الانتخابات الأمريكية والصدام مع الأقليات
في عام ١٨٤٨ جاءت أول وثيقة للمطالبة بحقوق المرأة الأمريكية، وهى بعنوان "وثيقة شلالات سينيكا"، يعود اسمها للمكان الذي اعلنت منه في إحدى ضواحي ولاية نيويورك. قادت هذه الحركة، الأمريكية "إليزابيث كيدي ستينتن"، بالمشاركة مع مجموعة من الناشطات حينها. أول بند في الوثيقة جاء ليطالب "بحق المرأة الأمريكية" في التصويت في الانتخابات بشتى أنواعها.
وكانت المرأة في ذلك الحين محرومة من حق التصويت، تماما كما كانت محرومة من حقوق اخرى كثيرة، أبسطها "عدم قدرتها على الذهاب للكنيسة مثلا، أو المدرسة، أو أي محفل خاص، أو عام، قد تعارف عليه المجتمع كمحفل لا يُسمح بالتواجد فيه سوى للرجال". "الحق في التصويت في الانتخابات كان حجر الأساس الذي سبق جميع الحقوق الأخرى، إذ تؤكد ستنتن: "كيف ستستطيع المرأة الأمريكية الخضوع لقوانين تم وضعها بواسطة ساسة هى لم تشارك في اختيارهم بالأساس"؟
استمر الكفاح قرابة قرن كامل من الزمان، حتى نجحت المرأة الأمريكية في الحصول على حقها في التصويت في الانتخابات في عام ١٩٢٠، ليبدأ الجزء الثاني من الكفاح من أجل تزعم المناصب القيادية في شتى المجالات. تكتظ كتب النسويات، وغيرهم، بالعديد من الأطروحات، والجدليات حول "أحقية المرأة الأمريكية في الترشح لمنصب الرئيس"، بل هناك قرابة قرن كامل من الكفاح، والمطالبات، والعمل الجاد على جميع الأصعدة لكي يصلن إلى هذا الهدف، وجاء عام ٢٠١٦ ليشهد على تحقق هذا الحلم المنتظر، بوصول "هيلاري كلينتون" كمرشحة رئاسية على رأس قائمة أقوى حزب سياسي أمريكي.
هذه المقدمة عنيت بها ثلاثة أهداف:
١) التأصيل التاريخي "المختصر جدا" لكفاح المرأة الأمريكية منذ قرابة قرنين من الزمان، من أجل الوصول إلى هذه اللحظة، لكي يتخيل معي القارىء الكريم مدى شراسة "الصراع الانتخابي الحالي"، وكيف أن هناك قوى كبيرة تقف خلف كلينتون وتدعمها. وأن وصولها للمنافسة الرئاسية لم يكن انجازا وليد اللحظة، أو عائدا لشخصها، أو قدراتها. بل هو حصيلة عقود طويلة من التضحيات، والانجازات، والمطالبة بالحقوق.
٢)- أن بداية المطالبة بحقوق المرأة في أمريكا تزامنت مع بداية المطالبة بحقوق العبيد، وتحريرهم، ومن ثم، فهناك قوى أخرى وكتلة تصويتية تنضم لحملة دعم كلينتون. وهى ما يُطلق عليها "الكتلة السوداء" أى "الأمريكيين الأفارقة". تاريخيا، قد حوت أروقة الكفاح، والمطالبة بالحقوق كلا من النساء، والسود، كأكبر كتلتين فيما يطلق عليهم "الأقليات" في أمريكا. التعاون المتبادل، والمطالب الموحدة، وتبادل الدعم، والخبرات، والمؤلفات الأدبية، والفلسفية، والاقتصادية، والعلمية، وغيرهم، أدى إلى تكون علاقة وثيقة بين الفئتين. ربما أحيانا يشوبها بعض التوتر، والمعاتبة، والاتهامات، لكن سرعان ما ينقضي كل هذا، وتصبح الكلمة للتاريخ الطويل للعلاقة البناءة بينهما.
٣)- أن ترشح، ومن ثم "احتمالية فوز كلينتون" في الانتخابات الأمريكية، ستكون "لحظة تاريخية، وعلامة فارقة جدا" في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم. خاصة الأروروبي لما يربط بينه وبين أمريكا من جذور تاريخية في قضايا تحرير المرأة، وصعودها للكرسي الرئاسي.
