السد الضخم عند منابع النيل الأزرق غيّر موازين المعادلة، وفرض حقائق استراتيجية لا يمكن تجاوزها. إثيوبيا لم تعد دولة منبع ضعيفة تُستبعد من معادلة تقاسم المياه، بل باتت قوة تتحكم في الصمام الرئيس لشريان النيل
الافتتاح الرسمي لسدّ
النهضة الإثيوبي قبل أيام لم يكن مجرد حدث إنشائي عابر، بل لحظة مفصلية أعادت خلط
أوراق الجغرافيا والسياسة في حوض النيل، وأطلقت جدلاً تتقاطع فيه اعتبارات الأمن
القومي مع رهانات التنمية والطاقة، وثوابت السيادة مع هواجس العطش. ففي لحظة تدشين
السد، بدت أديس أبابا كمن يعلن انتقالها من هامش النفوذ إلى مركزه، فيما وجدت
القاهرة والخرطوم نفسيهما أمام واقع جديد يتجاوز كل حسابات الأمس. فهل يفتح هذا
السد باب تعاون إقليمي ظل مهملًا لعقود، أم يكرّس صراعًا مفتوحًا على شريان
الحياة؟، وهل تقوى الاتفاقات الدبلوماسية على احتواء صدمة الجغرافيا الجديدة، أم
أننا أمام مشهد يرسم بداية فصل أشد تعقيدًا في تاريخ النيل؟
افتتاح
السدّ.. لحظة الانكشاف
لم يكن التاسع من سبتمبر
2025م يومًا عاديًا في تاريخ إثيوبيا ولا في سجل نهر النيل، بل لحظة انكشاف كامل
لموازين القوى في المنطقة. فالمشهد الاحتفالي عند ضفاف النيل الأزرق، حيث تهافتت
عدسات الإعلام المحلي والدولي لرصد ابتسامات رئيس الوزراء آبي أحمد وخطابه المفعم
بالثقة، حمل رسائل أبعد بكثير من افتتاح مشروع هندسي ضخم. لقد بدا السدّ رمزًا
لإرادة سياسية كسرت قيود العزلة الاقتصادية والضغوط الخارجية، وأعلنت دخول إثيوبيا
نادي القوى المائية والإقليمية المؤثرة. إن اكتمال المشروع بعد أربعة عشر عامًا من
الجدل، والإنفاق الذي تجاوز خمس مليارات دولار، لم يكن نصرًا تقنيًا فحسب، بل
إعلانًا واضحًا بأن أديس أبابا استطاعت أن تموّل مشروعها بأموال أبنائها وبشراكات
انتقائية، متحررة من قيود المانحين التقليديين ومراكز القوة الدولية.
في المقابل، كان وقع
اللحظة على مصر والسودان مختلفًا تمامًا، إذ لم يبدُ السدّ مجرد صرح تنموي، بل صخرة
ثقيلة ألقيت في مجرى السياسة والاقتصاد والمياه معا. فقد جاء الافتتاح ليكشف حدود
الدبلوماسية التي استمرت سنوات دون أن تنتج اتفاقًا ملزمًا لإدارة الملء والتشغيل،
ويضع القاهرة والخرطوم أمام واقع جديد لم يعد فيه مجال للعودة إلى الوراء. ولعل
الانكشاف الحقيقي هنا ليس في افتتاح السد ذاته، بل في إدراك أن التوازنات التاريخية
التي حكمت حوض النيل منذ عقود لم تعد قائمة، وأن معادلة "المورد والتابع" قد انقلبت
لتفرض واقعًا مغايرًا عنوانه أن إثيوبيا باتت تتحكم في منبع النيل الأزرق، فيما
دولتا المجرى والمصب تراقبان وتنتظران ما سيصلهما من مياه.
