• - الموافق2025/06/17م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حمّى الانتخابات العراقية.. ساسةٌ يتصافحونَ ومجتمعٌ يتناحر

ولا يخفى على أحد أن هناك مناطق تُفرض فيها إرادة "البندقية" على الصناديق، ومناطق أخرى تُدار فيها العملية الانتخابية تحت هيمنة العشائر أو المال السياسي، فيما يغيب الضامن الحقيقي لأي عملية ديمقراطية حقيقية: القضاء المستقل الضامن للنزاهة والفيصل في الخروقات


في كل دورة انتخابية عراقية، تعود ذات المشاهد، بذات الوجوه تقريبًا، وبذات الخطابات التي تغيّر جلدها فقط لتناسب مقتضيات اللحظة، فيما الجوهر واحد: سباق محموم نحو السلطة ولا يحمل من الديمقراطية سوى اسمها، ومع اقتراب الانتخابات العراقية المزمع إجراؤها في شهر تشرين الثاني من هذا العام، ترتفع حرارة المشهد السياسي، وكأنها "حمّى" تصيب الجسد العراقي كل أربع سنوات، تفتك بأعصابه وتستنزف قواه، دون أن تمنحه لحظة شفاء أو بارقة أمل حقيقية.

فتُملأ الشوارع بصور المرشحين، وتُشغَل المنصات بالوعود الرنانة، ويُنفق المال السياسي ببذخ على الحملات التي تستغل الحاجة والفقر والجهل، فيما المواطن – المتفرج المرهق – يكتشف أنه مجرد رقم في معادلة لا قيمة لصوته فيها، فنتائج الانتخابات تُحسم قبل أن توضع صناديق الاقتراع، وتُرسم التحالفات في غرف مغلقة قبل أن تُدبّج الشعارات الانتخابية على جدران وشوارع المدن.

أما المحاصصة فهي القيد الثقيل وما تزال الطائفية والقومية هي العنوان العريض الذي يختزل العملية السياسية التي تأسست بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حتى بات المواطن يدرك أن هذه الانتخابات ما هي إلا حلقة جديدة في مسلسل توزيع الكعكة بين الكيانات المتنفذة في تلك العملية السياسية الغير متوازنة، فليس ثمة مشروع وطني جامع ولا برامج تُخضع للرقابة والمحاسبة، بل هنالك توافقات حزبية تُوزّع المناصب وفق نسب مئوية بين مكونات المذاهب والأعراق دون أن يُنظر إلى الكفاءة أو النزاهة.

ومن المؤسف أن هذا النظام القائم على المحاصصة أنتج أجيالاً من الساسة لا يرون في الدولة سوى وسيلة لتعظيم النفوذ والهيمنة لا لخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم وتوفير الخدمات لهم، ومهما تبدلت الشعارات وتنوعت الأسماء، تبقى المحاصصة الثابت الوحيد، ولذا تُدار من خلالها الوزارات كمغانم ويُصاغ بها مستقبل العراق بصفقات خفية لا صلة لها بإرادة الشعب ولا تطلعاتهم ولا حقهم في حياة حرة وكريمة.

وفي خضم هذا المعترك السياسي تجد نزاهةً مفقودة ومسرحيات متكررة فباتت الانتخابات أقرب إلى الطرفة السوداء، إذ فقدت مفوضية الانتخابات ثقة الشارع منذ زمن طويل، وصار هاجس التزوير جزءاً من التوقعات المسبقة، ابتداءً من شراء البطاقات الانتخابية إلى الضغط على الموظفين والنازحين، وصولًا إلى تدخل الفصائل المسلحة في بعض المناطق، كلها أدوات تُستخدم لضمان نتائج تخدم القوى المسيطرة، فانعدمت ثقة الناخب قبل حلول موعد الانتخابات.

ولا يخفى على أحد أن هناك مناطق تُفرض فيها إرادة "البندقية" على الصناديق، ومناطق أخرى تُدار فيها العملية الانتخابية تحت هيمنة العشائر أو المال السياسي، فيما يغيب الضامن الحقيقي لأي عملية ديمقراطية حقيقية: القضاء المستقل الضامن للنزاهة والفيصل في الخروقات.

أما أخطر ما في هذه "الحمّى الانتخابية" أنها لا تقتصر على أروقة السياسة، بل تمتد نارها إلى نسيج المجتمع نفسه، ففي وقت يُفترض أن تكون الانتخابات وسيلة لتهدئة الصراعات وبناء جسور الثقة، نجدها تحوّلت في العراق إلى مناسبة لتأجيج العصبيات وتمزيق وحدة الصف وتحشيد الشارع على أسس مناطقية أو مذهبية أو عشائرية.

