وصاحب رؤية بعيدة، وبالجملة فالإهداء أسري ينبئ عن دفء وحنان لا زالت تنعم به الأسرة السعودية، والله يديمه عليها، ويحميها من مكر المفسدين.
ثم اختصر المهندس النعيمي حياته في المقدمة، إذ ولد عام (1935م)، من أم بدوية قصيرة يعتز بها كثيراً، وبما ورثه منها من قصر قامة مع علو همة، وسمات بدوية نبيلة، وإن تخلى عن هجران السمك كمأكول على يد صديقه الأمريكي فيما بعد.
وقد ارتحل الطفل النعيمي في الصحراء، ولم يعرف النعل حتى بلغ التاسعة، وعندما أصبح عمره اثني عشر عاماً التحق بأرامكو للعمل ساعياً، وظل داخل أسوارها سبعين عاماً، لافتاً نظر رؤسائه إلى جديته وبداهته وسرعة تعلمه، مما جعله أهلاً للدراسة في المملكة فلبنان ثم أمريكا، وتقلد المناصب حتى صار أول رئيس سعودي للشركة، وحين هم بالتقاعد؛ قطع الأمر الملكي عليه عزمه، وغدا وزيراً للنفط، وهو مستغرق في الصيد!
حظي كتاب الوزير بتداول سريع، وكتبت عنه مقالات، وملخصات، وأظنه من أكثر الكتب التي تواصى بها الناس في هذه السنة، فقلما يكتب وزير سعودي مذكراته، وإذا كان الكاتب كالنعيمي في الكفاح والمسؤوليات، فليس غريباً أن يقرأ مواطنوه وبنو قومه قصة نجاح محلية عربية غير أجنبية، والله يديم نجاحه فيما بقي له من عمر، وفي حياتيه المقبلتين.
وسأذكر بعض فوائد الكتاب، وهي لا تغني عن قضاء وقت ماتع معه:
1- فتح الملك عبد العزيز بيده الصمام الذي ضخ أول شحنة نفط من رأس تنورة، وكان ذلك في يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول عام 1358= الأول من مايو عام 1939م، ومن المصادفات أن التاريخ الهجري يوافق الشائع عن المولد النبوي، والتاريخ الميلادي هو يوم العمال، وللعمال في أرامكو قصة!
2- أعلن النعيمي في طفولته أنه سيصبح رئيساً للشركة، وألقى قصيدة أمام الملك عبد العزيز عام (1947م)، ثم التقى بأبنائه الملوك الستة من بعده، ولا أظن أحداً غيره من الوزراء يشاركه في ذلك.
3- عمل في أرامكو ببركة أخيه الذي أحبه ورافقه حتى توفي مبكراً، ومن المفارقات أن النعيمي فُصل كثيراً، وفي غضون شهور طُرد أربع مرات ليس بسبب تقصيره غالباً؛ وإنما لأسباب خارجة عن إرادته، وأحدها بسبب تفاحة إيطالية حمراء!
4- لو كان الفشل جزءاً من المنهج الدراسي لحصلت على امتياز! هكذا يقول هذا الرجل المثابر جداً، وهو عزاء لمن أصابه العثار.
5- أدركت أني لن أتمكن من رسم مستقبلي حتى أكبح جماح غضبي، كما يقول النعيمي الذي بهر الإعلاميين ببروده تجاه استفزازهم إياه، وصمته القاتل الطويل.
6- صنع النعيمي لنفسه فرصة تحقيق هدفه برئاسة أرامكو، فحين عرض عليه العمل في إدارة جديدة، أصر على اختيار إدارة التنقيب، ليكون أول سعودي فيها من غير العمال، ويصبح عضواً في الإدارة التي انتسب لها أغلب رؤساء الشركة.
7- المساومة ديدن كل سوق، والأسعار كلها قابلة للمفاوضة، هكذا فهم النعيمي مبكراً، ويالها من حكمة في عالم الاقتصاد، وفي عالم المبادئ أيضاً!
8- أثنى النعيمي على الشيخ عبد الله الطريقي أول وزير نفط سعودي، فيما انتقد-أحياناً- لاحقي الطريقي وسابقي النعيمي وهما الوزيران أحمد يماني، وهشام ناظر.
9- النعيمي قارئ نهم، ولعمر الله إن القراءة لحياة ثانية وثالثة، ومتعة لا توصف، وأما الكتابة فخلود وبقاء، والله يجعلهما في مرضاته.
10- أكد المؤلف أنهم استفادوا من إضرابات عمال أرامكو، والحقيقة أن المطالبين بالحقوق رواد يستحقون الاحتفاء؛ لأنهم ينتزعون حقوق الجميع من بين مخالب الأسود.
11- لا توقد ناراً زائدة تحت القدر، وهذه حكمة تدعو للتوازن في كل شيء، وليس في ضخ النفط وتسعيره فقط.
12- يتميز النعيمي بفهمه للأجانب، ومحاولة استثمار ما يميزهم حتى لو كانت رياضة المشي، أو صيد السمك، أو بداوة الكوري، وولع الفلبيني بالأكل، ودهاء الصيني تجارياً، من أجل خدمة البلاد وأهلها.
13- وضوح الهدف يمنح الإنسان شعوراً بالسكينة عند الأزمات، وهذه من سمات القائد الذي لديه رؤية وحلم.
14- التحالف والتفاهم سبيل لخدمة المصالح، وهذا ما فعله النعيمي مع الدول المنتجة للنفط من خارج أوبك.
15- لاتخاذ الخطوات الحاسمة والجريئة قيمة كبرى، والتردد آفة.
ولاريب لدي بأن عند المهندس أشياء لم يقلها، ولعله أن يستدركها بالكتابة أو التسجيل، وهي إما معلومات، أو آراء، أو استشراف. والكتاب بجملته جميل السبك، ماتع السرد، وفيه تصريح وبعض تلميح، وتجاوزت صياغته بنجاح بعض الأحداث، والموضوعات الشائكة دون نقاش مستفيض.
ويقتنع القارئ بعد فراغه من هذه السيرة بأن الرجل كان مناسباً، في مكانه الأنسب له، ويتساءل -وهو حق مشروع- هل لدى الوزراء والمسؤولين الكبار سيرة ذاتية، ومهنية، وسجل إنجازات، تشهد لهم باستحقاقهم للمناصب التي تبوؤها؟ وهل يجرؤ كثير منهم على كتابة سيرة ملهمة كما فعل البدوي الذي تربع على عرشي أرامكو وأوبك؟