خطر العنوسة في العالم العربي.. الأسباب والحلول
"عانس".. لفظة ثقيلة على النفس، ترفضها الكثيرات باعتبارها امتهانًا للمرأة، ومصادرة على مستقبلها، وتقبلها على مضض أخريات لا يجدن مفرًا منها وقد خبت جذوة الأمل في قلوبهن.
وبعيدًا عن رفض اللفظ أو قبوله أو تعديله، فإن الإحصائيات تطالعنا بأرقامٍ خطيرةٍ بل مفزعةٍ، تجعل من "العنوسة"، أو "تاخر زواج المرأة" ظاهرةً مخيفةً تستوجب الدراسة، والبحث، والتصدي لها.
·أرقام مخيفة
في مصر أظهرت دراسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن عدد من وصلوا إلى سن الخامسة والثلاثين دون زواج وصل إلى تسعة ملايين شخص، منهم ما يزيد على ثلاثة ملايين امرأة، وستة ملايين رجل.
كما أوضحت إحصائية وزارة التخطيط السعودية أن عدد النساء اللاتي بلغن الثلاثين دون زواج وصل إلى مليون و90 ألف.
ووفقا للإحصائيات الرسمية الجزائرية فإن نسبة النساء العازبات وصلت إلى 51% من إجمالي عدد النساء، من بينهم أربعة ملايين فتاة لم يتزوجن رغم تجاوزهن الرابعة والثلاثين عاماً.
وأوضحت الدراسة التى أعدها أستاذ علم الاجتماع الأردنى الدكتور إسماعيل الزيود بعنوان (واقع العنوسة فى العالم العربى) أن 50 % من الشباب السورى عازبون، و60 % من الفتيات السوريات عازبات، وبذلك تكون النسبة الكلية في الأردن نحو 55% ممن بلغوا سن الزواج.
وفي نفس السياق فإن نسبة العازبين بلغت 20% في كلٍّ من السودان والصومال، وفي العراق 85 % ممن بلغن سن الزواج وتجاوز عمرهن الخامسة والثلاثين بسبب العيش في ظل الاحتلال .
وأظهرت الدراسة أن نسبة العازبات في البحرين أكثر من 20%، وفي الكويت 30%، وأن 35% من الفتيات في كل من الكويت وقطر والبحرين والإمارات بلغن مرحلة العنوسة أو (اليأس من الزواج)، وانخفضت هذه النسبة في كل من السعودية واليمن، بينما بلغت 20% في كل من السودان والصومال، وبلغت10% في كل من سلطنة عمان والمملكة المغربية، وكانت في أدنى مستوياتها في فلسطين حيث لم تتجاوز فتاة واحدة من بين كل مائة فتاة.
·فصام ثقافي
بداية تشير الأستاذة "تهاني عبد الحميد" ( مستشارة نفسية وداعية) إلى الأسباب العميقة لانتشار العنوسة في العالم العربي، وتقول إن السبب الرئيسي وراء انتشار هذه الظاهرة هو وقوع المجتمعات العربية في حالة من الفصام الثقافي الحاد، وذلك بعد أن تشبعت بمباديء وافدة وغريبة تُحقر من "الزواج المبكر"، وتعتبره مجازفة بصحة الفتاة، وإهدارًا لحريتها.
وتضيف قائلةً: لقد شهدت القرون الأخيرة انبهارًا ثقافيًا بالغرب، وأصبح من المعتاد أن نعالج الخلل في مجتمعاتنا وفق منظورٍ غربيٍ، فإذا كان البعض يزوج فتاة صغيرة وغير صالحة للزواج، ويجبرها أحيانًا عليه، فإن علاج هذه الأخطاء لم يتم وفق المنهج الإسلامي، بل جاء محمولاً على رياح غربية تشنع من الزواج المبكر للجنسين، وتعتبره انتهاكًا لحق الفتية والفتيات في حياة اللهو والتجريب.
وتؤكد أ/ "تهاني" على أن الكثير من المسلمين تشبعوا وجدانيًا بتأخير سن الزواج، واقتنعوا بأن الزواج المبكر "أضحوكة" لأنه زواج أطفال، ولكنهم لم يتنبهوا للمأزق الذي وقعوا فيه؛ فالغرب يسمح لهؤلاء الصغار -زعما- بحرية جنسية، بل إنه يفتح الباب على مصراعيه أمام اجتماع الرجل والمرأة في إطار اجتماعي غير الزواج وهو ما يعرف إسلاميًا بـ"اتخاذ الأخدان"، ويعتبر من الزواج أمرًا اختياريًا لمن اختبروا حياة الأزواج سنينا.
