• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
القدرة الكامنة

القدرة الكامنة


 

في داخل كل إنسان قدرة كامنة على النبوغ والإبداع في واحدة أو أكثر من صور العبقرية المختلفة, ولكنه غالباً ما يتلهى عن تلك الخيرات أو الثروات التي وهبها الله تعالى له, ويهدر عمره دون أن يكتشفها, أو يكتشفها فعلاً, ولكنه لا يُحسن استخدامها بالشكل المطلوب, وأحياناً يسيء استغلالها بشكل إجرامي. فما الذي يحفز قدراته تلك على الظهور, وما الذي يجعله يُحسن أو يسيء استخدامها؟ قد يكون الحافز حدثاً تاريخياً معيناً, يتفاعل معه بعض أصحاب الهمم العالية من معاصريه, وقد يكون بيئة صالحة مستقرة تشجع على استخراج تلك القدرات التي كان من الممكن أن تظل مدفونة في بيئة أخرى. فلو تأملنا في شخصيات مثل عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين, فهل كانت ستظهر عبقرياتهم القيادية والعسكرية والفقهية إن لم تظهر دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في زمنهم؟ ولو لم ينتشر العدل والأمان في ظل الخلافة الإسلامية, فهل ظهر بين رعاياها فقهاء وأطباء وعلماء غيروا التاريخ؟ وإلا, لماذا كان أغلب العباقرة في زمن الخلافة والدول الإسلامية القوية من المسلمين؟ بينما أغلب العباقرة الآن من دول الغرب؟ فهل كان المسلمين أذكياء ثم فقدوا ذكائهم على مر العصور؟ وهل حدث العكس مع الأوربيين؟ ولو كان الظلم والقمع لا يزالان منتشران في أوربا, فهل كان سيظهر فيهم نيوتن أو أديسون أو باستور أو فولتا أو غيرهم ممن غيروا عالمنا الحالي؟ هل كان ستيف جوبز عملاق آبل سينبغ في مجال الكمبيوتر لو اصطحبه والده عبد الفتاح الجندلي معه إلى سوريا, ولم يتبناه زوجان من كاليفورنيا؟ في سوريا كان سيكون هو ذات الشخص, ولن يتغير فيه شيء إلا احتفاظه باسمه الأصلي, ولكن هل كان من الممكن أن تتاح له هناك الفرصة للنبوغ؟ هل كان الطفل مبارك (ولاحقا باراك) سيصبح سياسياً محنكا ويصل إلى الرئاسة في بلده بسن مبكرة لو اصطحبه والده حسين أوباما معه إلى كينيا, ولم يتركه في أمريكا مع أمه وأبويها؟ ولكن, هل يعقل أنه في هذا الزمن ليس فينا أمثال الزهراوي أو ابن الهيثم أو ابن سينا أو الخوارزمي أو جابر بن حيان؟ (المقال لن يتسع لتعداد أسمائهم فقط, ناهيك عن صور عبقرياتهم, التي وصلت عند بعضهم إلى الجمع بين اختصاصات مختلفة كالفقه والطب والفلك الكيمياء والبصريات وغيرها) ناهيك عن أمثال عمر وخالد وسعد وعمرو وطلحة؟ بالطبع الحدث التاريخي العظيم أو البيئة الصالحة لهما أكبر الأثر في استخراج القدرات الكامنة, فقد كان من الممكن أن نرى الآن صورة باراك أوباما بين ضحايا الجوع في كينيا, أو نرى صورة ستيف جوبز بين ضحايا الحرب في الأزمة السورية. وربما ما كان العالم ليسمع أبداً عن نيوتن أو أديسون أو باستور أو فولتا, وأن تنتهي حياتهم كفلاحين أو عمال أو بائعين أو مدرسين دون أي أثر يُذكر, وكذلك قد يكون الحال بالنسبة للزهراوي أو ابن الهيثم أو ابن سينا أو الخوارزمي أو جابر بن حيان. كان من الممكن أن يظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه دلالاً (يسعى بين البائع والمشتري) ويمضي خالد بن الوليد رضي الله عنه ما بقي من حياته يتمتع بثروة والده ابن المغيرة دون عمل يُذكر, وقد يكتفي ابن عباس بوراثة السقاية عن أبيه بالإضافة إلى التجارة والإقراض بالربا. وكان يمكن يظل سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه يبري النبل, والزبير بن العوام رضي الله عنه خياطاً, وعمرو بن العاص رضي الله عنه جزاراً, وكان يمكن أن يمضي طلحة بن الزبير وعبد الرحمن بن عوف, بل وأبو بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين حياتهم كلها بزازين (يبيعون القماش). ولكن جاء الإسلام فأخرج قدراتهم الكامنة, ثم ترسخت الدولة الإسلامية وامتلأت بالعدل والأمان فأخرجت قدرات من صاروا قادة وفقهاء وأطباء وعلماء غيروا عالمهم, وكذلك جاءت الثورة الصناعية في أوربا وأنهت جور الكنيسة وظلم الإقطاع, وأخرجت قدرات من صاروا قادة وعلماء ومخترعين غيروا عالمنا.

