مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، رأت إسرائيل في تمدد القوى الكردية المسلحة مثل وحدات حماية الشعب فرصة نادرة لإضعاف سوريا وإزاحة مركزيتها، ورغم أن الدعم العلني للأكراد جاء من الولايات المتحدة، فإن إسرائيل رأت فيهم حليفًا "وظيفيًا" في وجه خصومها الإقليميي
لم تذق سوريا الجديدة طعم الراحة منذ سقوط نظام الأسد البائد، فسرعان ما أخرجت
القوى الخارجية أدواتها الداخلية من هنا وهناك، سعيًا لتقسيم البلاد تارة ولإضعاف
الإدارة الجديدة وإرباكها قدر الإمكان تارة أخرى، لضمان عدم تقوية الجبهة الداخلية
للبلاد التي خرجت حديثًا من رحم نظام لطالما أتى على الأخضر واليابس.
وفي ظل هذا المشهد تقف تركيا من بعيد بمنظار يرصد كل شاردة وواردة لقراءة المشهد من
كافة زواياه ولفهم مخططات المتربصين في كافة الكمائن، ولِمَ العجب فالجميع يعلم أن
تركيا أصبحت الحليف الأقرب والأقوى لسوريا الجديدة الآن، وهي التي تسعى لعقد شراكات
من شأنها أن تساعد في إحياء سوريا التي ينتظرها كل سوري حر عاد إلى وطنه الذي اشتاق
إليه، وما بين المؤازرة والترقب تقف تركيا منتظرة الوقت الذي سيحين فيه تعزيز
الشراكة مع جارتها الحدودية؛ لتخطي عقبة عدم الاستقرار الداخلي ولضمان مزيد من
الرفاهية والأمان لكلا الدولتين والشعبين.
البداية من هنا
نظمت خلال الأيام الماضية قوى وأحزاب كردية سورية في مدينة "القامشلي" بمحافظة
الحسكة مؤتمرًا للحوار الوطني الكردي تحت عنوان "مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي"،
وقد شارك فيه أكثر من 400 شخصية سياسية من ممثلي الأحزاب الكردية في مقدمتها حزب
الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، كما شارك في المؤتمر قوات سوريا
الديمقراطية "قسد" وقيادات كردية من العراق وتركيا.
اللافت في هذا المؤتمر توقيته؛ لأنه جاء بعد الاتفاق الشهير بين الرئيس السوري
"أحمد الشرع" و"مظلوم عبدي" (زعيم تنظيم قسد) والذي قضى بدمج قسد في مؤسسات الدولة
السورية والتأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم، ثم نقض (عبدي) الاتفاق
رويدًا رويدًا عبر مواقف لقسد انتقدت الإعلان الدستوري الذي أعلنت عنه الإدارة
السورية، ثم تلاه رفض تشكيلة الحكومة السورية الجديدة بدعوى أنها لا تعكس التنوع
السوري.
|
يقوم الدور الإسرائيلي في سوريا منذ سقوط نظام الأسد على تأجيج التوترات
الطائفية داخل سوريا، وفي سبيل تحقيق ذلك تنتهج "تل أبيب" سياسة الفتن
كوسيلة للضغط على الدول المعادية لها |
شكّل المؤتمر في بعض تفاصيله ومخرجاته مصدر قلق للإدارة السورية، وهو قلق تشاركها
فيه تركيا بالطبع، ففي المقام الأول لم يكن المؤتمر "كرديًا سوريًا" خالصًا، حيث
كان البعد الكردي الإقليمي حاضرًا بشكل لافت في الحضور والكلمات الرئيسية بالمؤتمر،
وتحديدًا حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وممثل مسعود البارزاني من العراق، وحزب
"الديمقراطية ومساواة الشعوب" التركي (الذراع السياسي للأكراد في تركيا)، كما أن
مشاركة ممثلين عن أمريكا وفرنسا والتحالف الدولي منحت المؤتمر بعدًا دوليًا لا يروق
لكل من سوريا وتركيا بطبيعة الحال.
