الخيارات الصعبة لحماس وفتح
لا يمكن الاسترسال في الحديث عن مستقبل القضية الفلسطينية دون التعريج على الواقع الحالي الذي تعيشه مكونات الشعب الفلسطيني الأساسية، والأصل فيها الشعب الفلسطيني والقطاع المدني الذي أضحى الآن أكثرَ صموداً من أي وقت مضى مع فقدانٍ كبيرٍ للثقة بالطبقة السياسية التي تمثله مثل السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير والحركة الوطنية الفلسطينية التي تعتبر حركتي فتح وحماس جناحيها.
فقدان الثقة الذي أظهرته هبَّة القدس الأخيرة أربك الحسابات الفلسطينية الداخلية أكثر من الكيان الصهيوني بمراحل؛ فقادة الأجهزة الأمنية الصهيونية يعلمون جيداً أن الصراع مع الفلسطينيين له بعده الديني الأكثر تأثيراً ويراهنون على الزمن لحسم هذا الصراع وهذا ما أكده في نوفمبر 2014م رئيس حزب "البيت اليهودي" نفتالي بينيت الذي قال لإذاعة الجيش: "إن عمليات القدس تدل على ضرورة التخلص من أوهام السلام، واعتبر أن كل البلاد تتبع للشعب اليهودي فقط". لكن بالنسبة للحالة الفلسطينية ففي الفترة الراهنة يحدث أمران جليان يقضيان على جهود 22 عاماً قضتها السلطة الفلسطينية في محاولة استجداء الكيان الصهيوني للحصول على اعتراف بوجودها.
الأمر الأول: أن تكتيكات المقاومة الجديدة التي سجلت هجمات بالسكاكين أو عمليات دعس أو غيرها من الأساليب توضح أن المبادرة في يد جيل غاضب من أداء السلطة الفلسطينية ويحمل الكثير من دوافع الانتقام من المحتل الصهيوني، وبذلك يتم التأكيد على أن حالات المقاومة الرئيسية لم تعد رهناً بإشارة الفصائل الفلسطينية كسابق عهدها؛ بل أضحت مبادرات شبابية ليس لها ضابط أو معيار.
الأمر الآخر: وهو أن قناع السلام الذي تسترت به الحكومات الصهيونية المتعاقبة قد تمت إزالته منذ صعود اليمين الصهيوني إلى سدة الحكم وأضحى صاحب القرار الغالب في الكنيست ومجلس الوزراء، وهذا يعكس أمراً واحداً مفاده أن مساعي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري التي يبذلها من خلال تنقله بين الأردن ورام الله وتل أبيب بهدف إنجاح مؤتمرٍ للسلام ستستضيفه مصر بالإضافة إلى جهود فرنسا لإحياء ملف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني لا يعدو أن يكون مجرد أوهام لتهدئة الشارع الفلسطيني الذي أضحى متمرداً على سلطة الأمر الواقع.
عدم جدية الاحتلال في تنفيذ وعوده بشأن تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية واستمراره في التضييق على الفلسطينيين حتى في الضفة المحتلة، جعل الشارع الفلسطيني داخلياً يتجه للتمرد على هذه الحالة، فمقابل الأمن الذي تقدمه السلطة للكيان الصهيوني لم يقدم الأخير شيئاً يذكر تقديراً لذلك؛ بل واصل بناء المستوطنات واقتحام المدن والقرى وقتل الأطفال على الحواجز في القدس والخليل ومدن الضفة وتنفيذ حملات اعتقال تنال العشرات، باختصار: زاد التعامل الأمني المباشر مع سكان الضفة المحتلة، وهذا الأمر يقلص من صلاحيات أجهزة أمن السلطة ويحولها إلى أداة تشبه جيش جنوب لبنان سابقاً، ويحد من أهمية وجودها.
انشغال الأطراف الإقليمية في الصراع العربي الإيراني أو السني الشيعي جزء من الأزمة الفلسطينية؛ فقد انخفض الاهتمام العربي بالقضية وهو ما سمح للكيان الصهيوني بالضغط على الفلسطينيين بشكل يقلص من طموحاتهم السياسية، كذلك الدور المصري الهامشي على المستوى الإقليمي وذهاب الحكومة المصرية بعيداً في مواقفها التي انقلبت على الشعب الفلسطيني وأضحت جزءاً من حالة التصالح العربي الصهيوني.
وكذلك الانقسام الحاد داخل حركة فتح الذي تشجعه الحكومة المصرية وبعض الأطراف العربية بدعم خليفة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس سواء كان محمد دحلان، أو التيار الجديد الذي بدأ يظهر في حركة فتح ويطالب بالأسير مروان البرغوثي بديلاً عن عباس، أو المساعي الأمريكية لدعم ماجد فرج بديلاً أو خليفة للرئيس محمود عباس. وهنا يجب التوضيح أن انقسام حركة فتح سببه عاملان: أولهما عدم قدرتها على التعاطي مع مسؤوليات السلطة الفلسطينية سواء على صعيد الانقسام الداخلي الفلسطيني، والآخر هو الفشل الذريع في ملف المفاوضات مع الكيان الصهيوني.
