ما وراء غرام بوتين بالصهاينة
إن هناك ما يدلل على أن الشراكة الإستراتيجية بين روسيا والكيان الصهيوني باتت تغطي
مجالات كثيرة من العلاقات بين الجانبين، حيث بات الرئيس الروسي فلادمير بوتين يوظف
ثقل روسيا الدولي والإقليمي لخدمة المصالح الصهيونية بشكل فج.
ولقد بات بوتين يوظف تدخله في سوريا من أجل تحقيق المصالح الصهيونية على حساب مصالح
إيران تحديدا في سوريا.
ويتضح أن كلما زادت ورطة إيران في سوريا كلما زادت قدرة بوتين على توظيف هذه
الورطة بهذا الشكل أو ذاك لصالح الصهاينة.
ويكفي هنا، الإشارة إلى ما الاستنتاج إلى ولج إليه الرئيس الأسبق لجهاز الموساد
إفرايم هليفي، من قبول إيران بتمركز القاذفات الروسية، التي تشارك في قصف الشعب
السوري، في قواعدها الجوية.
ويرى هليفي، في مقال نشرته "يديعوت أحرنوت" أن الخطوة الإيرانية التي تعكس إقرار
فج بالفشل في سوريا تخدم في النهاية الكيان الصهيوني، على اعتبار أنه كلما زاد شعور
الإيرانيين بالورطة في سوريا والحاجة إلى الروس أكثر، كلما كان بإمكان بوتين
إلزامهم بعدم تجاوز الخطوط الصهيونية الحمراء.
ويراهن الصهاينة صراحة على الدور الروسي المتعاظم في سوريا في منع حزب الله من
استغلال تواجده في سوريا من أجل بناء قواعد عسكرية.
وتنطلق محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب من افتراض مفاده أنه في ظل الظروف
الداخلية اللبنانية، فأنه سيكون من الصعب على حزب الله التسبب في مواجهة تكون
ساحتها لبنان.
لكن خدمات بوتين للصهاينة لا تقف عند هذا الحد. فبعد أن فشل الرئيس المصري عبد
الفتاح في توفير الظروف اللازمة لتجاوز المبادرة الفرنسية التي ينظر إليها الصهاينة
كمصدر تهديد كبير، لأن رفض تل أبيب لها يمكن أن يقود إلى اعتراف أممي بدولة
فلسطينية؛ نجد أن بوتين يدخل على الخط ويعمل جادا في محاولة تحقيق ما فشل السيسي في
تحقيقه.
وكما حاول السيسي إحباط المبادرة الفرنسية من خلال الدعوة للقاء يجمع رئيس السلطة
محمود عباس ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في القاهرة من أجل تقديم انطباع
مضلل بشأن وجود مفاوضات بين السلطة والكيان الصهيوني؛ فأن بوتين يعرض الآن عقد لقاء
مماثل في موسكو لتحقيق نفس الغرض.
اللافت أن بوتين يريد عقد اللقاء بين نتنياهو وعباس وفق الشرط الصهيوني المتمثل
بألا يشترط عباس عقد الاجتماع بأي التزام صهيوني مسبق، حيث أعلن نتنياهو بوضوح أنه
مستعد للمشاركة في اللقاء فقط في حال لم يشترط عباس وقف لاستيطان والتهويد وغيرها
من مواقف.
ولكن لما كان بوتين ليس لديه الوقت والوسائل لاقناع قيادة السلطة بقبول ما رفضته في
السابق، فأنه طلب من السيسي توظيف أوراق الضغط لديه ومحاولة إجبار عباس مجددا على
قبول فكرة موسكو، على الرغم من إدراكه أنه لم يحدث أي تغيير على موقف نتنياهو.
المفارقة أن تحرك بوتين يأتي في الوقت الذي لم يعد كبار المسؤولين الصهاينة يكتفون
بمسوغات دينية وأمنية وإستراتيجية لتبرير مواصلة السيطرة على الأراضي الفلسطينية
التي احتلت عام 1967، بل باتوا يجاهرون بحماسهم لمواصلة احتلالها لدواع اقتصادية
أيضا.
فقد تحولت أراضي الضفة الغربية، في نظر القيادة الصهيونية، إلى مجرد احتياطي لحل
مشكلة السكن في الكيان الصهيوني. فنظرا للضائقة التي يعانيها سوق السكن الصهيوني،
سيما في منطقة الوسط، بسبب قلة مساحة الأراضي المتاحة للبناء وازدياد الطلب،
وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل كبير، فأن حكومة تل أبيب شرعت بالفعل في استغلال
الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة لحل هذه الضائقة.