موقف الإدارة السورية
أصدرت الرئاسة السورية بيانًا للتعقيب على مخرجات المؤتمر، دعت عبره قسد للالتزام
بالاتفاق المبرم معها، وانتقدت ما أسمته محاولة فرض واقع (فيدرالي أو إدارة ذاتية)
دون توافق، وأكدت الرئاسة السورية على أن "وحدة سوريا أرضًا وشعبًا خط أحمر"، وأن
تجاوز ذلك يُعد خروجًا عن الصف الوطني ومساسًا بهوية سوريا الجديدة.
طبيعة العلاقة بين إسرائيل والأكراد
منذ ستينيات القرن الماضي، سعت إسرائيل إلى بناء علاقات سرية مع القوى الكردية،
خاصة في شمال العراق بقيادة "مصطفى البرزاني"، وذلك في إطار هدفها الإستراتيجي
بإضعاف الدول العربية المركزية، ودعمت تل أبيب الأكراد عسكريًا ولوجستيًا، عبر
وساطة إيرانية آنذاك، بهدف استنزاف العراق ومنعه من التحول إلى قوة إقليمية تهدد
أمنها، ولم تكن هذه العلاقة قائمة على دعم حق "تقرير المصير" بمفهومه التحرري، بل
على توظيف الأقليات القومية في خدمة مشروع إسرائيل الأمني، الذي يقوم على تفتيت
الدول المحيطة إلى وحدات إثنية قابلة للضبط.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، رأت إسرائيل في تمدد القوى الكردية المسلحة
مثل وحدات حماية الشعب فرصة نادرة لإضعاف سوريا وإزاحة مركزيتها، وربما دعم قيام
كيان كردي مستقل بحكم الأمر الواقع، ورغم أن الدعم العلني للأكراد جاء من الولايات
المتحدة، فإن إسرائيل رأت فيهم حليفًا "وظيفيًا" في وجه خصومها الإقليميين، دون أن
تترجم ذلك إلى اعتراف دبلوماسي أو سياسي.
ومرجع ذلك أن الأكراد في نظر إسرائيل ليس إلا "شريك دون دولة"، يمكن الاستفادة منه
ما دام يتقاطع مع أهدافها، والتخلي عنه عند تبدّل الشروط والظروف المحيطة، وبذلك
تشكل العلاقة بين الطرفين نموذجًا حيًا لتحالف الأقليات، حيث تُمنح الهوية مقابل
الوظيفة، وتُقدَّم الحماية مقابل الاستثمار في صنع الفوضى.
ومن هذا المنطلق تدعم إسرائيل الأكراد كـ"وظيفة إستراتيجية" لا كمبدأ سياسي، فكلما
تصادمت مصالحهم مع خصوم إسرائيل يصبح الأكراد "ورقة دعم" جيدة للغاية، وإذا تغيّر
السياق يمكن التنازل عنهم واستبدالهم بشريك جديد بكل سهولة.
سياسة إشاعة الفتن واستغلال الطائفية
تستغل إسرائيل هذه المرحلة وتعيش نوعًا من النشوة السياسية والعسكرية، ويستدل على
ذلك بتصريحات متكررة لنتنياهو حول إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط بما يخدم المصالح
الإسرائيلية، بما في ذلك تفكيك الدول المحيطة بها، وإبقاء دول الطوق مستنزفة
وضعيفة، وهو ما يصب في صالح الحلم التوسعي بإقامة "إسرائيل الكبرى".