لكن بداية، أود أن أعود معكم إلى عام ٢٠٠٨ حيث كانت حملة انتخابات باراك أوباما، والذي انحازت له جُل "الكتلة النسوية" دعما، وتأييدا، وتصويتا. وأعقد مقارنة سريعة بين انتخابات أوباما، والانتخابات الحالية، وسأركز على خمس نقاط أساسية:
١)- "فزاعة المسلمين، والإرهاب":
يظن البعض أن هذه الفزاعة جديدة، أو تم تفعيلها في الانتخابات الحالية فقط، من أجل ترجيح كفة "دونالد ترمب". لكن الحقيقة غير ذلك. أذكر جيدا في أثناء حملة "أوباما" كانت تأتينا مكالمات هاتفية مكثفة "من مجهولين" تحذرنا من خطورة انتخاب "أوباما" وكيف أنه له جدور مسلمة، وأنه سيدعم "الإرهاب، والإرهابيين" إذا ما وصل لسدة الحكم. لم يقتصر الأمر على هذه المكالمات الهاتفية، وسائل الإعلام، أحاديث العامة، المناظرات الانتخابية بين رواد الحزبين آنذاك، كل هذا كان يستخدم نفس "الفزاعة". لذا فالخلاصة هنا، أن فزاعة الإرهاب، والمسلمين وخطرهم على أمريكا، هى واحدة من "الأدوات الثابتة" و"المحاور الأساسية" في حرب الانتخابات الأمريكية.
٢)- "عزل الأقليات، وتقويض أدوارهم":
كمسلمة مقيمة في الولايات المتحدة، للعمل والدراسة معا، أكاد ألحظ جيدا "منحنى" تأثيرات هذه الفزاعة على الرأى العام الأمريكي، والشارع، الجامعة، والعمل الدعوي الإسلامي هنا. نعم تأثر عملنا الدعوي، وأصبح يزداد صعوبة عاما بعد عام، خاصة في مواسم الانتخابات، وتأجيج الفزاعات. فضلا عن حرب الاعلام، وما تقوم به كلما حدث ما يُدعى "بحادث إرهابي" سواء على الأراضي الأمريكية، أو خارجها. أظن أنني خرجت بنتيجة ما، وهى أن تأجيج هذه الفزاعة لا يحدث أبدا "بشكل عشوائي" لمجرد موسم الانتخابات، أو غيره. بل إن هذه الفزاعة ما هى الا "اختراع رائع بالنسبة لهم"، حيث أنه جزء من السياسة الأمريكية التي تحرص على أن تظل الأقليات المسلمة خاصة، وغير المسلمة عامة، تعيش على هذه الأرض وهى في حالة "خوف، وترقب، واحساس بالذنب"، مما يقوض مجهوداتها، ويُهمش دورها أكثر فأكثر. وهذا ينتج عنه حالة من الانعزال عن المجتمع، وعدم الانخراط فيه، وهذا هو المطلوب.
٣)- الوجاهة، والريادة العالمية:
منحنى حيوي جدا في الصراع الانتخابي الأمريكي، تقول الناشطة السياسية "آن ويلسن": "إن الانتخابات الأمريكية هى انتخابات العالم، ما تنتج عنه الانتخابات هنا هو درس مُلهم، ورائد للعالم كله". هذه الفكرة تُعد فكرة جوهرية في تاريخ الانتخابات الأمريكية. مما يجعل فكرة "البدء في صعود الأقليات - كالسود، والنساء - لسُدة الحكم، واجبة التنفيذ، بل لقد تأخرت جدا، حتى أصبحت أمريكا في حرج "عالمي". إذ كيف للدولة رائدة الديمقراطية والحريات في العالم كله - كما يزعمون - ألا تمكن أكبر كتلتين للأقليات في أمريكا من سُدة الحكم حتى الآن؟ لذا أصبح القرن الواحد والعشرين هو قرن "تكليل كفاح هذه الأقليات، ومصالحتهم، وتحقيق قانون الوجاهة والريادة العالمية للدولة الأمريكية".