وتردف: ولكن المسلمين لديهم حدود دينية، وموروثات ثقافية، وطبيعة مجتمعية، تمنعهم دون هذا التفلت المحموم، لذلك فإنهم وقعوا في فخ الفصام، ولم يكونوا قادرين على كلفة الفكرة الوافدة المشنعة على "الزواج المبكر" والتي للأسف تقبلوها، ربما أكثر من أصحابها -أحيانًا-.
· آراء الآنسات (الأسباب في عيونهن)
وحتى نتعرف على نظرة صاحبات المشكلة ممن تأخر زواجهن لهذه القضية، قمنا بالحديث مع عدد منهن.
اعتبرت المحامية "سمية ابراهيم"، 32 عاما، أن تأخر النضج الفكري والنفسي لدى الشباب المعاصر هو من أهم أسباب عنوسة المرأة.
وقالت "سمية" إن الشاب يظل معتبرًا نفسه طفلاً طوال فترة مراهقته، وينظر إلى نفسه كمراهق في فترة شبابه، فثمة مرحلة كاملة ضائعة في حياة شباب هذه الأيام إلا ما ندر، لذا فإنه لا يفكر في الزواج تفكيرًا جديًا إلا بعد تقدمه في السن.
وتضيف: لم يعد الزواج يحتل نفس مكانته القديمة وأهميته السامية لدى شباب اليوم، وذلك لضعف الإحساس بالمسئولية، بل الخوف والنفور منها، فالزواج لم يعد في حس الكثيرين سكنًا ومودة ورحمة، بل أصبح قيدًا وسياجًا.
أما "ريهام .ح"، طالبة بالفرقة الرابعة بكلية التجارة جامعة القاهرة، فرفضت إطلاق لقب (عانس) على المرأة التي تأخر زواجها، مؤكدةً على أن هذه الصورة يجب أن تتغير لان الفتاة لم تعد مهيئة للزواج في سن مبكرة لانها تواصل التعليم وتدخل الجامعة.
وتقول: كانوا قديما يعتبرون الفتاة إذا بلغت العشرين عانسا، فبأي منطق يتفق هذا التصور مع واقعنا اليوم؟ ولماذا نضع رقما وحدا عمريا أمام المرأة للحكم عليها، وتصنيفها؟
وتستدرك "ريهام" وليس معنى كلامي أنني أقلل من خطورة تأخر الزواج، ولكنني أرفض لقب عانس وتحديده بسن معينة، فأنا رغم أنني مازلت في أوائل العشرينات، إلا أنني خائفة أن يتاخر زواجي، أو ألا أتزوج أصلا.
وعن سر هذا الخوف، تقول الفتاة العشرينية: لقد تقدم لخطبتي العديد من الأشخاص الأكفاء، ولكن أهلي للأسف رفضوا لأسباب غير كافية، ففي البداية كان سبب الرفض هو أنني في بداية حياتي الجامعية، وقد يهدد الزواج حصولي على الشهادة، أما بعد ذلك فكانت التفاصيل المادية الباهظة هي كلمة السر وراء رفض المتقدم للخطبة.
وتعلق "ريهام" على طريقة أهلها قائلة: إنهم ينظرون إلى اللحظة الحالية وكوني في العشرين، وعلى قدر من الجمال، وكأن هذه اللحظة ستدوم، وكأن الخيارات ستظل متعددة، وجيدة، ولا يقدرون أن طريقتهم ربما تجعلني أقبل أي شخص في مستقبل أيامي.
وبمزيج من السخرية والألم قالت "فاطمة.ن"، 41 عاما، "أنا عانس رسمي"، والسبب هو الروايات العاطفية.
وأضافت: كنت قارئة نهمة للروايات العاطفية، وطوال سنين مراهقتي وشبابي كنت أبني أحلامًا رومانسية، وصورة لزوج المستقبل تشبه أبطال القصص، فرفضت الكثيرين من الأشخاص الأكفاء طلبًا للوهم، ولم يستطع أهلي إقناعي ولا إجباري، فمضى بي العمر أسيرة لقصور بنيتها فوق الماء.
وأردفت: كنت أرفض بشدة الزواج دون حب أو ما يسمونه (زواج الصالونات أو الزواج التقليدي) بل كنت أعتبره إهانة لي كفتاة متعلمة ومثقفة، ولكن أفكاري كانت خاطئة، فغالبية صديقاتي ومثيلاتي تزوجن في إطار الأسرة ثم وجدن الحب بعد الزواج والعشرة.
·(الزواج) حلم صعب المنال
يقول "محمد الدريني"، 30 عاما، عندما أفكر في الزواج أشعر أنني وسط البحر المالح، فقد مضت سنوات من عمري من الدراسة والعمل ، ولكنني لم أحقق شيئا يذكر من الناحية المالية يقربني من إمكانية تكوين أسرة.