وتعكف حكومة تل أبيب حاليا على خطة لتدشين مستوطنات جديدة وتوسيع القائم منها بهدف
استيعاب الأزواج اليهودية الشابة، التي تعجز عن شراء شقق سكنية داخل الكيان
الصهيوني. وبالطبع فأن بوتين والسيسي يصمان آذانهما عن مجاهرة وزراء في حكومة
نتنياهو بعزمهم على توسيع خطة "القدس الكبرى"، التي تهدف إلى تسويع حدود بلدية
الاحتلال في القدس شرقا وجنوبا وشمالا، بحيث تشكل 10% من مساحة الضفة الغربية.
وقد قررت الحكومة الصهيونية مؤخرا البناء في قلب مدينة الخليل، وذلك لأول مرة منذ
عقدين من الزمان، على الرغم من أن حكومات تل أبيب المتعاقبة توقفت عن البناء في
المدينة، وذلك بسبب دلالات هذه الخطوة، سيما وأن بضع مئات من غلاة المتطرفين من
اليهود يعيشون وسط 120 ألف فلسطيني داخل هذه المدينة.
وقد بات وزراء نتنياهو يوظفون مشاريع التهويد والاستيطان في إطار سعيهم لتحقيق
مكاسب سياسية داخلية. فكل وزير يحاول توظيف ثقله الحكومي في الدفع عن بناء مزيد من
المستوطنات أو تنفيذ مشاريع بنى تحتية تساعد على تجذير المشروع الاستيطاني.
وإن كان هذا لا يكفي، فأن المشكلة الكبرى تكمن في حقيقة أن بوتين يعكف على تهيئة
الظروف أمام انعقاد لقاء موسكو، في الوقت الذي أعلن وزير الحرب الصهيوني أفيغدور
ليبرمان أنه شرع فعلا في الدفع نحو تشكيل قيادة بديلة عن قيادة السلطة الفلسطينية.
أي أن بوتين يريد استنساخ فكرة "روابط القرى" التي شكلها رئيس الوزراء الأسبق أرئيل
شارون عندما كان وزيرا للحرب عام 1981، والتي كانت مجرد إطار عميل للكيان الصهيوي.
قصارى القول، في حال تمكن بوتين بمساعدة السيسي في تنظيم لقاء يجمع عباس ونتنياهو
في موسكو، فأن هذا لا يعني فقط مساعدة إسرائيل على قبر المبادرة الفرنسية التي تخشى
تل أبيب أن تفضي إلى عزلتها دوليا، بل أنها تعني أيضا أن السلطة الفلسطينية تضفي
شرعية على مشاريع التهويد والاستيطان التي تعكف تل أبيب عليها حاليا.
وتبين بشكل لا يقبل التأويل أن الحماس الذي يبديه بوتين لخدمة الكيان الصهيوني لا
تحركه فقط رغبته في بناء شراكة إستراتيجية مع الصهاينة، بل أن هذا الحماس مرتبط
بتأثر بوتين بقوة الكيان الصهيوني الناعمة.
فقد فوجئ الحضور في المؤتمر الذي نظمه قبل ثلاثة أشهر "مجلس التاريخ" الروسي في
موسكو من هوية "القدوة" التي طالب بوتين، المتحدث الرئيس في المؤتمر، الروس باقتفاء
أثرها والسير على "هُدى" تجربتها "الناجحة" التي تمثلت في تحقيق "تفوق نوعي" في
الكثير من المجالات.
فلم تكن تلك "القدوة" سوى الكيان الصهيوني، التي عزا بوتين "نجاحاته الباهرة" إلى
حرص الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية على "استخلاص العبر" من تاريخ اليهود القديم
والحديث.
وبغض النظر عن وجاهة التفسير الذي ساقه بوتين لسبر أغوار التجربة الإسرائيلية، كما
روت ذلك الكاتبة اليهودية بشكل عابر في مقال نشرته معاريف بتاريخ 1-7، فأن ما صدر
عنه يشي بطابع الاعتبارات التي تحرك حماسه لبناء شراكة إستراتيجية مع الكيان
الصهيوني تتوثق باستمرار.