كل هذا صحيح, ولكن هل يعفينا ذلك من محاولة استخراج قدراتنا الكامنة لعدم توفر البيئة الصالحة؟!!! هل نتذرع بالقمع الذي نعانيه من أنظمتنا, وضربهم أرقاماً قياسية لأعلى نسبة من الدخل القومي العام على الإنفاق الأمني, وأقل نسبة على التعليم والبحث العلمي, وغيرها من أوجه الفساد؟ هل نمضي حياتنا ننتظر حدثاً تاريخياً مناسباً كظهور المهدي أو غيره دون أن نحرك ساكناً؟ كلا بالطبع. والأمثلة كثيرة لأناس غيروا بيئتهم تماماً بنبوغهم, ومنهم من صنع أحداثاً أثرت على العالم قروناً طويلة بعد وفاتهم. لن نتحدث هنا عن سيدهم وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم, فهذه المقالة لا تتطرق إلى الرسالات الإلهية, بل إلى القدرات البشرية الصرفة. وللأسف فإن أوضح مثال على ذلك ليس خيّراً, بل اجرامي تماماً, وهو جينكيز خان الذي لم يكن هناك ذكر للمغول قبله, فوحدهم وغزا بهم الأرض. ولم يكن نبوغه قياديا عسكرياً فحسب, كما يظن البعض, ولكنه كان فكرياً تشريعياً أيضاً, وترك لقومه قانون أو دستور "الياسا" (عُربت بـ الياسق أو الأحكام الملكية) الذي ظل خلفائه يحتكمون إليه في تنظيم امبراطوريتهم الواسعة (وصلت في أوجها إلى 22% من مساحة اليابسة في كرتنا الأرضية), بل ولاحقاً أُعجب فيه وحكم به بعض سلاطين وأمراء المسلمين للأسف الشديد. وما دمنا قد ذكرنا المغول وشرهم, فهناك مثال خيّر من أروع الأمثلة على موضوعنا كان المسئول عن دحرهم عن الشام بل ومنعهم من الوصول إلى مصر, وهو الملك المظفر سيف الدين قطز, الذي خسر ملك آبائه صغيراً, وبيع كالرقيق, ثم تدرج بالرتب العسكرية بين المماليك حتى استطاع يصل إلى حكم مصر في وقت كان الوضع السياسي الداخلي فيها متأزماً للغاية, (تتابع على حكمها سته ملوك في أقل من عشرة سنين, وكان هناك الكثير من المتنافسين الطامعين بحكمها), كما كان هناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بالبلاد من جراء الحملات الصليبية المتكررة، ومن جراء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جراء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي. فقام بتوحيد المماليك والتصالح مع الخصوم والمنافسين, وباع كل ما يملك, وصادر أملاك الأمراء قبل أن يفرض مزيداً من الضرائب على الشعب المُثقل, ثم توجه بجيشه إلى حرب المغول بالشام ولم ينتظر قدومهم إلى مصركما هددوا, فأوقع بهم هزيمة نكراء حمت الشام من خطرهم قرنين من الزمان, وفعل كل هذا في فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز عاماً واحداً. والأمثلة في هذا المضمار عديدة كالإسكندر الأكبر, الذي نشر الثقافة الهيلينية في أرجاء المعمورة, وجعل من مقدونيا الصغيرة سيدة العالم بلا منازع, بعد أن أخضع لحكمه البلقان وبلاد فارس وبلاد الشام ومصر وأسيا الصغرى ووصل إلى الهند, كل هذا في أقل من ثلاثة عشر عاماً, وكان يمكن أن يحقق أكثر لولا أن وافته المنية في الثانية والثلاثين من عمره. ولا ننسى الشيخ الجليل عبد الله بن ياسين الذي استدعاه أحد زعماء البربر (يحيى بن إبراهيم سيد جُدالة) ليعظ أهل قبيلته الغارقين في الفساد والفجور فصدوه وجادلوه، بل وضربوه حتى طردوه أخيراً, بعد أن هددوه بالقتل إن عاد, دون أن يستطع مضيفه أن يحميه خوفاً من تمردهم عليه. فتوغل الشيخ في الصحراء جهة الجنوب بعيداً عن المدن، حتى وصل إلى شمال السنغال حيث صنع رباطاً (خيمة) بسيطاً، وبعث برسالة إلى تلامذته يخبرهم فيها بمكانه، واستعداده لأن يتابع تعليم الإسلام لمن أراد منهم, فلحق به