تنظر الولايات المتحدة إلى إيران بحجمها الإستراتيجي في المنظور الأمريكي كدولة موجودة على الخارطة، وقوة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال؛ ولذلك فإن الولايات المتحدة يمكن أن تغض النظر عن مستوى معين في البرنامج النووي الإيراني، وليس كما يريد الكيان بتفكيك البر
علامات فارقة حدثت في الأيام الأخيرة تدل على اتجاه جديد في العلاقات الأمريكية
الإيرانية في الفترة المقبلة.
العلامة الأولى حدثت منذ عدة أيام، عندما أطاح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
بمستشاره للأمن القومي مايك والتز.
ومن المعلوم أن مجلس الأمن القومي هو الهيئة الرئيسية التي يستخدمها الرؤساء في
الولايات المتحدة لتنسيق الاستراتيجية الأمنية، وغالبًا ما يتخذ موظفوه القرارات
الرئيسية المتعلقة بالاستراتيجية الأمريكية تجاه أكثر الصراعات احتدامًا في العالم.
وفي الولايات المتحدة يؤدي مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض دورًا مهمًا في
تحديد السياسة الخارجية، إلى جانب وزير الخارجية.
في بداية عزل "والتز"، ربطت وسائل الإعلام بين عزل "والتز" وبتعرضه لانتقادات داخل
البيت الأبيض عندما تورط في فضيحة في مارس 2025 تتعلق بمحادثة عبر تطبيق سيغنال
للرسائل المشفرة بين كبار معاوني ترامب للأمن القومي. ووُجهت الانتقادات إلى والتز
لأنه أضاف عن طريق الخطأ رئيس تحرير ذي أتلانتيك إلى مجموعة خاصة على تطبيق سيغنال
التجاري تضم مسؤولين أمريكيين كبارا بمشاركة وزير الدفاع بيت هيغسيث يناقشون تفاصيل
حملة قصف وشيكة على الحوثيين في اليمن.
ولكن تلك الواقعة مر عليها شهران، ولم يتم اتخاذ أي إجراء معه، كما أن شريكه في
تسريب الخطط العسكرية للحملة الأمريكية على الحوثيين، وزير الدفاع بيت هيغسيث لم
يتم إقالته هو أيضا، فلابد من سبب آخر غير تلك الفضيحة أدى إلى إقالة المسئول عن
أحد أهم مناصب الإدارة الأمريكية.
ولكن بعد الإقالة بعدة أيام كشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، نقلاً عن مسؤولين،
أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإقالة مستشاره للأمن القومي مايك والتز، جاء
بعد أن سبق ونسق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل لقائه مع ترامب،
بشأن الخيارات العسكرية ضد إيران.
وأضافت الصحيفة أن
ترامب شعر بالغضب عندما بدا أن والتز يتفق في الرأي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو خلال زيارته للبيت الأبيض، بأنه حان الوقت لتوجيه ضربة لإيران، وأن
بعض مسؤولي إدارة ترامب اعتبروا والتز يحاول ترجيح كفة العمل العسكري.
ولكن أخطر ما في الموضوع ما نقلته الصحيفة عن مصادر أن والتز نسق مع نتنياهو قبل
لقائه مع ترامب، بشأن الخيارات العسكرية ضد إيران، وأنه كان يريد توجيه السياسة
الأمريكية، فيما يتعلق بالمفاوضات مع إيران في مسار مخالف لرغبة ترامب.
وأضافت الصحيفة أن مستشار الأمن القومي كان على خلاف مع كبار المسؤولين في إدارة
ترامب فيما يتعلق بالقيام بعمل عسكري ضد إيران.
|
فتاريخ العلاقات الإيرانية الأمريكية لا يوحي بذلك التنافر الظاهر في
الإعلام. نعم! إن تبادل الاتهامات والحملات الإعلامية كانت هي السمة
البارزة في العلاقات بين الطرفين، ولكن متى كانت السياسة هي العلاقات
الظاهرية |
ورغم مسارعة مكتب رئيس وزراء الكيان الصهيوني لنفي خبر تنسيق نتانياهو مع والتز
لضرب إيران من خلف ظهر ترامب، إلا أن بيان مكتب نتانياهو يثبت في هذا السياق أن
رئيس الوزراء عقد اجتماعاً ودياً مع والتز، قبل اجتماع نتنياهو مع الرئيس الأميركي
دونالد ترامب في البيت الأبيض.
