في زمنٍ تتسابق فيه الأمم نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، تختار بعض الحركات الرجوع إلى الإيديولوجيات المتطرفة لبناء سلطتها. إحدى أبرز هذه الظواهر ما نشهده اليوم في الهند، حيث يعانق فكر الهندوتفا نزعةً فاشيةً تُذكّر بالعصور المظلمة في أوروبا.
من الواقع الملموس أن الإيديولوجية الفاشية ظاهرة كبيرة واسعة النطاق مترامية الأطراف في الهند منذ الآونة الأخيرة، يُمثلها الهندوتفيون المتطرفون الشرسون، سواء كانوا في الحكومة ومجال السياسة أم في الأجهزة التعليمية، الإدارية، القضائية، الانتخابية، أم في القوات والميليشيات؛ في كل قطعة من قطاع الحكومة، النمط الفاشي مسيطر بشكل مباشر غير مسبوق.
ولا شك أن النظرية الفاشية تبلورت في عام 1922 في إيطاليا خلال حكم الدكتاتور بينيتو موسوليني (29 يوليو 1883 - 28 إبريل 1945)، ولكن تأثيراتها العدوانية المدمرة لم تكن محصورة في إيطاليا، بل تبنتها العديد من الحركات والبلدان التي كانت في طبيعتها الأنانية الجامحة، مندمجة بشكل طبيعي. ومن تلك الحركات حركة راشتريا سوايامسيفاك سانغ في الهند التي أسرعت إلى اعتناق النمط الفاشي، واتخاذ الأيديولوجية الفاشية جزءًا أساسيًا من بنيتها التركيبية، كأنها كانت في الانتظار إليها على حسك السعدان. ولم لا تشرأب أعناقها إلى النظرية الفاشية، لأن خلفية نشأة المنظمة في 27 سبتمبر/أيلول عام 1925 لم تكن إلا كبت أعدائها، والمجابهة لهم. ومن سوء حظ المسلمين في الهند أنها قد اتخذتهم أعداء لها حقيقيين، وصيدًا أزليًا لن ترتاح دون التقامهم.
توريد الإيديولوجية الفاشية إلى أوساط الهندوتفا
ومن ثَمّ، فإن هذه النظرية كيف تم تلقيحها وتطعيمها إلى نظرية الهندوتفا، لها خلفية بطلها وممثلها هندوتفي برهمني من الطبقات العليا من الهندوس، اسمه بالا كريشنا شيفرام مونجي (12 ديسمبر 1872 - 3 مارس 1948)، المشهور بـ B. S. Moonje. كان هذا الهندوتفي طبيبًا أتم دراسته الطبية في كلية غرانت الطبية في مدينة مومباي عام 1898، وارتبط أولًا بحزب المؤتمر الوطني عام 1907، ثم تخلى عنه، وانخرط في المهاسبها الهندوسية عام 1920، والتي كانت حركة مصحوبة بنظرية الهندوتفا، والتي لم تزل تصب الزيت على النار لإثارة أجواء عاصفة شديدة التوتر ضد المسلمين آنذاك في جميع البلاد، حتى عُيّن مونجي رئيسًا لها عام 1927، وبقي على هذا المنصب عشر سنوات، وفي عام 1937 سلّم منصب الرئاسة إلى سافاركار، المشهور بأبي الهندوتفا (1883-1966).
فكان مونجي هذا الذي قام بتلقيح الفاشية في الهندوتفا أول مرة عام 1931 عندما عاد بهذه النظرية المستبدة كمتاع طريف وسلاح قوي ينجز أمنيته، بعد جولته إلى أوروبا وعلى وجه الخصوص إيطاليا، حيث مكث فيها تسعة أيام منذ 15 مارس إلى 24 مارس. وفي إيطاليا زار العديد من المؤسسات التدريبية العسكرية، وفي روما عاصمة إيطاليا شهد في 19 مارس/آذار الكلية العسكرية، والمدرسة العسكرية المركزية، والأكاديمية الفاشية للتربية البدنية. ومن بين المؤسسات الهامة التي زارها كانت باليلا، والتي تُعد بمثابة مركز للسياسة الفاشية حيث يُدرّب الشباب على الإيديولوجية الفاشية.
وكان الحدث الأبرز خلال زيارته لإيطاليا لقاؤه مع موسوليني، وهذا في 19 مارس/آذار 1931 في الساعة الثالثة بعد الظهر. كما كتب مونجي في مذكراته، أن موسوليني ظل يتحدث معي نصف ساعة تقريبًا، وتشعبت أطراف الحديث.
كتبت مارزيا كاسولاري في مجلة إيكونوميك أن مونجي كان أول قومي هندوسي اتصل بالنظام الفاشي، وكان متأثرًا جدًا بالمنظمات الفاشية، حيث رأى فيها فرصة مواتية لعسكرة المجتمع الهندوسي من أجل محاربة التهديدات الداخلية والخارجية.
