دولة يهودية و ثقافة العبرية
طالي يهلوم/ "هآرتس"
إن اوري افنيري ينعى "تهويد الدولة العبرية" (هآرتس 10.8)، ويحن إلى الفترة التي كان فيها كل ما ينتمي إلى الاستيطان في البلاد يعتبر "عبريا"، وكل ما ينتمي الى الجاليات يعتبر "يهوديا".
صحيح أن الحركة الصهيونية كانت تطمح إلى خلق "يهودي جديد". شخص منتج ينشغل في العمل اليدوي، وليس في "العمل الهوائي"، أو في الدراسة الدينية. وكما يبدو فان إقامة دولة لليهود يحتم نفي الشتات، وكل ما يرتبط بنمط الحياة في الشتات.
لقد ارتبط خلق "اليهودي الجديد" أيضا، بالصراع ضد استخدام اللغات الأجنبية، كاليديشية والألمانية والروسية، ومن اجل إحياء اللغة العبرية. وهذا ما انشغل فيه أعضاء "كتيبة المدافعين عن اللغة في ارض إسرائيل"، الذين تخرجوا من الكلية العبرية "هرتسليا" في "تل أبيب". لقد غنوا في نشيدهم الوطني "أيها اليهودي تحدث بالعبرية" في محاولة لوضع حد لـ "بابل اللغات" في أول مدينة عبرية. اليوم أصبحت اللغة العبرية على كل لسان، بل يتم بذل الجهود للحفاظ على اللغات، مثل اليديشية، اللادينو، واللغات التي تحدث بها اليهود في الدول العربية (كالمغربية)، كجزء من الحفاظ على الثقافات الفريدة لمختلف الجاليات اليهودية.
صحيح أن الشبان الاشتراكيين الذين أقاموا " اسرائيل" رفضوا الديانة كجزء من "نفي الشتات"، بل فرضت الكيبوتسات صفات غير دينية بالذات، كتناول المأكولات الممنوعة في عيد الفصح، وتناول الطعام في يوم الغفران، لكنها لم ترفض تماما الثقافة والتقاليد اليهودية، خاصة وأن "الثقافة العبرية" لم تكن متطورة في حينه، والقليل الذي كان متوفرا منها، كان هشا أمام الثقافة اليهودية الغنية التي تولدت خلال مئات وآلاف السنين.
لقد آمن بيرل كتسنلسون، أحد قادة حركة العمل في الفترة التي سبقت قيام الدولة، بأن الانقطاع عن المصادر اليهودية سيقود بشكل حتمي إلى التراجع الروحي لحياة اليهود في عصرنا. كما أن كل الأعياد التي احتفل بها الاستيطان العامل، باستثناء يوم الاستقلال، كانت تقوم على التقاليد اليهودية. ولم تضف "الثقافة العبرية" أي أعياد للتقاليد العلمانية، باستثناء عيد الاستقلال و"الأول من ايار"، الذي لم يعد يحتفل فيه أحد اليوم.
لقد انشدوا في الكيبوتسات "هللويا" رغم أنهم لم يؤمنوا بالرب. وغنوا "الياهو هنبي، الياهو هتشبي" رغم أنهم لم يؤمنوا بالمسيح بن دافيد. وفي عيد الفصح غنوا في كثير من الكيبوتسات تصور خروج اليهود من مصر (الذي لحنه يهودا شريت)، وغنوا أيضا، "وهي التي وقفت" و"جدي واحد" و"أحد من يعرف".
حتى يوم العطلة الأسبوعي في الكيبوتسات كان يوم السبت، وليس مجرد يوم آخر في الأسبوع، وفي مساء السبت كانوا يجلسون حول الطاولات المغطاة بشراشف بيضاء، وأوقدوا الشموع وانشدوا أغاني السبت.
يبدو أن "الثقافة العبرية"، التي تستخف بكل ما هو يهودي (كما وصف ذلك افنيري في مقالته) كانت مجرد طبقة رفيعة، لم تصمد إلى ما بعد الجيل الأول من المستوطنين العلمانيين المتمردين. وبالفعل فإنها لم تكن كافية بالنسبة لأبناء الجيل الثاني في الكيبوتسات.
لقد بدأ الاهتمام باليهودية في الكيبوتسات في مطلع السبعينيات، وبدأت تظهر الكنس أيضا هناك، خاصة في كيبوتسات "اتحاد الكيبوتسات والمجموعات" (في دغانيا وافيكيم)، ومن ثم في كيبوتسات "الكيبوتس القطري – الحرس الفتي" (في ايالون ومرحافيا). ما الذي يرمز إلى ذلك أكثر من كون المرحومة شلوميت الوني، المحاربة الشجاعة ضد القهر الديني، طلبت دفنها حسب المراسم الدينية اليهودية.
صحيح أن غالبية الرواد الذين أقاموا "إسرائيل" كانوا علمانيين اشتراكيين من أوروبا الشرقية، ولكن "إسرائيل" لم تقم من أجلهم فقط، أو فقط كي تحقق الأفكار العلمانية والاشتراكية التي ازدهرت في أوروبا آنذاك. لقد أقيمت من أجل الشعب اليهودي، علمانيين ومتدينين واشكنازيين وشرقيين واشتراكيين ورأسماليين، ومن بين أسباب إقامتها، توفير حل للاسامية المزمنة، التي بدأت قبل فترة بعيدة من الكارثة، لكن قمتها الرهيبة كانت في الكارثة.
اليوم أيضا، لا يزال حوالي نصف الشعب اليهودي يعيش خارج "إسرائيل"، والكثير منهم (في فرنسا والسويد والدنمارك وبلجيكا وغيرها) يعانون من اللاسامية. "اسرائيل" اقيمت لتوفير ملاذ لهم، وهي البيت القومي والثقافي لكل اليهود الذين يريدون العيش فيها.