ويضيف: أعتقد أن الناس قديمًا لم يكونوا يتعاملون مع الزواج بهذه الطريقة الغريبة، فالزواج كان إطارًا للحياة في عمر مبكر للفتى والفتاة، ومن خلال هذا الإطار، وفي ظل الزواج يحققان أهدافهما، وينجح الرجل، ويعمل ويبني نفسه، في حالة من الاستقرار النفسي والجسدي والاجتماعي.
ويستدرك قائلا: أما الآن فالزواج أصبح هو المنتهى، والحلم الذي يعمل المرء من أجله، فهو نهاية المطاف، وليس بداية الرحلة!!، فالفتيات وأهلهن لا يقبلن أن يشاطرن شابًا في أول حياته رحلة كفاحه، ولا يردن الاستمتاع بتحقيق النجاح، وإنما يسعين وراء تناول ثمرة جاهزة ومعلبة لم يشاركن في حصدها أو جنيها، وإذا لم يكن الشاب من أسرة غنية، أو يعثر على الكنز، فكيف سيلبي مطلب الشقة التمليك الواسعة، والسيارة الجديدة، قبل أن يتم الخمسين من عمره؟
واعتبر "الدريني" أن الطمع والمغالاة هما السببان الرئيسان وراء عنوسة البنات، وعزوبة الشباب.
أما الشاب محمد زياد -29 عامًا- فيقول: إن العديد من أصحابي لهم سلوكيات منحرفة ، بل ويعرضون علي أن أشاركهم في الخطيئة؛ لكنني ولله الحمد لم أفعل ، أريد أن أتزوج طلبًا للعفة؛ لذلك عرض والدي شقتنا التمليك للبيع حتى نستأجر شقتين في منطقة شعبية... كل هذا من أجل أن أتزوج -فأنا أكبر إخوتي الخمسة-.
·الاستقرار المادي شرط للزواج أم للعنوسة؟
وتعترف الدكتورة ش.م أنها صورة حية، ونموذج متكرر، لأحد أهم أسباب العنوسة وتعقيد الزواج، وهي تعتبر هذا الأمر حقًا من حقوقها.
فهي كأم لخمس بنات تتراوح أعمارهن بين السادسة والعشرين والخامسة والثلاثين "وجميعهن غير متزوجات أو مخطوبات" تدافع عن حقها في رفض العريس "غير الجاهز".
وتقول: لقد نجحت في تربية بناتي على أرقى مستوى، وتخرجن من كليات مرموقة، وحصلن على وظائف جيدة، فكيف ألقي بهن في زيجات لن تسعدهن؟!
ولكن الزيجات السعيدة من وجهة نظر هذه الأم تستند أساسا على فكرة "الراحة المالية"، حيث تؤكد على أنها غير متعنتة أبدا، وأن رفضها المتكرر للخاطبين ليس بسبب طلبها للكمال فهي تقبل عيوب كثيرة، ولكن العيب الذي لا تستطيع قبوله هو "عدم الثراء"، لأنه ـ وعلى حد تعبيرها ـ ( ما يعيبش الراجل غير جيبه).
·وللخاطبات رأي
ربما تكون مهنة "الخاطبة" بشكلها التقليدي القديم قد انقرضت في ظل ثورة الاتصالات، وشيوع مكاتب الزواج، ولكن الحاجة "نادية عبد الكريم" تؤكد على أنها خاطبة ولكن بصورة عصرية وتطوعية.
وتقول الحاجة نادية إنها في البداية لم تكن تقوم بدور الخاطبة عن وعي، وإنما نظرًا لتوسع علاقاتها الاجتماعية، نجحت في المساهمة في دلالة الأم على عريس مناسب لابنتها، أو عروسة لابنها، ومع الوقت قررت أن تنخرط في هذا الأمر بشكل أكبر في دائرة معارفها وصديقاتها، وأن تقوم بعملية تصنيف واختيار قبل أن توصل الأسرتين ببعضهما.
وألقت الخاطبة العصرية الضوء على سبب آخر للعنوسة من وجهة نظرها وهو " الشروط التعجيزية للشباب".
وأكدت على أنها رأت خلال عملها عجبًا من مطالب الشباب في زوجات المستقبل، حتى إنها كادت أن تتوقف عن الاستمرار من فرط يأسها وغضبها.
