• - الموافق2024/11/29م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حرية الفكر والإبداع، وضوابطها في الشريعة الإسلامية

حرية الفكر والإبداع، وضوابطها في الشريعة الإسلامية

 


هل سألت نفسك يوماً، ما دام الله خلقنا لعبادته، فلماذا لم يجعل الفرائض الواجبة لا تنقطع على مدار اليوم والليلة؟، لماذا نجد الفرائض بعددها وبالوقت الذي تستغرقه قليلة مقارنة بالنوافل؟، ولماذا الفرائض والنوافل بمجموعها لا تُقارَن لقلتها مع المباح والمعفو عنه من حيث المساحة التي يشملها؟

لعل من حكم ذلك، أن تكون الفرائض الجبرية التي ليس للإنسان فيها إلا الامتثال قليلة، لتحقق قدراً من التسليم والعبودية في نفس المؤمن، ثم تفتح له المجال الواسع في اختيار ما يناسبه من النوافل، بكونها أكثر إصلاحاً لنفسه، وأجدى نفعاً للناس، وأدوم في الأثر، ويبقى الباب مفتوحاً له في المباحات، يتنقل في حقلها كما شاء ما دام طائعاً لله، لم يقصر في حقه، ولا يسرف في تعاطيها، يبدع في شؤون حياته، ويتفنن في تنظيم معاملاته، ويكون حراً في فكره وسيره.

إن بعض أهل العلم يقْصر حرية الفكر على الاعتقاد فحسب، ويحارب الداعين إلى هذا المصطلح؛ ظناً منه أن تلك الدعوة تقود إلى الإلحاد والزندقة، ومخالفة قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

ما نؤمن به إيماناً جازماً أن الإسلام هو الدين الحق المرضي عند الله عز وجل، أما الأديان الأخرى فهي إما سماوية تطرق إليها التحريف، أو بشرية يعتريها النقص والتناقض والخلل، ومع هذا فإن الله عز وجل بين أن اختيارهم لن يكون مقبولاً عنده في الآخرة، أما في الدنيا فليس عليك حسابهم، فالناس لهم إرادتهم، وهم مسؤولون عن نتائج كسبهم، فجعل سبحانه من أهم المبادئ الرافعة للإسلام أنه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] الدين الذي يعد الأقدس والأغلى والأهم لا إكراه فيه، فهل يكون ما دونه في الأهمية والأولوية فيه إكراه وإجبار؟!، وهل منحنا له حرية الاختيار ولو أدى إلى اعتناقه غير الإسلام معناه شرعنة اختياره، وفعله؟!

حسبك أن تعلم أن غاية المقيد أن يكسر قيده، وعليه فإن الله سبحانه أراح الإنسان من تبعات هذا الجهد عندما خلقه حراً، وبقي أمامه إعمال العقل آلة التفكير، ورفع الحجب عنه؛ لينطلق في الأرض متفكراً في عظيم خلقه، ومتلمساً للطيف الآيات التي خلقها بديع السماوات والأرض، وحتى تؤدي حريتك في التفكر إلى الإبداع المحمود، أقترح عليك الضوابط التالية:

أولاً: اجعل تفكيرك فيما يقود إلى اليقين والاكتشاف، وحاذر أن يصل بك إلى التيه والتشكيك، فليس كل مشي تقدم إلى الأمام فقد يكون انتكاسةً إلى الخلف، وكم من سائر فقد الاتجاه، فكان كلما خطى خطوة ابتعد عن هدفه، فكلمة "فكر" إذا لم ننظمها وفق قواعد وأصول، وننتبه للمتقدم من أحرفها وللمتأخر، فإن تقدم حرف الكاف على الفاء يقلبها إلى "كفر"، فكن واقفاً خلف النص لا أمامه، ترى بمنظاره النقي، لا أن تجعله تابعاً لهواك، تراه من منظار فهمك، فالله سبحانه عندما أمرنا بقراءة الكون والأنفس والآيات قال: {اقْرَأْ}، ولم يجعلها مطلقة بل جعلها مقيدة {بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].

ثانياً: التفكير والإبداع والتجديد مرونة، لذلك لا تدخل على مضمون الثابت من عقائد وأخلاق وقواعد، وإنما تدخل على آلية توصيله، وطرق عرضه، وأسلوب طرحه، فهي قابلة للإبداع والتجديد والمواكبة، أما المتغير كالمستجدات في المعاملات والعوائد والأعراف، فإن المرونة تدخله مضموناً وأسلوباً، فقد جاء في الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» ، وهل يدخل التجديد على الدين؟ وما هو طبيعة هذا التجديد الذي يقوم بها من العجز إلى القدرة، ومن التخلف إلى النهضة؟ يدخل على دين الأمة لا على دين الله، يجدد لها دينها، أي فيما يتعلق بعلاقة الأمة بالدين، وطريقة طرحه، لا في جوهره ومضمونه.

ثالثاً: ليس كل جديد إبداع، كما أن كل قديم ليس بكاسد، فشرط الجديد أن يكون نافعاً، وخادماً للواقع، وليس مجرد اختراع لا جدوى منه، أو تنظيراً عبثياً من المحال تحويله إلى سلوك عملي، أو رغبةً في مخالفة المألوف لمجرد المخالفة، نريده أن يكون ذا رسالة، منبعثاً من الحاجة، فبعد المرور على القديم، وفهم مقاصده، وإدراك معانيه، واكتشاف غوامضه، وسبر نواقصه، يكون الجديد ثمرة ًللقديم، وبناءً على أساسه في ثوب جديد، وترميماً للقديم من غير استبدال، إلا إذا دعت الحاجة إلى تغيير الأساسات كاملة.

رابعاً: أن يصدر الإبداع والتجديد من أهله الذين يمتلكون نصاب الرشد، ويحيطون بطرف من العلوم والأصول التي يمكن للتجديد أن يقوم عليها، فقد جاء في الحديث:« يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ»، وكم هم الذين يدعون إلى الانخلاع عن القديم لمجرد قراءتهم كتاباً يدعو إلى التجديد، دون أن يسبق لهم قراءة ما يدعون إلى تغييره، فهم مقلدون لغيرهم في دعوتهم إلى الإبداع والتجديد، فاجعل فكرك الحر يعود إلى المعين الأول النقي في تلقي المعاني، وحاذر أن تكون أسيراً لأقوال الرجال، فطف بها، وتخير منها ما تجده أقرب صهراً بمعين النص.

خامساً وأخيراً: لا تدَّعِ امتلاك الجديد المطلقة، ولا تحتقر ما عند الآخرين، فوصولك للجديد ليس مسوغاً لتسفيهك القديم، فقديم اليوم جديد زمانه، وجديد اليوم قديم الغد، فهذه سنة كونية ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، ففوق كل حسن أحسن، وفوق كل علم عليم، ولا تتوقف مسيرة تقديم النموذج الأحسن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أعلى