ولذلك
يقوم الدور الإسرائيلي في سوريا منذ سقوط نظام الأسد على تأجيج التوترات الطائفية
داخل سوريا، وفي سبيل تحقيق ذلك تنتهج "تل أبيب" سياسة الفتن كوسيلة للضغط على
الدول المعادية لها،
ومن ضمن ذلك التحرك باتجاه الطائفة الدرزية، ومحاولة إضعاف تماسكها في سوريا، من
خلال شخصيات دينية مثل الشيخ "موفق طريف" (الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في
إسرائيل، ورئيس المجلس الديني الدرزي الأعلى)، وأيضًا الشيخ حكمت الهجري (الرئيس
الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا)، وهو الذي طالب بتدخل "إسرائيل والمجتمع
الدولي" لحماية طائفته من الإدارة السورية.
|
وفيما يتعلق بالوجود التركي في سوريا، فإسرائيل لا تريد التورط عسكريًا
معها في سوريا، كما أنها تخشى في الوقت ذاته من ترك الساحة بالكامل لأنقرة
التي تُعتبر حليفًا رئيسيًا للنظام السوري الجديد |
وبعد هذه المطالبة بالتدخل من الشيخ الهجري مثلًا، شن الجيش الإسرائيلي غارة جوية
على مشارف العاصمة السورية وصفها رئيس الوزراء "نتنياهو" بأنها "عملية تحذيرية" ضد
من أسماهم "متطرفين" حاولوا مهاجمة الدروز في بلدة صحنايا قرب دمشق، وقال إنها
بمثابة "رسالة حازمة" لإدارة سوريا الجديدة، مفادها بأن تل أبيب لن تسمح بإلحاق
الأذى بأبناء هذه الطائفة.
لطالما وظفت إسرائيل الأقليات في تنفيذ أجنداتها، وتسعى حاليًا إلى ربط دروز سوريا
ولبنان وفلسطين ضمن مشروع يخدم مصالحها في المنطقة، وواقع التدخل الإسرائيلي في
سوريا يعكس رغبة تل أبيب في أن تبقى سوريا منقسمة وضعيفة ومشغولة بصراعاتها
الداخلية، في ظل غياب أي ضغط عربي فاعل يمكن أن يردع هذا التدخل أو يحد من طموحاتها
التوسعية.
الموقف التركي من التطورات
مع تسارع هذه التطورات في سوريا خرجت تركيا عن صمتها لتعبر عن رفضها لهذه المخططات
التي تهدف لإضعاف سوريا وتقسيمها بناء على أهواء طائفية تحركها جهات خارجية، لتأتي
تصريحات الرئيس التركي كاشفة عن موقف بلاده من هذه التحركات التي تنذر بالخطر في
سوريا، فقال أردوغان صراحة ونصًا: "إن إسرائيل تريد نقل النار التي أشعلتها في
فلسطين ولبنان إلى سوريا، وبدأت بسفك الدماء في هذا البلد"، مشددًا على أن بلاده لن
تسمح بفرض أمر واقع في المنطقة، وأنها لن تقبل بأي محاولة لتهديد استقرار سوريا.
واعتبر الرئيس التركي أن الغارات الإسرائيلية على سوريا محاولة لتقويض المناخ
الإيجابي الذي بدأ مع الإدارة الجديدة في دمشق، وقد جاءت تصريحات أردوغان بعد شن
إسرائيل غارات على ريف دمشق، بذريعة منع عناصر الأمن السوري من الاعتداء على طائفة
"الدروز".
وفي معرض رده على مؤتمر الأكراد -الذي سبق الإشارة إليه- صرح أردوغان بأن مسألة
إقامة نظام فيدرالي (في سوريا) ليست أكثر من مجرد حلم بعيد المنال، وليس لها مكان
في الواقع السوري، مؤكدًا على أن تركيا لن تسمح بفرض الأمر الواقع في المنطقة، ولن
تسمح بأي مبادرة تهدد أو تعرض الاستقرار الدائم في سوريا والمنطقة للخطر، واختتم
أردوغان تصريحاته بالقول: "سنرد بطرق مختلفة على أي محاولة لجر جارتنا سوريا إلى
مستنقع جديد من عدم الاستقرار".
وبقراءة السياق العام للمشهد في ظل هذه التصريحات التركية المباشرة، فالمتوقع هو
عودة تلويح تركيا بالتدخل المباشر في حال أصرت قيادة "قسد" هي الأخرى على النكوص عن
الاتفاق ورفض الاندماج في مؤسسات الدولة، ما يعني احتمالية عودة العملية العسكرية
ضمن أحد خيارات تركيا المطروحة على الطاولة.