ثم جاءت العلامة الثانية الفارقة وهي إعلان ترامب وقف قصف جماعة الحوثي وهي إحدى
أذرع إيران في المنطقة، أي أن ترامب قد أوقف الحرب حتى بدون أن يهتم بإبلاغ الكيان
الصهيوني مسبقًا كما قال موقع أكسيوس نقلا عن مسئول صهيوني في الكيان كبير، أي أن
نتانياهو شاهد مثل ملايين المشاهدين حول العالم ترامب وهو يلقي قنبلته بوقف حربه
على الحوثي، الذي لا يزال يرسل صواريخه الاستعراضية لقلب الكيان الصهيوني.
مع العلم أن هناك جولات من المفاوضات تجري الآن بين أمريكا وإيران بخصوص البرنامج
النووي الإيراني.
فتلك المباحثات، ومن بعدها الإقالة، ثم وقف ضرب الحوثي، هذه الإشارات الثلاثة سلطت
الضوء على العلاقات الأمريكية الإيرانية، ودفعت إلى التساؤل لماذا هذا الحرص
الأمريكي على تلك العلاقات وجعلها أقل توترًا؟
ولكي نجيب على هذا السؤال يلزمنا معرفة تاريخ تلك العلاقة وأبرز المحطات فيها، ومن
ثم استنباط خصائص تلك العلاقة وانعكاساتها على وضع المنطقة الحالي.
خصائص العلاقات الأمريكية الإيرانية
في بداية ما يُعرف بالثورة الإيرانية عام 1979، امتلأ الخطاب الإيراني السياسي
الرسمي بوصف الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر، وكثيرا ما كان النظام يحشد وقتها
مظاهرات في شوارع المدن الإيرانية منددة بممارسات العنجهية الأمريكية في بلاد
المسلمين، ولكن قليلاً من الناس من كان يدرك طبيعة العلاقات الخفية بين الثورة
الخمينية منذ قيامها وبين الولايات المتحدة، وأنه لولا الدعم الأمريكي لها ما كانت
أن تنجح وأن تصل إلى حكم إيران، والذي يريد التفصيل فليرجع إلى كتاب (رهينة خميني..
الثورة الإيرانية والمخابرات الأمريكية البريطانية) حيث لا يمكن فهم العلاقات
الإيرانية الأمريكية في الخمسة والعشرين سنة الأخيرة إلا بقراءة هذا الكتاب الذي
ألفه روبرت كارمن درايفوس، وهو باحث فرنسي متخصص في الشئون الاستخباراتية، شغل في
أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات مدير قسم الشرق الأوسط في مجلة انتلجنس ريفيو،
هذا الكتاب الذي تم تأليفه وطبعه في عام 1980، ونسخه المتداولة قليلة جدا، ولا ندري
لماذا لم يطبع مرة أخرى بعد ترجمته في أوائل الثمانينات.
وبعد استعراض الأدلة الكثيرة، يخلص الكتاب إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق
كارتر، قد قامت بتعمد هادئ وتدبير مسبق خبيث على حد وصف المؤلف لمساعدة الحركة التي
نظمت الإطاحة بشاه إيران، واشتركت إدارة كارتر في كل خطوة ابتداءً من الاستعدادات
الدعائية إلى تجهيز الأسلحة والذخيرة، ومن الصفقات التي تمت خلف الكواليس مع الخونة
في جيش الشاه، إلى الإنذار النهائي الذي أُعطِيَ للزعيم المهزوم في يناير 1979م
لمغادرة إيران. ويمثل هذا فصلاً آخر من فصول الخيانة التي مارستها الدوائر الحاكمة
في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، على حد تعبير الخبير الفرنسي.
فتاريخ العلاقات الإيرانية الأمريكية لا يوحي بذلك التنافر الظاهر في الإعلام. نعم!
