الفصل العنصري في سوريا وأبعاده
لم يكن مكتوباً على الفلسطينيين الهجرةُ من أرضهم لو تم تقديم مساعدة عربية وإسلامية جديةٍ لهم لوأد المشروع الصهيوني منذ ولادته؛ لكن التخاذل العربي والإسلامي المتواطئ مع الصهيونية العالمية سمح للميليشيات التي كانت أعدادها بالمئات لِأن تصبح دولةً يهوديةً لها عمقها الكبير في العالم الغربي، وأضحت سرطاناً يهدد استقرار المنطقة ويشن الحروب على دولها بين فينة وأخرى... أخشى أن حوادثَ متتاليةً جرت في سوريا تبشِّر بتحقيق ما تحدث عنه الملك الأردني عبدالله الثاني خلال حديثه لصحيفة واشنطن بوست خلال ديسمبر 2004م عن نية إيران تكوين الهلال الشيعي من خلال السيطرة على بغداد ودمشق و بيروت.
من المسلَّم به أن المساعيَ السياسية لتحقيق استقرار في نظام الحكم اللبناني فشلت بسبب الميليشيات المسلحة الشيعية التي يديرها حزب الله، الذي يرفض التعاطي مع أي مبادرات سوى مبادرته في محاولة تهميش السنة في لبنان. كذلك منذ أن انسحب الاحتلال الأمريكي من العراق يسيطر أذناب إيران على صناعة القرار في بغداد، ومن آخر إنجازات إيران في العراق أنها أدخلت أكثر من نصف مليون إيراني إليه دون تأشيرة خلال الملايين الذين يعيشون في العراق منذ عقود في عملية تغيير ديمغرافي بشعة تجبر الملايين من أبناء العراق السنة على الخروج من أرضهم والرحيل منها تحت القمع والترهيب والقصف والتهميش.
في سوريا بدأ المسلسل من خلال عمليات قمع ممنهَجة استغلت خلالها القوى الظالمة على رأسها النظام السوري الحربَ على "الإرهاب" وتنظيم "داعش" لقصف أحياء المدنيين السنة، لإجبارهم على ترك منازلهم ومصالحهم على أمل أن يعود الهدوء بعد طرد الإرهابيين المزعومين؛ لكن لم يعِ هؤلاء البسطاء أن هذا المسلسل ابتدعه الغرب قديماً مع الشعب الفلسطيني الذي ما يزال ينتظر العودة منذ أكثر 67 عاماً.
تقول الأمم المتحدة إن عدد اللاجئين السوريين 4.2 مليون، ولكن الرقم يرتفع لما يقارب 5.3 مليون بحسب منظمات إنسانية. أما عدد النازحين فيتجاوز 6.5 مليون. وبحسب معهد واشنطن فإن التوزيع الديموغرافي للسكان خلال عام 2015م بلغ 61% للعرب السنة مقابل 16% للأكراد و 22% من الأقليات الدينية.
منذ بداية الغارات الروسية على الأراضي السورية بدأت تتذرع موسكو باستهداف مواقع تنظيم "داعش"؛ لكن الوقائع على الأرض تثبت أن المستهدَف الوحيد هم الثوار السنة والأحياء المدنية السنية، كان آخرها في 13 ديسمبر 2015م في دوما بالقرب من دمشق، حيث قُتل أكثر من 60 شخصاً بصواريخ وقنابل أُطلقت على مدارسَ وأسواقٍ بعيدة كل البعد عن "داعش".
الضربات الروسية أيضاً - التي جاءت بعد العجز الذي واجهه النظام السوري أمام الفصائل السنية المسلحة، وبداية هزيمة كانت تلوح في الأفق للميليشيات التي تسانده من العراق وإيران وحزب الله - استهدفت جبل التركمان في شمال اللاذقية، الأمر الذي استدعى تدخلاً تركياً من خلال تصريحات لرئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الذي اتهم موسكو بالمشاركة في تنفيذ عملية تطهير عرقي تستهدف التركمان السنة في اللاذقية.
