ثورة أهل اليمن وجدت لتبقى
11 فبراير هو يوم تأريخي ووطني بكل المقاييس سيظل عصياً علينا نسيانه؛ ففيه كسر الشعب حاجز الخوف والصمت وخرج ليعلنها ثورةً مدويةً في وجه الاستبداد والظلم، وفيه صمد الثوار والشعب صموداً أسطوريا لامثيل له في التاريخ اليمني المعاصر.
ثورة فبراير مثلت الفاصل الحقيقي لعهد بائد ظل يعربد ويعبث بالمقدرات ردحاً من الزمن. إذن 11 فبراير2011م وليد معاناة 33 عاماً ومكمل لما بدأه الآباء والأجداد المتمثل بالمشوار السبتمبري المجيد، ومن المشكاة نفسها التي انطلق منها، لذلك تحركت الأشباح البائدة في محاولة فاشلة لإخماد جذوة الانتفاضة الشعبية الشبابية السلمية، وسرعان ما أعلنت هزيمتها وعدم صمودها أمام صدور عارية وهديل حناجر الشباب المطالبة بالعدالة والحرية.
وفي الوقت الذي بدأ فيه الشبابُ يتذوق لذة التغيير ونشوة النصر تسللت لواذاً كثير من قوى الشر البائدة واستيقظت الخلايا النائمة لإعادة ترتيب أوراقها وكان لا بد لها من الانخراط في ثورة الشباب الشعبية السلمية والمطالبة بالعدالة والحرية تماشياً مع الرغبة الصادقة لباقي أبناء الشعب اليمني ولمزيد من التدليس والكيد الخفي؛ فقد استعاروا من منهج ولاية الفقيه ما يسمى (بالتقية)، فرفعوا شعار الوحدة بل تعدى الأمر إلى ادعاء الحفاظ على الجمهورية ونظامها الذي جاء على انقاض الحكم الملكي الإمامي.
كان هذا بعد أن أقنعتهم السنون بعدم فاعلية الدعوة للإمامة والملكية والرجوع بالشعب للوراء فامتثلوا القاعدة الشهيرة (لا مشاحة في الاصطلاح) فلا بأس بالدعوة والمطالبة بالجمهورية لإقناع الشعب وأبناء الثوار وكلِّ من ضحى بالغالي والنفيس لأجل الثورة ودحر الحكم الإمامي الكهنوتي المتخلف، ومن جهة أخرى تأسياً بجمهورية إيران وبالثورة الخمينية. وهكذا استمرت الحرب سجال بين شعب مقهور على أمره ويتطلع لمستقبل أفضل وبين الدولة العميقة التي سرعان ما غيرت جلدها كالحية وارتدت ثياب الجمهورية.
وبما أن ثورة الحادي عشر من فبراير هي امتداد طبيعي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر فإن الدولة العميقة هي مستمدة من الحكم الإمامي الزيدي حيث حكم الأئمة الزيود اليمن على نحو متصل منذ عام 1592م - 1000هـ إلى عام 1962م - 1382هـ، وقد حكموا اليمن على فترات متقطعة منذ منتصف القرن الثالث الهجري، واستطاعة الدولة العميقة بحكم طول فترتها أن تزيح من سدة الحكم خمسة حكام جمهوريين في أقل من 16 عاماً، ومنهم من كانت حياته ضحية هذه الدولة العميقة، حيث انتقلت السلطة من النظام الملكي (الأئمة الزيديين) إلى النظام الجمهوري عام 1962م بعد ثورة مسلحة قادها المشير عبد الله السلال بمساعدة مصر، وشهدت اليمن منذ ثورة 1962م اضطرابات وصراعات سياسية داخلية بين شطري اليمن.
وفي عام 1967 نُحي عبد الله السلال بالقوة عن طريق انقلاب سياسي وكوَّن مجلساً رئاسياً برئاسة عبد الرحمن الأرياني، وفي عام 1974 تمكن إبراهيم الحمدي من القيام بانقلاب عسكري عزل به عبد الرحمن الأرياني عن السلطة، وأعلن عن تشكيل مجلس عسكري للحكم، وفي عام 1977 دبر أحمد حسين الغشمي انقلاباً استولى به على السلطة بعد أن قُتل إبراهيم الحمدي. ولم يطل المقام بالغشمي إذ اغتيل في عام 1978، وانتخبت اللجنة الدستورية (الهيئة التشريعية) في السابع عشر من يوليو 1978م العقيد علي عبد الله صالح رئيساً للجمهورية، وهو الوحيد الذي استطاع أن يلعب على الحبلين ويجمع بين الملكيين والجمهوريين والزيود والشوافع والشيعة والسنة، وهو ما مكنه من الاستمرار في سدة الحكم 33 عاماً، ولعل الدولة العميقة المتمثلة بالمشروع الإمامي الزيدي هي رؤوس الثعابين التي كان يتحدث عنها على صالح أكثر من مرة بقوله إنه يحكم على رؤوس الثعابين.