المياه بين
الحق والهيمنة
منذ بدايات القرن العشرين،
تشكّل الوعي المائي في مصر والسودان على أساس اتفاقيات كرّست لهما النصيب الأكبر من
مياه النيل. فقد منحت اتفاقية 1929 القاهرة حق الاعتراض على أي مشروعات في دول
المنبع، بينما عزّزت اتفاقية 1959 مع الخرطوم هذا النفوذ بزيادة الحصة المصرية إلى
ما يقارب الثلثين من التدفقات السنوية. غير أن تلك الاتفاقيات، التي وُقّعت في ظل
النفوذ الاستعماري البريطاني، لم تحظَ باعتراف الدول الأخرى التي لم تكن طرفًا
فيها، وفي مقدمتها إثيوبيا. وهكذا ظلّ التباين القانوني والسياسي قائمًا لعقود، حتى
جاء افتتاح سد النهضة ليعيد هذه الخلافات إلى قلب المشهد، كاشفًا مدى هشاشة الأطر
القانونية القديمة أمام تحولات الواقع الجديد.
|
بافتتاح السد لم يترك لمصر والسودان ترف الانتظار أو مساحة المناورة
الواسعة، بل فرض عليهما التفكير في مزيج من الاستجابات القصيرة والطويلة
المدى، في ظل إدراك أن معادلة النيل قد أعيدت صياغتها جذريًا، |
منذ بدايات مشروع سد
النهضة، لم تتعامل مصر والسودان مع السدّ كمنشأة لتوليد الكهرباء بقدر ما نظرتا
إليه بوصفه تهديدًا مباشرًا لحقوقهما المائية التاريخية. فالقاهرة، التي تستمد أكثر
من 90% من احتياجاتها من مياه النيل، ترى في السد تهديدًا وجوديًا يمسّ شريان
حياتها الأساسي. أما الخرطوم، وعلى الرغم من تذبذب مواقفها بين الحذر والترقب، فقد
أبدت تخوفًا متصاعدًا من أن يؤثر تشغيل السد في توازن منظومتها المائية وسلامة
سدودها الداخلية. وفي مواجهة هذه المخاوف، تصرّ إثيوبيا على أن السد مشروع سيادي
بامتياز، وأن استثمارها في مياهها هو حق طبيعي طالما حُرِمَ منه شعبها لعقود، وأنه
ليس من العدل أن تُبنى تنمية مصر والسودان على حرمانها من استغلال منبع النيل
الأزرق الذي ينبع من أراضيها.
وفي قلب هذه المعادلة
تتجسد صورة تناقضية حادة، يمكن تلخيصها في هذه النقاط التي توضّح جوهر التباين:
* وعد التنمية الإثيوبي:
أديس أبابا تقدّم السد باعتباره مشروع القرن، بطاقة كهربائية تكفي لإضاءة ملايين
البيوت في الداخل، وتصدير الفائض إلى الجوار الأفريقي، بما يعزز مكانتها كقوة
إقليمية صاعدة.
* هاجس العطش المصري:
القاهرة ترى أن التحكم الإثيوبي المنفرد في تدفق المياه يضع مصيرها المائي رهينة
قرار سياسي خارجي، ويهدد أمنها القومي في وقت تتزايد فيه الضغوط السكانية
والاقتصادية.
* قلق السودان المزدوج:
الخرطوم تخشى أن تتحول فوائد السد المحتملة ـ كتقليل الفيضانات وتوفير كهرباء رخيصة
ـ إلى أعباء إذا تم التشغيل دون تنسيق، ما قد يضرّ بسدودها ويعطل خططها الزراعية.
الجديد هذه المرة ليس في
النصوص التاريخية والخلاف بشأنها، بل في الجغرافيا ذاتها. فالسد الضخم عند منابع
النيل الأزرق غيّر موازين المعادلة، فرض حقائق استراتيجية لا يمكن تجاوزها. إثيوبيا
لم تعد دولة منبع ضعيفة تُستبعد من معادلة تقاسم المياه، بل باتت قوة تتحكم في
الصمام الرئيس لشريان النيل. هذا التحول لم يقتصر على علاقاتها مع مصر والسودان، بل
امتد إلى رسم خريطة تحالفات جديدة في الإقليم، حيث وجدت دول مثل كينيا وتنزانيا
وأوغندا فرصة للانخراط في شبكة كهرباء إقليمية، فيما رأت قوى عربية وإقليمية أن
الصراع على النيل مرآة لتوازنات أوسع تتصل بالأمن الغذائي والمائي، وهو ما يفتح
الباب على مرحلة جيوسياسية جديدة، يُعاد فيها تعريف القوة في وادي النيل، وتُكتب
فيها معادلات النفوذ بلغة الكهرباء والمياه معًا.