بضعة رجال حين علموا أنهم سيكونون هناك بمنأى عن طغاة قومهم, واستمروا بالازدياد حتى بلغ عددهم بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته إلى أكثر من ألف رجل على أفضل ما يكون من فهم الإسلام وفقه الواقع. فتوزّع هؤلاء الألف في قبائل صنهاجة، وأخذوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يعلمون الناس الخير ويعرفونهم أمور دينهم، فأخذت جماعتهم تزداد شيئًا فشيئًا. ثم يقتنع بفكرهم يحيى بن عمر, سيد قبيلة لمتونة, ويأمر قومه أن يدخلوا معه جميعاً في جماعة الشيخ عبد الله بن ياسين, ليرتفع عددها إلى سبعةَ آلافٍ في يوم وليلة. وتسيطر هذه الجماعة التي عُرفت بـ"المرابطين" على بلاد المغرب العربي وبعض دول أفريقيا, ثم تنقذ الأندلس وتؤخر سقوطها لأكثر من ثلاثة قرون. كل هذا بفعل شيخ واحد وأمير واحد. وتكاد تتكرر القصة ذاتها بتفاصيل مختلفة مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود, رحمهما الله. والأمثلة أكثر من أن تحصى على أفراد استغلوا قدراتهم الكامنة, فغيروا بيئتهم وأحياناً غيروا العالم كله, واستمر أثرهم لأجيال عديدة بعد وفاتهم. ولا يقتصر الأمر على الأصحاء, فالأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى لأناس شُلوا أو فقدوا أعضاء من أجسادهم أو إحدى حواسهم الرئيسية, ولكنهم لم يستسلموا لواقعهم واستخدموا قدراتهم الكامنة بشكل أفضل ممن لم تغني عنهم صحتهم شيئاً. منهم الشيخ المجاهد المقعد أحمد ياسين, وصاحبا السنن والحديث الترمذي الضرير, وأنس بن مالك الأبرص, وكان سيد التابعين عطاء بن أبي رباح، أسوداً، أعوراً، أفطساً، أشلاً، أعرجاً، ثم عمي بعد ذلك. وربما لا يعرف الكثيرون أن البرفيسور ستيفن هوكينج أشهر وأبرز علماء الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية على مستوى العالم, وصاحب النظريات الشهيرة والكتب التي سجلت أعلى الأرقام في المبيعات, مشلول بشكل شبه كامل. فقد أصيب بمرض التصلب الجانبي ALS وهو في الحادية والعشرين من عمره, وتوقع الأطباء آنذاك أنه لن يعيش أكثر من سنتين، إلا أنه جاهد المرض, ووصل حالياً إلى السبعين في عمره. ذلك المرض جعله مقعداً، ثم أصيب بالتهاب القصبة الهوائية, ولم يعد قادراً على الكلام إلا باستخدام صوت مولد إلكتروني، ثم وصل الشلل إلى جميع أطرافه, ولم يعد يتحكم إلا بعينيه وحركات محدودة برأسه, وبات مرتبطاً بنظام حاسوب خاص, متصل بكرسيه, يتلقى الأوامر عن طريق حركات العينين والرأس. وبهذه الحالة المؤلمة استطاع التفوق على أقرانه من علماء الفيزياء والرياضيات ويقدم للعالم دراسات ونظريات عديدة في علم الكون, والعلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية. ورغم أنه لا يستطيع أن القيام بأي حركة ولا حتى تعديل وضع نظارته، إلا أنه كثيراً ما يُشار إليه في المحافل العلمية باعتباره "سيد الكون". فهل لنا عذر بعد ذلك كله بالركون والدعة كأننا خُلقنا من أجل الطعام والشراب والنّوم والتناسل كما الأنعام بل أضل سبيلاً؟! ألسنا بشراً كالأوربيين, بل ونمتاز عنهم بأننا نرجو من الله ما لا يرجون؟ أليس لدينا الدين الذي ندرك به معنى الحياة في الأرض, والمُنقلب في الآخرة؟ كفانا شعوراً بالنقص وتعليق أخطائنا وتقصيرنا على شماعات الظروف السياسية والاقتصادية وتآمر الشرق والغرب, وليبدأ كل منا بنفسه, ينقب فيها عن قدراته الكامنة, ليرى ما يستطيع تقديمه لنصرة دين الله. كفانا استسلاماً وانتظاراً, فإن الله لا يغير ما بقوم, حتى يغيروا ما بأنفسهم.

أعلى