أشاد مونجي بأزياء وأساليب النشطاء الفاشيين، وقال: "لقد أذهلتني رؤية الأولاد والبنات بالزي العسكري"، وقال: "لم يكن من الممكن تصور أي شيء أفضل للتنظيم العسكري لإيطاليا، وحقًا أن فكرة الفاشية تبرز بغاية من الوضوح مفهوم الوحدة بين الناس".
ولما سأل موسوليني مونجي عن المؤسسات العسكرية: ما رأيك فيها؟ أجاب مونجي: "لقد أعجبت بهذا كثيرًا، إن كل أمة ناشئة ونامية تحتاج إلى مثل هذه المنظمات، والهند تحتاج إليها أكثر من غيرها من أجل نهضتها العسكرية، والهند ترغب في إعداد نفسها لتحمّل مسؤولية الدفاع عنها".
كتب مونجي في مذكراته: "لقد تأثرت كثيرًا بالمؤسسات المتواجدة في إيطاليا ورأيت أنشطتها بأم عيني بكل تفاصيلها"، وكتب أيضًا: "إن الهند والهندوس على وجه الخصوص بأمسّ حاجة إلى مثل هذه المؤسسات حتى يمكن صياغتهم عسكريًا في شكل جنود"، واستطرد قائلًا: "إننا لفي أشد حاجة إلى إنشاء مؤسسات لإعادة إحياء الهندوس عسكريًا، إن حركتنا راشتريا سوايام سيفاك سانغ في ناغبور تحت قيادة الدكتور هيدجوار هي من هذا النوع، وسوف أقضي بقية حياتي في تطوير وتوسيع نطاق هذه المنظمة".
كلية بهونسالا العسكرية
والواقع أن مونجي أوفى بوعده بتحسين التعليم العسكري في الهند. فبعد عودته من رحلته الأوروبية بدأ في الاتصال بكل أولئك الذين يمكنهم دعم فكرته لعسكرة المجتمع الهندوسي، وشرع في العمل على تأسيس "جمعية التعليم العسكري الهندية المركزية"، التي كان هدفها إنشاء مجتمع هندوسي متماسك لتحقيق التجنيد العسكري للهندوس وتأهيل الشباب الهندوسي. فأقام مدرسة بهونسالا العسكرية في عام 1937 في مدينة ناسك بولاية مهاراشترا.
وبحسب كاسولاري، إن هناك أوجه تشابه ملحوظة بين الفاشية وبين أساليب التدريب التي تتبعها منظمة آر إس إس. ووفقًا للأدبيات التي روجتها منظمة آر إس إس والمنظمات الأصولية الهندوسية الأخرى، فإن هيكل منظمة آر إس إس كان نتيجة لرؤية الدكتور هيدجوار (1 إبريل 1889 - 21 يونيو 1940) وعمله، وتجاربه الحركية السرية التي نالها خلال دراسته في مدينة كلكتا في فترة ما بين 1910 و1916. ومع ذلك، قد لعب مونجي دورًا حاسمًا في تشكيل المنظمة على غرار الخطوط الإيطالية الفاشية، فلا شك أن الفاشية أثرت تأثيرًا كبيرًا على المنظمات اليمينية الهندوسية في الهند.
أفكار مونجي المناهضة للمسلمين
كان مونجي يعتقد أن تصاعد عدد المسلمين في الهند يشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل الهندوس، وكان يعتبر الحكومة البريطانية في الهند في صالح الهندوس، بكونها كابحة لجماح المسلمين وتهميشهم. وكان لا يؤمن بالاتحاد بين الهندوس والمسلمين، بل كان يتصور الجهود المبذولة لتحقيق هذا الغرض عبثًا لا طائل تحته، وكان يقول إن من مقتضيات الوقت أن تُكرّس المحاولات لتوحيد صفوف الهندوس وتدريبهم تدريبًا عسكريًا.
وهكذا، كان يعتقد أن القومية والوطنية الهندوسية هي الوطنية الحقيقية التي تضمن إقامة الدولة الهندوسية وتتعهد بها بجدّ وصرامة. وقال مرة في خطابه في حفلة المهاسبا الهندوسية: "كما أن إنجلترا للإنجليز، وفرنسا للفرنسيين، وألمانيا للألمانيين، هكذا أن الهند مجرد الدولة الهندوسية للهندوس، ولا حق لأي شخص آخر أن يدّعي بأن الهند له وطن، فإن هذه الدعوى مرفوضة".
خلاصة القول
إن طبيعة الهند الديمقراطية ترفض النمط الفاشي للبلاد، ولكن مع الأسف الشديد، فإن النظرية الفاشية لا تزال تتقدم نحو الانتصارات الهائلة، والفوز الكاسح في الحملات الانتخابية وغيرها من المجالات الأخرى، وتسعى بخطى حثيثة نحو تنفيذ القوانين المضادة للأقليات، ولاسيما المسلمين، كما نُفّذ القانون المدني الموحّد حاليًا في بعض الولايات التي يحكم فيها حزب بهاراتيا جاناتا. والمسؤولية كلها ترجع إلى الأحزاب الديمقراطية التي تُخفق في منع سيول الفاشية بسبب استراتيجياتها الواهية الفاشلة.