خيارات مصر
والسودان
افتتاح السد لم يترك لمصر والسودان ترف الانتظار أو مساحة المناورة الواسعة، بل فرض
عليهما التفكير في مزيج من الاستجابات القصيرة والطويلة المدى، في ظل إدراك أن
معادلة النيل قد أعيدت صياغتها جذريًا،
وتبدو التحديات مباشرة وملموسة، وتتمثل في:
* على المدى القصير (من
عامٍ إلى عامين):
1- تقلبات في تدفقات النيل
إلى مصر وتهديد سلامة السدود السودانية: أي تغيّر أحادي في سلوك فتح أو تعبئة خزان
سد النهضة قد يولّد ذروة تدفق مفاجئة أو انخفاضًا مفاجئًا في الحصة المُرسلة إلى سد
الروصيرص وسدود السودان الأخرى، ما يعرّض البُنى التحتية والمجتمعات المحيطة لخطر
الفيضانات أو لانقطاع الإمداد في موسم الزراعة. سبب ذلك أن الروصيرص يقع بعد بضعة
كيلومترات من مصب النيل الأزرق وما فيه من اختلافات ارتفاعات صغيرة بين الخزانات.
2- تأثير فوري على الزراعة
والحصاد: القطاع الزراعي يعتمد على مواقيت تصريف دقيقة ستتعرّض لخلل في المواسم إذا
تأخرت أو نُقَصت الحصص المائية، ما يترجم بسرعة إلى خسائر إنتاجية واحتياجات
استيراد طارئة، خصوصًا في مصر حيث الري يعتمد إلى حد كبير على مياه النيل، هذا
التأثير يتفاقم إذا تزامن مع موسم جفاف أو قلة أمطار موسمية.
|
سيطرة إثيوبيا على خزانٍ عملاق ومولدات طاقة يجعلها تملك أداة ضغط تؤثر على
سياسات جيرانها — سواء بالتحكم في منسوب المياه أو باستخدام الكهرباء
كوسيلة تكامل/ابتزاز. |
3- ضغوط سياسية وشعبية
داخلية: ظهور نقص مائي أو تذبذب في الإمداد يؤدي إلى ارتفاع النبرة الشعبية
والسياسية ضد حكوماتٍ قد تُتَّهَم بالقصور في حماية شريان الحياة، ما يقيد هامش
المناورة الدبلوماسية ويعزز سياسات الردّ، التي تؤدي بالبلدين إلى ما هو أسوأ، سواء
مصر المستقرة، أو السودان التي تنهشها حربها الداخلية.
* على المدى المتوسط
(عامين إلى 7 أعوام):
1- انخفاض تدريجي في
مستويات بحيرة ناصر أو تغيّر نمط التخزين: فحتى لو خُصِصت سنوات التعبئة في أديس
أبابا، فالتوزيع الجديد للتخزين (زيادة سعة التخزين في المنبع بتراكم 74 مليار متر
مكعب في حوض السد) قد يُقلل من الفيضانات التي كانت تُعزَّز بها مخزون مصر
الاستراتيجي؛ ما يعني أن مصر قد تفقد مخزون ارتفاعات فيضان استعملته تقليدياً
لتجديد قواعدها المائية والريّ. هذا قد يترجم إلى تأثيرات على توليد الطاقة في
أسوان وإنتاج زراعي يتكيّف بمرور الوقت.
2- إضعاف الاحتياطات خلال
سنوات الجفاف المتتالية: في حال سنوات أمطار قليلة متتالية (وهي ظاهرة متوقعة أكثر
مع التغير المناخي)، يصبح ملء الخزان وإعادة التعبئة مسألة حسّاسة: سعي إثيوبيا
لاستئناف التوليد بالسرعة القصوى قد يتطلب تعبئة سريعة تطيل مدة الجفاف في
المصبّات. هذا السيناريو يضرب مرونة مصر والسودان في مواجهة شحّ الموارد.
