• - الموافق2025/09/11م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فقه الإحسان (الإحسان إلى الخلق)

أيها المسلمون: يمتد إحسان المؤمن إلى عموم المسلمين أحياء وأمواتا بالدعاء لهم، وأحياء بالنصح لهم، وعمل الخير لهم؛


الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، نحمده على ما هدانا وكفانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عليٌّ على خلقه بذاته وأسمائه وصفاته، قريب منهم بعلمه وقدرته وإحاطته، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستقيموا على أمره، وأحسنوا إلى خلقه؛ فإن الله تعالى مع المحسنين، ويحب المحسنين، وكتب الإحسان على كل شيء ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

أيها الناس: الإحسان أعلى مراتب الدين؛ فإن الدين إسلام وإيمان وإحسان، والإحسان هو «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. والإحسان إلى الخلق سبب لرضى الله تعالى عن العبد، وهو سبب لكل خير، وفيه دفع للشر عن العبد:

 وأولى الناس بالإحسان الوالدان: لأن الله تعالى جعلهما سبب وجود الولد في الدنيا، وربياه صغيرا؛ ولذا تكرر في القرآن الأمر بالإحسان إليهما ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23- 24]، وهي وصية الله تعالى لعباده ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8]، وفي آية أخرى ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [الأحقاف: 15]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ» رواه الشيخان.

وكذلك الإحسان لذوي القربى والرحم أمر الله تعالى به في القرآن الكريم، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90]، وفي آية أخرى ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: 26]، وأمر سبحانه أن نتقيه في أرحامنا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]. ومن الإحسان للقرابة صلتهم، وتفقد أحوالهم، والصبر على أذاهم، ومقابلة إساءتهم بالإحسان؛ وقطيعتهم بالصلة؛ لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» رواه مسلم. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» رواه البخاري.

وكذلك الإحسان للزوجات والأولاد؛ لقول الله تعالى ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» رواه الشيخان، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ونصَّ على الإحسان إليهن في حجة الوداع فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. والإحسان إلى الزوجة فيه إحسان لولدها؛ لأن الولد حين يرى والده يحسن إلى أمه يفرح بذلك، ويتطبع على الإحسان، ويتعلمه من والده، وهذا من الإحسان إلى الولد، وجامع الإحسان إلى الأولاد تعليمهم وتربيتهم على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وحجزهم عما يضرهم.

وكذلك الإحسان إلى المنصوص عليهم في قول الله تعالى ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 36]، فالإحسان إلى اليتامى بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، ورعاية مصالح دينهم ودنياهم. والإحسان إلى المساكين بسد خلتهم، ودفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه. والإحسان إلى الصاحب بمساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ» رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وابن السبيل هو: الغريب عن بلده، والإحسان إليه بتبليغه إلى مقصوده، وإكرامه وتأنيسه. وكذلك الإحسان إلى ما ملك من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم، وعدم تحميلهم ما يشق عليهم، وإعانتهم على ما يتحملون. وبطريق الأولى الإحسان إلى الخدم والعمال ومن هم تحت ولايته بإنصافهم، وإعطائهم حقوقهم، وعدم تحميلهم من العمل ما لا يطيقون. والإحسان إلى الجار منصوص عليه في الآية سواء كان قريبا أم أجنبيا. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» رواه مسلم، ومن الإحسان إليه إيصال الخير إليه، وكف الأذى عنه، قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ» رواه الشيخان.  وقال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» رواه أحمد.  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: كُنَّ مُحْسِنًا، قَالَ: كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: سَلْ جِيرَانَكَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّكَ مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِنَّ قَالُوا: إِنَّكَ مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ» رواه الحاكم وصححه عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

نسأل الله تعالى أن يدلنا على طرق الإحسان، وأن يفتح لنا أبوابه، وأن يبلغنا منازل المحسنين، إنه سميع قريب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: يمتد إحسان المؤمن إلى عموم المسلمين أحياء وأمواتا بالدعاء لهم، وأحياء بالنصح لهم، وعمل الخير لهم؛ على وفق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رواه مسلم.

بل يمتد إحسان المؤمن إلى الكافر بدعوته إلى الإسلام، والدعاء له بالهداية، ومحاولة إنقاذه من النار، ومجادلته في ذلك بالحسنى؛ ليقبل الدعوة ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: 46]، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لدوس فقال «اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ» ودعاء لأم أبي هريرة فقال: «اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ» فاستجيب له فيهم جميعا فاهتدوا.

ولا يزال المؤمن يبذل الإحسان للخلق حتى يوصف به؛ كما وصف الله تعالى يوسف عليه السلام بالإحسان ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22]، وقص السجينان على يوسف رؤاهم وقالا: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 36]، ووصفه إخوته بذلك قبل أن يعرفوه ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 78]، ولولا أنه كان كثير الإحسان إلى الخلق حتى عرف به لما لصق به وصف الإحسان.

وصلوا وسلموا على نبيكم....

 

أعلى