وتفسر "الحاجة نادية" هذا الأمر بقولها: يطلب بعض الشباب شروطًا شكلية تفصيلية تجعلني في حيرة من أمري، هل يريدون زوجات حقيقيات يشاركنهم الحياة، أم لوحات للعرض؟
وتضيف: أنا لا أعترض أبدًا على أن يشترط الشاب قدرًا من الجمال، أو القبول الشكلي فهذا حقه، ولكنني أتعجب من دقة المقاسات والألوان التي يطلبنها، والجواب دائما هو: "ربما أعثر على هذه الفتاة، ولكنني لا أعطي عليها ضمان عدة سنوات!!، فشكلها قد يتغير بعد الزواج والحمل والإنجاب".
واعتبرت أن من أهم أسباب العنوسة هو نزوع الشاب القادر على الزواج إلى الكمال في مطالبه، سواءًا من الناحية الشكلية، أو التعليمية، أو الاجتماعية، ولسان حاله يقول: " أنا شاب قادر ماليًا على الزواج وعملة نادرة فلأختر من أشاء".
كما عرجت على أمر آخر يصعب من إتمام عملية الزواج وهو "التشدد في أمور فرعية"، مثل قيمة الشبكة، وتفاصيل تجهيز منزل الزوجية، وترتيبات العرس، وهو الأمر الذي لا يقتصر على الأسر المتوسطة أو الفقيرة، وإنما أيضًا بين الأغنياء.
·التصدي لشبح العنوسة
ولا يمكن اختزال سبل مواجهة خطر العنوسة في سبيل واحد، بل يجب تكاتف أسباب التيسير، وإزالة العوائق الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعرفية أمام الزواج.
وتقول أ "تهاني عبد الحميد" إن بداية الحل تأتي انطلاقا من قول النبي صلى الله عليه وسلم (( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
وعلى الأم أن تربي ابنها وابنتها على السواء تربية مسئولة، وأن تعلمهم الاعتماد على النفس، وتهيأهم لحياة مستقلة، بعيدًا عن الحماية الزائدة، حتى يكونوا مؤهلين في السن الطبيعي لتحمل مسئولية الزواج.
وتضيف: الصورة ليست قاتمة، فهناك نماذج لآباء وأمهات اهتموا بالدين والخلق، ويسروا الزواج على الشباب، فأصبحوا بمثابة الأبناء لهم، ونعم الأزواج لبناتهن.
وأطلق مجموعة من الشباب والشابات حملة على الفيس بوك تحت شعار ( جوزونا) تهدف إلى القضاء على العادات التي تعقد الزواج.
وأسس بعض الشباب رابطة اجتماعية تابعة للحملة اسمها (رابطة كارهي النيش)، والنيش قطعة أثاث تحمل العديد من المقتنيات الباهظة،و غير الضرورية.
وفي رأي الباحث السعودي الدكتور "عبد الرحمن الصايغ" فإن "أزمة العنوسة" تحتاج إلى مشروع وطني للتصدي لها، ليس على المستوى المحلي وحده، بل على مستوى العالم العربي والإسلامي.
وأكد الباحث الاجتماعي في دراسته (الزواج من أجل الحياة) على أن القضاء على العنوسة يحتاج إلى حلول إجرائية واضحة، منتقدًا الدراسات التي تقتصر على نصائح عامة.
وترتكز فكرته على أن تقوم كل دولة عربية إسلامية تعاني من هذه المشكلة بتأسيس لجنة وطنية ترتبط بها لجان محلية في كل مدينة ومحافظة ومنطقة ريفية، تكون بمثابة أذرع اللجنة الوطنية التي تُفعل تنفيذ هذا المشروع، وأن يكون أعضاء تلك اللجان من القيادات الاجتماعية في مجتمعاتهم رجالا ونساء، ممن لهم تأثير وكلمة مسموعة في مجتمعهم المحلي، وممن عرفوا بالصلاح وحب الخير للمجتمع.
ويهدف المشروع إلى تحريك الآلاف من الرجال والنساء للتطوع من أجل الإسهام في حل أزمة العنوسة، من خلال أهداف واضحة وجداول أعمال ومهام محددة وواضحة ومخطط لها وحاصلة على الموافقة الرسمية.
وأوضح الصايغ أن أحد عوامل وجود حالات عنوسة في المجتمع السعودي هو قضية "تكافؤ النسب"، مطالبا بتدخل واعٍ في محاولة لتغيير مثل هذه الاتجاهات لدى الناس، مؤكدًا أنه بعد إنجاح المشروع لعدد من الحالات ـ ولو كانت قليلة ـ سيولِّد ذلك اتجاهاً إيجابيًا عند الشرائح الاجتماعية بتجاهل قضية تكافؤ النسب.
كما دعا إلى معاقبة كل من يتسبب في تصاعد أزمة العنوسة، موضحًا أن الهدف هو الوصول إلى تغير ثقافي منشود لحل الأزمة.