* على المدى الطويل (أكثر
من 7 أعوام):
تحوّل ورقة المياه إلى
أداة نفوذ دائم:
سيطرة إثيوبيا على خزانٍ عملاق ومولدات طاقة يجعلها تملك أداة ضغط تؤثر على سياسات
جيرانها — سواء بالتحكم في منسوب المياه أو باستخدام الكهرباء كوسيلة تكامل/ابتزاز.
هذا يغير
طبيعة العلاقات من نزاع حول مشروع واحد إلى ترتيب نفوذ إقليمي جديد.
Reuters
تغيير اقتصادي-بيئي طويل
الأمد: فقدان الرواسب (الطمي) في مصبات السودان ومصر بسبب احتجازها خلف الخزان
سيغيّر خصوبة الأراضي على المدى الطويل، ما قد يستدعي استثمارات زراعية باهظة
لتعويض ذلك (أسمدة، نظم ري حديثة). بالمقابل، تقليل الطمي يطيل عمر سدودٍ في
السودان لكن يغيّر ديناميكية النهر.
تكاليف سياسية وأمنية:
استمرار الخلاف قد يدفع لتحالفات إقليمية جديدة أو تدخلات خارجية تؤسّس لمرحلة من
عدم الاستقرار الممتد الذي يتجاوز مسألة المياه إلى قضايا حدودية وأمنية وتجارية.
وأمام هذه التحديات،
تُطرَح أمام القاهرة والخرطوم خيارات متفاوتة الكلفة، منطقيًا لا يوجد حل سهل. كل
خيار يحمل كلفة ومخاطرة. لكن أفضل مسار هو الذي يجمع بين بندين متوازيين، وهما:
الضغط القانوني والدبلوماسي للحفاظ على الحقوق، والاستراتيجيات التقنية والاقتصادية
للتكيّف مع تقليل التعرض للجفاف، ويمكن تلخيص خيارات القاهرة والخرطوم في التالي:
* الدبلوماسية الصبورة:
السعي لإحياء مسار المفاوضات عبر الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، رغم أن
التجارب السابقة تكشف محدودية هذا المسار، وعدم جدواه.
* الضغط الإقليمي والدولي:
بناء تحالفات مع قوى عربية وأفريقية ودولية لإحاطة إثيوبيا بعزلة سياسية أو
اقتصادية، بما يجبرها على تقديم تنازلات، وهذا المسار أيضا لن يأتي بنتائج ملموسة،
لا سيما في ظل أن بعض الجهات الدولية والإقليمية كانت داعمة لبناء السد بالأساس،
ناهيك عن العلاقات المتزايدة لإثيوبيا وعمل حكومتها على تقوية وضعها الإقليمي..
* التعاون المشروط: الدخول
في ترتيبات جديدة، مثل شراء الكهرباء من إثيوبيا أو استثمارات زراعية مشتركة
ومشاريع تنموية في الداخل الإثيوبي، مقابل التزامات تشغيلية واضحة للسد.
* الملاذ الأخير: التفكير
في أدوات الردع غير الدبلوماسية، سواء عبر تحركات عسكرية مباشرة أو عبر عمليات غير
معلنة، وهو خيار محفوف بالمخاطر لكنه لا يغيب عن الحسابات الاستراتيجية.
الغد
المجهول
يظلّ المشهد مفتوحًا على
كل الاحتمالات؛ فسدّ النهضة، وقد أُزيح الستار عن تشغيله رسميّاً، لم ينهِ النزاع
بقدر ما نقله إلى مرحلة أكثر تعقيدًا، ما بين سيناريوهات تقوم على إدارة مشتركة قد
تُحوّل النيل الأزرق إلى مجال للتكامل الإقليمي، وأخرى تنزلق نحو تصعيد يهدّد أمن
المياه، وأمن الغذاء، وربما استقرار المنطقة برمّتها، يقف الجميع أمام منعطف تاريخي
لا سابقة له. فهل تستطيع القاهرة والخرطوم أن تفرضا معادلة توازن تضمن حقوقهما دون
الانجرار إلى مواجهة عسكرية؟، هل تنجح أديس أبابا في توظيف السد كرمز تنموي لا
كسلاح يضر بدولتي المجرى والمصب؟، أم أنّ الغد القريب يخفي صدامًا مؤجّلًا ستكون
كلفته أعلى بكثير مما يتصور الجميع؟