وفي أثناء حكم صالح الذي اعتمد على إدارة البلد بالأزمات وإذكاء نار الصراعات حالفه الحظ فنجا عدة مرات من محاولات اغتيال فاشلة، وخلال هذه الفترة الطويلة استطاع التخلص من كثير من خصومة وكان آخرها الحروب العبثية الست في الشمال ضد من كان يسميهم بالرجعيين والكهنوتيين والإماميين ولكن سرعان ما كشفت الأيام أن غاية هذه الحروب هي التخلص ممن يمثلون عقبات كأداء أمام الدولة العميقة.
وبعد أن "بلغ السيل الزبى" وطفح الكيل وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبته رؤوس الثعابين ومن يتراقص عليها، لم يعد الشعب اليمني الكادح بوسعه أن يتحمل ذلك الفسادَ المتمثلَ بالاستئثار بالثروة والاستبداد في الحكم فخرج الشعب في انتفاضة سلمية عارمة مطالباً بالإصلاح وتلافي الأخطاء، غير أن منظومة الفساد المتراكم في الحكم جعل بعضهم يمدُّ بعضاً بالغي، وهو ما جعلهم يتعالون على صيحات الشباب والشيوخ والنساء والأطفال، والتي سرعان ما تحولت من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالتغيير واقتلاع الفاسدين.
وفي هذا الوقت رأت السلطة أن المراوغة لم تعد مُجدية فاستعاضت عنها بالقوة والقمع، وعندها أدركه الغرق وانتهى عهد توريث الحكم للأبناء والأحفاد واضطرهم الشعبُ إلى تسليم السلطة وانتقالها. وفي هذه المرة انتقلت إلى رجل شافعي سني من جنوب اليمن، ويعد هذا الانتقال الأول في تاريخ اليمن والحدث الأبرز في ثورة فبراير، وبحكم الوعي المجتمعي والشبابي والانفتاح المعلوماتي فإن ثورة فبراير جاءت لتدق المسمار الأخير في نعش الإمامة والكهنوت والعنصرية والتخلف؛ حيث أُبرزت هذه المشاريع للعيان بعدما ظلت تحكم من وراء الكواليس لسنين طويلة ذاق اليمنيون فيها الأمرين، كما أنها أظهرت الوجهَ القبيحَ لمن كانوا يتشدقون باسم الشعب وباسم الجمهورية، حيث أعلنوا سريعاً انحيازهم إلى القوى الظلامية والرجعية وتخندقوا معهم في خندق واحد ضد الشعب والوطن، وبكل صلافة وطيش صاروا يسخرون مقدرات البلد ومكتسباته للقتل والتدمير والسجن والاختطافات والإخفاء القسري واغتيال الأرواح البريئة والقضاء على كل ما هو جميل، وتمثَّل ذلك في الانقلاب على الشرعية الدستورية والسيطرة والسطو على مؤسسات الدولة ومنشآتها وعلى المعسكرات وعواصم المحافظات.
ومع كل هذه الوحشية فإن ثورة فبراير وُلدَت لتبقى، وانطلقت ولن توقفها قوة مهما كانت، وستستمر هذه الثورة ابتداء بتغيير السلطة وتحرير أعلى منصب في الدولة وتغيير الحكومة والقضاء على توريث الحكم، مروراً بعاصفة الحزم وعودة الشرعية وتحرير عدن وحضرموت وشبوة ولحج ومأرب والجوف وقريباً تعز وصنعاء وإب وصعدة وذمار وعمران وكافة المحافظات اليمنية.
وفي الختام نقول لكل المرجفين والمثبطين:
لن يوقف ثورة فبراير أولئك الذين انسلخوا من وطنيتهم كما ينسلخ الثعبان من جلده، ولا يعود إليه، فالحرية والكرامة مغروسة في أعماق كل يمني، ولا بد منهما مهما طال الزمن، وسيولدان عما قريب رغم المخاض العسير وستشرق شمس العدالة وستخفق راياتها في الأفق وفوق كل رابية شاؤوا أم أبوا، إنها حتمية الصراع وجدلية الوجود، وسيأتي اليوم الذي يعرف فيه العالم أن اليمنين أولو قوة وأولو بأس شديد.