٤)- أوباما وكلينتون:
مما سبق من لمحة تاريخية مختصرة جدا، يمكننا الآن فهم هذه الحالة من التأييد "التام" والدعم الإعلامي المعلن القوي الذي يقوم به "اوباما" لكلينتون وحملتها الانتخابية. كلينتون قد عملت في حكومته كوزيرة للخارجية. بالاضافة إلى ما سبق ترشيحها من "حملة لتلميعها" من خلال تسليط الضوء على تاريخها الحافل في العمل المجتمعي، والإغاثي، ودورها أيضا "كسيدة أمريكا الأولى" في فترة تولي زوجها "بيل كلينتون" لمنصب الرئاسة الأمريكي. هذه الخبرة، وهذا التاريخ الحافل الذي يكن له الأمريكيين نوعا خاصا من التقدير، والاحترام، يجعل كفة كلينتون مُرجحة جدا لدى فئة عريضة من الشعب الأمريكي. هذا التقدير والاحترام، تم تسليط الضوء على مثيل له في حملة انتخابات أوباما، من خلال توضيح سجله الحافل في العمل المجتمعي، والقانوني، وكيف أن "خريج هارڤارد" العبقري يخطو بثقة نحو البيت الأبيض. وخلافه. هذا التلميع، وهذه الوجاهة "الاجتماعية، والفكرية، والحضارية" تمثل الكثير جدا للشعب الأمريكي المُولع بتحسين، وتنميق صورته أمام العالم. الحملة الانتخابية لكلينتون تظهر هذا بوضوح شديد: "مقاطع لها منذ عقود وهى مستغرقة في العمل الخيري والسياسي"، "تسليط الضوء على أناقتها، ولباقتها في الحديث، والانجازات السياسية التي حدثت في عهدها"، "الكتاب الذي قامت بتأليفه حديثا تحكي مذكراتها في العمل السياسي وغيره". كل هذا هو تمهيد للرأي العام الأمريكي لكي يهيئه "لقبول أول امرأة في منصب الرئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية كاملا". تماما كما فعلوا في حملة تلميع أوباما، لكي يقبله العامة كأول رئيس "أمريكي أسود، في تاريخ بلادهم".
٥)- كلينتون وترمب:
عدم تركيزي على حملة ترمب الإنتخابية هنا، وعقد مقارنة بينها وبين حملة كلينتون الانتخابية لا يعني أنها ليست بنفس القوة، والتأثير. ولكن، قراءة المشهد التاريخي كاملا، خاصة تاريخ الحركة النسوية الأمريكية، وما قامت به من مجهودات لا يسع المجال هنا لحصرها، ولدت عندي قناعة أن المشهد السياسي يتم تهيئته لدخول هيلاري كلينتون للبيت الأبيض كأول رئيسة منتخبة. زد على ذلك سلسلة "الفضائح" التي تتوالى على رأس ترمب يوما بعد يوم. لكن بالتأكيد عزيزي القارىء سيتولد لديك سؤال: "لماذا يبدو لنا أن ترمب مرشح قوي جدا، وأنه حصد جزء لا بأس به من أصوات الأمريكيين"؟! الإجابة: "اللعبة الانتخابية الأمريكية، تشبه أي لعبة سياسية، أهم ركائزها "الحبكة، وضرب مئات العصافير بحجر واحد". مكتسبات السياسة الأمريكية من الحملة الانتخابية لترمب - سواء فاز، أو لم يفز - ومن الحملة الانتخابية لكلينتون - سواء فازت أم لم تفز - مكتسبات كبيرة جدا. سأعطي مثالا واحدا: حينما كنا ندرس علوم البيانات في جامعة جون هوبكنز الأمريكية، كانت أكبر قاعدة معلومات، وبيانات، وقياسات حقيقية للرأي العام الأمريكي، في قضايا جوهرية وهامة جدا: مثل التعليم، الإرهاب، الاقتصاد، البطالة، الضرائب، وغيرهم - نحصل عليها من خلال قاعدة بيانات الفترات الانتخابية في تاريخ الدولة الأمريكية. قضايا مثلا مثل: "قبول المجتمع لفكرة اللجوء السياسي واللاجئين"، "الإرهاب، وعزل المسلمين عن المجتمع، بل ومنعهم من الدخول، أو ترحيل المتواجدين منهم بالفعل"، "البطالة، والازمات الاقتصادية"، كل هذه المحاور الحرجة جدا، الوصول فيها لقاعدة معلومات وبيانات "تعكس ما يراه الشعب الأمريكي" هى خطوة قوية جدا نحو إعداد، وهيكلة، وتطوير "الأجندة الداخلية، والخارجية للسياسات الأمريكية". نقطة أخيرة أود التنويه عنها، وهى أنه ليس من "المعقول، أو المنطقي" ألا تشهد حلبة مصارعة "القوى الانتخابية الأمريكية" كل هذا التشويق، والاثارة، والفضائح، والمناظرات، والتحليلات، والتصريحات النارية، إذ كيف ستجني وسائل الإعلامي الأمريكية والعالمية "ملايين الدولارات"، وتزدهر بعض الصناعات، والمجالات، مُستغلة اشتعال هذا "الموسم الساخن جدا، الذي لا يتكرر سوى كل أربع، أو ثمان سنوات"؟!