بالطبع لن يكون قرار عملية عسكرية جديدة في سوريا سهلًا على تركيا، خاصة في ظل
التطورات الأخيرة على مستوى ساحتها الداخلية، لكن ترى تركيا -في نهاية المطاف- أنها
أمام فرصة تاريخية لا ينبغي التفريط فيها وإلا ستجد نفسها أمام سيناريوهات من شأنها
الإضرار بها على المدى البعيد، كما أن تركيا تنظر لقرار سحب بعض القوات الأمريكية
من سوريا كعنصر ضغط إضافي على "قسد" سيصب في مصلحتها وفي مصلحة الإدارة السورية،
وهو بُعد جديد يدعم المؤشرات التي تجعل تركيا تحرص على اغتنام هذه الفرصة السانحة؛
لكبح جماح هذا التنظيم الذي يسعى لتحقيق أحلامه الانفصالية ولو على حساب تهديد
استقرار سوريا الداخلي وتهديد أمن تركيا القومي.
وفيما يتعلق بالوجود التركي في سوريا، فإسرائيل لا تريد التورط عسكريًا معها في
سوريا، كما أنها تخشى في الوقت ذاته من ترك الساحة بالكامل لأنقرة التي تُعتبر
حليفًا رئيسيًا للنظام السوري الجديد،
وهذا الوضع يجعل تل أبيب في موقف "الإمساك بالعصا من المنتصف"، إذ تسعى للتوسع
وتنفيذ مشاريعها دون الدخول في صدام مباشر مع قوى إقليمية قوية مثل تركيا.
ولعل أحد أبرز الأدلة على هذا التوجه ما ذكرته صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية
عندما كشفت عن أن مقاتلات تركية نفذت طلعات في منطقة عمل طائرات إسرائيلية أثناء
الغارة التي شنتها مؤخرًا قرب القصر الرئاسي بدمشق، فأرسلت حينها المقاتلات التركية
إشارات تحذيرية للطائرات الإسرائيلية؛ ما سمح للجانبين بتجنب المواجهة.
كلمة أخيرة
سارعت تركيا للرد على ما يُحاك تجاه سوريا عبر عدة مؤسسات في وقت واحد ممثلة في
وزارة الدفاع ووزارة الخارجية بجانب تصريحات الرئيس التركي على هذه التطورات
المتسارعة، وهو ما يؤكد مراقبتها للمشهد عن كثب ويشير إلى أنها لن تترك مخططات
التقسيم في سوريا تجري كما يُراد لها، وأنها ترسل رسائل مباشرة بذلك لكل من يعنيه
الأمر، وتؤكد مجددًا للإدارة السورية على الوقوف بجانبها حتى تجاوز هذه المحاولات
التي لم تتوقف منذ سقوط نظام الأسد البائد، خاصة في ظل محاولة إسرائيل إضعاف سلطة
الحكومة السورية وإرباكها بملفات حساسة، منها اختبار القدرة على التعامل مع الفوضى
في الوقت الذي يرصد فيها العالم مراعاة حقوق الإنسان وحماية الأقليات.
وتعتقد تل أبيب أنها كلما زادت الضغط على الحكومة السورية سوف تكون قادرة على فرض
شروط أو مكاسب إضافية على طاولة المفاوضات، وهي في حقيقة الأمر لا تجني سوى تأخير
استحقاق التفاوض الذي سترعاه الولايات المتحدة في وقت ما، وفي السياق العام للمشهد
فإن القيادة السياسية في سوريا غالبًا ما تتجاوز الاختبارات وتخرج منها بمكاسب
مختلفة، ولعل من أهمها إعادة تشكيل تماسكها الداخلي وكشف خصومها والمناوئين لها،
وكما يُقال: "إن الضربة التي لا تقضي عليك أو تكسر ظهرك، حتمًا ستزيد من قوتك".