كما استهدف القصف الروسي أيضاً منطقة اعزاز التي تقع شمال غرب سوريا، وكان هدفه قطع خطوط الإمداد عن جماعات ثورية سورية تقاتل الأسد حليف موسكو، ومن ثَمَّ يعود ذلك بالنفع على تنظيم "داعش" الذي - غالباً - ما يكون الذريعة لأي تدخُّل أو حملة عسكرية ينفذها الغرب أو حلفاء الأسد وإيران لتطهير سوريا من أهل السنة. ومسرحيات "داعش" كثيرة في سوريا، آخرها ما حصل في مطار كويرس العسكري الذي حاصره التنظيم عدة أشهر ثم انسحب وسلمه للنظام السوري.
من مسلسلات التهجير كذلك ما جرى في مدينة القصير بريف حمص منذ أكثر من عامين حيث تم تهجير آلاف السكان السنة وتسليمها لميليشيات حزب الله، وأقر عضو البرلمان اللبناني النائب معين المرعبي في تصريحات صحفية بوجود مطلوبين من الميليشيات الشيعية للحكومة اللبنانية في مدينة القصير وإقامتهم فيها. كما منعت ميليشيات حزب الله وقوات النظام السوري سكان القصير من العودة إليها.
وفي شهادة لأحد السكان نقلها موقع "سورية نت"، جاء فيها أن مجلس محافظة حمص التابع للنظام وضع تحذيرات على أبواب المحلات في السوق القديم في حمص القديمة تطالب أصحابها (الممنوعون المهجرون أصلاً) بالعودة إلى فتح محالِّهم، وإلا سيجري تسليمها إلى آخرين، ويقصَد بالآخرين هنا العلويون والشيعة.
هذا وقد بذلت إيران من خلال ميليشيات حزب الله جهوداً كبيرة للسيطرة على مناطق غرب سوريا، وخاضت مواجهات شرسة مع الفصائل السورية وجبهة النصرة بهدف خلق منطقة نفوذ مرتبطة بمنطقة نفوذ حزب الله في الجنوب اللبناني.
أما بالنسبة للعاصمة دمشق فقد عززت ميليشيات إيران وجودها من خلال بناء مزيد من الحسينيات وتعظيم مظاهر التشيع في المدينة، كما جلبت عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الذين جنستهم من الأفغان والباكستانيين والعراقيين وسمحت لهم بتملك العقارات في دمشق بغية تغيير تركيبة السكان في الأحياء الدمشقية.
لقد كانت هدنة حي الوعر في حمص آخر الشواهد على مسلسل التهجير السوري؛ فقد نص الاتفاق على خروج ثمان مائة شخص - معظمهم مدنيون، وبينهم نحو أربعين مصاباً، إضافة إلى ثلاث مائة مقاتل رافضين للهدنة - إلى شمال سوريا، وقبل ذلك كان اتفاق الزبداني، وكان المشروع الذي فشل ينص على "مبادلة أبناء الفوعة وكفريا الشيعيتين بسكان الزبداني السنة والنصارى".
وفي تصريح للمعارض السوري ميشال كيلو قال فيه: إن هناك مشروعاً لتهجير سكان غوطتي دمشق والقلمون من مناطقهم ويُستبدَل بهم آخرون من شمال سوريا، ومرتزقة لبنانيون وإيرانيون وأفغان.
في نهاية المطاف فإن المسعى الإيراني في سوريا الذي هو خطوة تتم بإرادة غربية كاملة، هدفها تمزيق العالم الإسلامي والعربي الذي يُعتَبَر حاضنة للإسلام السني لغايتين:
الأولى: تتمثل بأن بلاد الشام هي بوصلة العقيدة الإسلامية وبوصلة الصراع مع الغرب نظراً لمكانتها التاريخية والدينية.
والأمر الآخر: أن إبعاد المسلمين السنة عن حدود الكيان الصهيوني هو ضمانة لاستمرار وجود الكيان لأطول مدة زمنية ممكنة، كذلك ضمانةٌ لوقف الدعم المتدفق للمقاومة في فلسطين، وليس سوريا وحدَها من يعيش هذا المشروع؛ بل إن مصر كذلك من خلال تهجير سكان سيناء من على الحدود تمشي على خطى إيران في هذا المضمار...