أيضاً في ظل تأرجح حركات المقاومة الفلسطينية حول خياراتها المحدودة بانتظار تغير الحالة الإقليمية، وانحسار دور السلطة الفلسطينية وتأثيرها على الساحة المحلية نتيجة الانقسام أو الضغط الصهيوني المستمر، أو عدم قيامها بدورها في الدفاع عن الشعب الفلسطيني واقتصار دورها على الجانب الخدماتي، وأخذ الحراك المقاوم ذو الطابع الشعبي زمام المبادرة لمقارعة الاحتلال، وانحسار تأثير المشهد الإقليمي على القضية الفلسطينية بسبب تغير اللاعبين واهتماماتهم، ووجود قضايا وصراعات جديدة في المنطقة أثرت على تدخلات اللاعبين الكبار... في ظل كل ذلك يبقى المسار الذي تتبعه الحكومة الصهيونية هو المسار الأكثر قدرة على الاستقرار باتجاه مزيد من الاستيطان وتقليص فرص نجاح أي مفاوضات وتهميش السلطة الفلسطينية والحد من دورها، خصوصاً مع فقدان الحكومة الصهيونية الأمل بوجود بديل داخل حركة فتح قد يحصل على إجماع شعبي يؤهله لإطالة أمد السلطة الفلسطينية للقيام بدورها الوظيفي، كذلك الأزمات الاقتصادية التي خلفتها أزمة اللاجئين في أوروبا وأزمة النفط وتأثيرها على تمويل السلطة كمشروع يضمن استمرار الاستقرار في الأراضي الفلسطينية.
وعلى غرار ما سبق فإن التنبؤ بمستقبل القضية الفلسطينية يبقى ذا بعدين: الأول متعلق بالتطورات الإقليمية التي لها دور كبير في التأثير على الواقع السياسي والأمني، سواء كان ذلك من خلال تغير المعادلة الحالية واتجاه الأمور نحو الاستقرار، ومن ثَمَّ تعود القضية الفلسطينية نحو الواجهة من جديد كونها بوصلة الصراع الحقيقية في المنطقة، أو استمرار تأزم التوتر في الملف السوري وانشغال الأطراف الدولية في تلك الأزمة. وفي الحالتين مع صعود اليمين الصهيوني وانحسار اهتمامات وتدخلات واشنطن واستفراد الحكومة الصهيونية بصناعة مستقبل السلطة الفلسطينية، فإن المؤشرات تدلل على أن تقليص نفوذ وصلاحيات السلطة هو الخيار الأفضل بالنسبة للكيان الصهيوني لإلغاء مسألة التفاوض نهائياً لا سيما أن الحكومة الصهيونية تجد مساندة لا نظير لها من قبل الحكومتين المصرية والأردنية، وتقومان بالدور الذي تقوم به السلطة من خلال الوصاية على المقدسات الإسلامية في القدس، أو كبح جماح المقاومة المسلحة المنطلقة من قطاع غزة.
في قطاع غزة مع تقلص الاحتضان العربي للمقاومة وعدم وجود داعم حقيقي وحاضن لمشروعها فإنها ستبقى ورقةً في يد المشروع الإيراني للتلويح به واستثماره لتعزيز تدخلات إيران في المنطقة، وفي ظل استمرار الحصار وتقلُّص إمكانيات حركة حماس والفصائل لا يستبعد أن تضطر حماس للتخلي عن مسؤولياتها المدنية والخدمية لا سيما في ظل عدم تجاوب السلطة الفلسطينية مع مقترحات الوحدة وآخرها محادثات الدوحة.
الرهان على المصالحة (التركية – الصهيونية) لتخفيف الحصار عن قطاع غزة يبقى ضرباً من الخيال لأن القيادة الصهيونية لن تقامر بمصالحها الأمنية وعلاقتها بالنظام المصري من أجل التصالح مع تركيا، فالفاتورة المالية الصهيونية تدفعها واشنطن والغرب لكن المصالح الأمنية في نظرها لا يمكن تعويضها، وهذا ما ظهر مؤخراً من خلال مطالبة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني في زيارته الأخيرة للبيت الأبيض، بزيادة المعونة المالية للكيان الصهيوني، كما أن تركيا تعمل حالياً ضد مصالح الكيان الصهيوني في سوريا من خلال تعزيز قوة الفصائل الإسلامية التي تعتبر في أيديولوجيتها معادية لوجود الكيان الصهيوني بالإضافة إلى سعي تركيا لإفشال مشروع الدولة الكردية الذي يعد طموحاً صهيونياً.