ولذا يبدأ الصراع بين المرشحين على مقاعد البرلمان، لكنه سرعان ما يُنقل إلى جمهورهم، فتتشظى الأحياء والجامعات والمكونات والعشائر والمجتمع، ويتحول الخطاب إلى معركة كسر عظم، عندها ُتستدعى لغة التخوين والتشكيك وبيع الثوابت والقيم والمبادئ، ويُزرع في النفوس العداء والبغضاء، حتى ان الخلافات العائلية باتت تُغذّى أحيانًا على خلفيات انتخابية لها بداية وليس لها نهاية تقف عندها وتوأد الفتنة.

وحين تنتهي معركة الانتخابات، يُطوى الملف في صالونات السياسيين، ويتصافح الخصوم ويتقاسمون المقاعد في مناصب توافقية مبنية على التفاوض المصلحي، بينما تبقى الخصومات بين جمهورهم من الناس مستمرة ومملوءة بالضغائن والأحقاد والحزازيات، فيبقى المجتمع يعاني من الشقاق الذي خلّفته تلك المعارك الانتخابية المبنية على المصلحة الشخصية أو المصلحة الحزبية، دون أن يكترث أحد من السياسيين لجبر الخواطر أو ترميم ما تفتت من نسيج المجتمع.

أما المواطن العراقي البسيط فهو من ضحايا السياسة، فهو محاصرٌ بين الأمل والخديعة، ولذا أرهقته السنوات العجاف، وباقتراب السباق المحموم قبل موعد الاقتراع تجده يقف أمام هذه الجولة الجديدة من الانتخابات وهو محمّل بمرارة التجارب السابقة التي خيبت أماله وبددت أحلامه، ولا بد من إدراك الحقيقة: أن الوجوه تتغير قليلًا لكن السياسات لا تتبدل، والوعود تبقى حبرًا على لافتات سرعان ما تُزال بعد انتهاء الموسم الانتخابي ولا تعود الى الواجهة من جديد الا بعد مرور أربع سنوات أخرى، وعندها لا ينفع الندم.

وعلى هذا المفهوم وهذه القناعات أصبح كثير من الناس يتعاملون مع الانتخابات بوصفها مسرحية لا تعنيهم إلا من باب الحفاظ على التوازنات المكوناتيّة أو الحميّة لمن هو أقرب أو لدرء الشر على أقل تقدير، وكم من مواطن ذهب إلى صناديق الاقتراع تحت ضغط الحاجة أو الحميّة أو الخوف أو الطائفية، لا عن قناعة بمشروع وطني، ولا ثقة بمرشح يمتلك رؤية حقيقية للإصلاح!!

وفي كل مرة تنتهي الانتخابات العراقية بـ"تفاهم سياسي" يتصالح فيه الخصوم الكبار، وتُعاد صياغة التحالفات ويُشكَّل مجلس وزراء "يُمثّل المتفاهمين بعد نتائج الانتخابات" وتتوزع المناصب، لكن لا أحد يُحاسب على ما وعد به، ولا أحد يُسأل عن سوء الإدارة أو الفساد أو الانهيار المستمر في الخدمات والتعليم والصحة وغيرها.

ومن هنا لا بدّ من تصحيح المسار رغم هذا السواد الذي يشوب المشهد السياسي، فلا تزال هناك نوافذ للإصلاح والتغيير، لكنها لن تُفتح ما لم ينهض وعي جماهيري حقيقي يرفض أن يُستغفل مرة أخرى، ويعلو صوته بالمطالبة بـ "إصلاح جذري حقيقي" ولا يكتفي بتغيير الوجوه فقط أو تغيير مواقع المسؤولية، بل يضع اليد على الجرح النازف منذ ما يزيد على عقدين من الزمن: وهو إصلاح بنية النظام السياسي.

فلا معنى لأي انتخابات لا تُصحَّح فيها قواعد اللعبة، ولا جدوى من صندوق اقتراع تُدار في ظلال البنادق والمال، ولا كرامة لشعب لا يُنصت لصوته إلا في موسم الصراع على السلطة.

فالانتخابات قد تكون لحظة اختبار فعلي لشعب عانى من جحيم الويلات ردحا من الزمن، إمّا أن يستفيق لتصحيح المسار، أو تتكرر الدورة ذاتها من الوهم والانقسام والخديعة، وفي كل الأحوال، فإن التاريخ لن يرحم من يتسببون بتمزيق النسيج الاجتماعي، ولن يغفر لمن يتاجرون بآلام الناس ومصائبهم تحت شعار استعادة الحقوق أو شعار الخدمات أو شعار الديمقراطية.

 

أعلى