إن تبادل الاتهامات والحملات الإعلامية كانت هي السمة البارزة في العلاقات بين
الطرفين، ولكن متى كانت السياسة هي العلاقات الظاهرية،
وخاصة في منطقتنا؟
فالبلدان ظلا يتمتعان بعلاقات تحالف وتوافق مصالح وتنسيق سري جرى منذ أيام الشاه،
وامتد إلى ما بعد سقوطه، مرورًا بفضيحة الكونترا، والتي
أمدت فيها إسرائيل وأمريكا إيران بالسلاح في حربها مع العراق،
حتى الوصول إلى التحالف الإيراني الأمريكي لإسقاط طالبان ومن بعده نظام صدام، والذي
تباهى به نائب الرئيس الإيراني حينها علي أبطحي، وقال بالحرف لولا طهران ما سقطت
بغداد وكابول.
وتعتقد دراسة نشرتها دورية فورين أفير عام 2007، أن إشراك إيران في الوقت الذي يتم
فيه تنظيم قوتها الصاعدة ضمن ترتيب أمني إقليمي شامل هو الطريقة الأفضل لاستقرار
المنطقة، وتهدئة حلفاء الولايات المتحدة العرب، ومساعدة عملية السلام
العربية الإسرائيلية، وإعطاء توجه جديد للمفاوضات حول برنامج إيران النووي، فهذه
المقاربة من وجهة نظر فورين أفير هي الأكثر قابلية للثبات والاستمرار والإستراتيجية
الأقل كلفة بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
والذي لاحظ ما جرى في عهد بايدن، وما بدأ ترامب فيه، يرى أن تلك الخطوات تطبق
بحذافيرها.
فأمريكا تحتاج إيران بإبعادها عن التحالف مع الصين وروسيا، والتي تحاول أمريكا الحد
من قوتهما والحيلولة دون منافستها في تصدر قيادة العالم.
أمريكا والبرنامج النووي الايراني
تنظر الولايات المتحدة إلى إيران بحجمها الإستراتيجي في المنظور الأمريكي كدولة
موجودة على الخارطة، وقوة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال؛ ولذلك فإن الولايات
المتحدة يمكن أن تغض النظر عن مستوى معين في البرنامج النووي الإيراني، وليس كما
يريد الكيان بتفكيك البرنامج، وذلك من عدة منطلقات:
أولاً:
أن القوة الإيرانية لم تكن في يوم من الأيام خصما من الرصيد الإستراتيجي الأمريكي،
بل كانت دائماً تعزيزاً له وتكريساً لوجوده.
ثانياً:
أن المعلومات التي تم تسريبها في بعض وسائل الاعلام، تدل على أن أمريكا نفسها ساهمت
بشكلٍ ما في البرنامج النووي الإيراني؛ فقد تحدث كتاب لمراسل صحيفة نيويورك تايمز
الأمريكية لشؤون المخابرات جيمس رايسن بعنوان:
(الحرب على الإرهاب:
التاريخ السري للسي آي إي وإدارة بوش)،
على
أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ربما ساعدت إيران في تصميم قنبلة نووية من
خلال محاولة فاشلة لتسريب معلومات سرية مضللة تتعلق بتصميم قنبلة نووية إلى إيران،
ولكن من السذاجة بمكان، تصور أن وكالة المخابرات الأمريكية بهذه الغفلة بحيث تمد
إيران بمعلومات مغلوطة عن السلاح النووي، أو أنها تكشف عميلاً لها للمخابرات
الإيرانية.
ثالثا:
الولايات المتحدة تعلم حجم القوة الإيرانية، وأن الضربات الإسرائيلية والتي تم
توجيهها إلى العمق الإيراني بعد الطوفان، سواء الضربات الجوية واغتيال الرئيس
الإيراني، تثبت أن إيران ليست بالقوة المخيفة، وأنها أوشكت على فقد كامل أذرعها في
المنطقة، سواء انهيار نظام بشار، ولجم حزب الله بعد انسحابه من الجنوب اللبناني،
وتقييد قوات الحشد الشعبي العراقي، وقصف قدرات الحوثي العسكرية، كل ذلك أثر على
قدرات إيران.
ولم يتبق لها في أوراقها إلا البرنامج النووي، فينبغي التفاوض بشأنه، وعدم الالتفات
إلى المطالب الصهيونية بتفكيكه، بل تقييده بالمجالات السلمية، ومراقبته بمنظومة
دولية فعالة.
وبذلك تعود إيران إلى خدمة المصالح الأمريكية في المنطقة، بعيدة عن طموحاتها كقوة
امبراطورية أو إقليمية تهدد تلك المصالح.