• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
النكبة والنكسة بين مقاومتين

النكبة والنكسة بين مقاومتين


مقاومتان، كلاهما حمل البندقية، لكنهما اختلفتا في الاستراتيجيات والأهداف والنضال اليومي، فأنتجتا مشروعين مختلفين؛ الأول مشروع تسوية ما زال يهذي، وأضاع الطريق من تحت قدميه، والثاني مشروع مقاومة، لا يجد بديلاً من الكفاح المسلّح للتحرير الكامل، لكنه يستخدم أدواته الأخرى في التعبئة والتثقيف، ولا يتجاهل المعاناة، مع يقينه بضرورة التضحيات لبلوغ الأهداف الموضوعة.

كذب أصحاب مشروع التسوية يوم قالوا للشعب بعد حرب الخليج، عند أبواب قصر الحمراء في مدريد، عام 1991، أنهم انخرطوا في التسوية لأن الأوضاع الدولية والإقليمية دفعتهم إلى هذا الخيار. فالاتحاد السوفياتي "صانع التوازن" قد انهار، وأصبح العالم ذا قطب واحد لا يخفي انحيازه للكيان الصهيوني. أما إقليمياً ققد انقطع الدعم المالي العربي، وأصبح الفلسطينيون مضطرين لمراعاة البيئة الإقليمية المستجدة، والتي تستعديهم بشكل أو بآخر! هكذا زعم رافعو شعار "يا وحدنا".

لا. البيئة الإقليمية كانت، تاريخياً، بمعظمها مناقضة لتطلعات الشعب الفلسطيني. لقد نسج الأمير عبد الله علاقات عميقة مع الكيان الصهيوني وقابل حاييم وايزمان، وكذلك قابل الأخير رئيس جمهورية لبنان إميل إده عام 1937. وعرض الرئيس السوري حسني الزعيم "السلام" مع الكيان الصهيوني عام 1949، وتوطين 300000 فلسطيني في بلده، ووضع خطة لتوطينهم في دير الزور. وكذلك فإن تبادل الرسائل بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر و"إسرائيل" لم يتوقف حتى عام 1956، وهو الرئيس الذي قال علناً لزعماء الفلسطينيين عام 1959 أنه "يكذب عليكم من يقول لكم إنه يملك خطة لتحرير فلسطين".

المنظمات والحركات الفدائية الفلسطينية قامت لتغيير هذا الواقع بالذات، واقع أن تمنع السلطات المصرية مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني أواخر عام 1948 من دخول غزة، وكذلك حكومة عموم فلسطين، التي مُنعت أيضاً من دخول غزة، وحضور جلسات الجامعة العربية. فدخلها عنوة أحمد الشقيري وجلس في الصف الأول بعد منعه من دخول القاعة. 

السعي إلى التسوية كان مبكراً جداً، ففي سنة 69 كانت "فتح" تتبنى رؤية دولة ديمقراطية يعيش فيها العرب واليهود. وفي عام 1973 كان السعي إلى المشاركة في مؤتمر تسوية على قدم وساق. وعام 1974 كان البرنامج المرحلي، ثم القبول بحضور منظمة التحرير الفلسطينية مؤتمر جنيف للسلام. لكن الرفض الأميركي كان حاضراً حين صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي "باي باي منظمة التحرير".

وبعدها تكررت اللقاءات مع قادة يساريين وغير يساريين في أوروبا. وكان قبول التسوية ليس حكراً على فصيل في عينه، بل اشتركت فيه فصائل عديدة. فكان المقال الشهير للأمين العام للجبهة الديمقراطية نايف حواتمة مخاطباً الإسرائيليين "تعالوا نحوّل السيوف إلى مناجل".

أما الأمين العام للصاعقة زهير محسن فصرّح بعد حرب 1973 بأنه "لم يعد مقبولاً من الأمة العربية ولا من الحركة الوطنية الفلسطينية أن تظل حبيسة التفكير الرومانتيكي. صار مطلوبا منها أن تحدد في أطر واقعية ماذا تريد". وفي مناسبة أخرى أخذ يقول: "من أجل أن تتجنب المنظمة الأخطاء الجسيمة لسنة 1948 وما بعدها، لا بد من أن تضع بناء السلطة الوطنية الفلسطينية في طليعة اهتماماتها".

وأكثر من ذلك صار البعض يرى الانتكاسات العسكرية خدمة للمسار السياسي الذي أصبح ينتهجه. ففي تعميم داخلي لحركة "فتح" عام 1972 ورد فيه "إننا ونحن نتراجع عسكرياً كنا ننتصر سياسياً". وفي العام نفسه كان قائدها ياسر عرفات يصرّح بأن "الثورة سلسلة من النكسات المؤقتة حتى النصر النهائي".

بخلاف ذلك كانت المقاومة المعاصرة، التي اكتشفت إرادة شعبها، وعوّلت عليها، بعد الله، فكان النصر تلو النصر. هذه المقاومة لم تتجاهل إمكانيات الشعب الإيمانية والتعليمية، وقدرته على التضحية والعطاء، واستطاعت تسخير كل ذلك في مشروع لا يستثني قرية أو مدينة فلسطينية من هدف التحرير. قادة المقاومة وأبناؤهم في مقدّمة الصفوف، فكان الشعب بكليّته مع خياراتهم، فقدّم النفس والمال في لتحقيقها.

من هنا جاءت حركة (حماس)، وفي هذه التربة ترعرع أبناؤها، وشهداؤها، وقادتها. فكانت الشهادة لديهم مطلباً وغاية. وكان رحيل أبنائهم عن هذه الدنيا، في أرض المعركة، شرفاً. ففي مدرسة الإسلام التي تربوا فيها للإنسان قدره، والتسليم بهذا القدر هو فكرة عليا في الإسلام. هل يمكن أن نتصور، لو أغفلنا عظمة هذه المدرسة، أمّاً كأم نضال فرحات، ترسل أولادها لنيل الشهادة الواحد تلو الآخر؟ إنها ثقافة الاستشهاد التي حرصت حركة (حماس) على نشرها في المجتمع الفلسطيني: للشهداء خلود نعيمهم، ولأهلهم وأحبائهم جزاء صبرهم، ولمجتمعم النصر والتمكين.

كانت المقاومة المعاصرة مصممة على تحقيق أهدافها، لكنها في الوقت نفسه واقعية وصادقة في التعامل مع شعبها، لذلك كان الصديق والعدوّ يصدّقان بياناتها. ولو رجعنا إلى عام 1969، فقد أعلن فصيل فلسطيني أنه أوقع 3500 إصابة بين الإسرائيليين، ودمّر 380 عربة عسكرية خلال عامين فقط. فصيل آخر زعم أنه نفّذ عملية على طول جبهة 60 كيلومتر سمّاها "تشي غيفارا". أما الفصيل الأكبر فقد زعم أنه حرّر منطقة الحمّة بأكملها، وهو عازم على نقل كل قواته إلى داخل فلسطين نتيجة هذا التحرير. بخلاف المقاومة المعاصرة، والتي تدرك أن الصراع قد يمتدّ إلى أجيال، وهي حريصة على نقل الوقائع كما هي، وكثيراً بالصوت والصـورة.

مقاومة من أجل تحقيق التسوية، إن وُجدت أصلاً، لن تجد من هو مستعدّ للتضحية من أجل مشروع واهم، على جزء بسيط من أرض محتلة. بينما عظيم مشروع المقاومة من أجل التحرير الكامل، مع توافر صدق القيادة، سيجد شعباً كاملاً، وأحراراً في العالم، مستعدّين لتضحيات يسيّرها صدق العزيمة.

أعلى